هذا المقال مساهمة في الجهد الذي ما انفك يقدمه المفكر العربي برهان غليون حول قضايا المجتمعات العربية، في صلتها بما يجري في العالم. فقد كان ولا يزال المثقف الحي والشاهد على مرحلة عربية وهي تتوارى، وأخرى وهي تتلكأ في الظهور، ليعبَرِّ في نهاية التحليل، عن أزمة ليس الثقافة العربية وحسب، بل أزمة المثقف. عنوان هذا المقال يَسْتَوحي عنوان ومضمون كتابه الأخير الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات هذه السنة، ونتناول فيه مصير المثقف والمفكر مع ما يمكن أن يستدرج من « سؤال المصير، قرنان من صراع العرب من أجل السيادة والحرية». فالأمر يتعلق هنا بالكاتب وفكرة الكتاب التي تعد عصارة جهده الفكري ومجمل أعماله ونضالاته السياسية. فقد وصل المؤلف فعلا إلى حالة من تقرير مصيره واحتمال تبرير تجربته الشخصية على الأجيال الجديدة، التي طالما نوه بها وكانت حاضرة في وعيه وهو يكتب، كما وهو يناضل. تجربة تاريخ من العطاء والنضال من خارج السلطة، هي قدر كل المثقفين العرب الذين تطلعوا إلى الحرية والسيادة، بل الإشكالية الكبيرة التي حددت المثقف هي القدرة على التواصل مع مسألتي الحرية والسيادة. هل كان الرصيد الذي استقر في وعاء التاريخ العربي غير مجد ولا طائل منه، وغير صالح أصلا لبناء مجتمع متقدم ودولة مكتملة ومكتفية بذاتها، لا تقبل التمليك ولا الاستئثار. هذا ما لم يتم، على رأي برهان غليون، الذي تعد تجربته في مجلس وطني معارض خاض به ثورة الربيع العربي في سوريا، تجربة خائبة، تندرج في سجل الهزائم العربية الحديثة والمعاصرة، أي مثلها مثل مشاريع التنمية والتطور والنهضة والتقدم… التي جاءت كلها على غير ما كان يرجى منها زمن الاستعمار وما بعده. لكن هل هذا الطرح صحيح، ويمكن أن نلتقي عنده بالتأييد والموافقة؟ أم أن الأمر يتعلق بتجربة رأي ومصير مفكر تغلبت عليه الفكرة الذاتية أكثر من الموضوعية والواقعية.
الفكر العربي لا يمكنه أن يشغل الواقع كله، ما لم تؤازره الحرية والديمقراطية وحالة من الاطمئنان إلى العدالة والمعاملة المعقولة والتفاهم المشترك
ومن هنا سؤال هذا المقال « السؤال المصيري»، أي ما يحكم المفكر برهان ذاته، وليس بالضرورة توصيف وتحليل للحالة العربية، التي وصفها في كتاب متقدم بـ»المحنة العربية: الدولة ضد الأمة» (1992). السؤال المصيري هو مصير الكاتب والمناضل والمعارض برهان غليون، الذي لم تسعفه القومية العربية ولا النزعة الوطنية، ولم تكن له رغبة في وصول الحركات الإسلامية إلى إدارة الدول / الأمم في العالم العربي. فمنذ أن صدر «بيانه من أجل الديمقراطية» (1976) وهو يناضل من أجل المفهوم ويرنو إلى أن يجده يوما قد استقر في صلب مؤسسات الدولة العربية الحديثة والمعاصرة.. لكن الديمقراطية والحرية والعدالة ومفاهيم العلوم السياسية وتجارب الحكم الديمقراطي وجدها في الغرب، وبالضبط في فرنسا، مرتع حقوق الإنسان والمواطن والنظام الجمهوري في كل أطواره، وقد عاصر حقبة الجمهورية الفرنسية الخامسة عن كثب، ومن وحيها وسياقها ومفرداتها تمكن من نقد التجربة العربية والبحث عن أفضل الصيغ السياسية للحكم والسيادة وتوزيع الوعي بالحرية. وهنا النقطة الأولى في السؤال المصيري الذي يجب أن يطرحه المثقفون والمفكرون على أنفسهم، ما إذا يمكن أن نكتفي بالفضاء العربي وتاريخ الدولة العربية والمصير العربي؟ أم أن الأمر، حتى نحقق ونقرر مصيرنا كما يجب، هو ضرورة الاستناد الدائم على الغرب كجزء من الشرق، الذي يعد كل واحد منهما مكتفيا بذاته، على ما تطورت إليه المراحل الأخيرة في كل من الشرق والغرب. العرب يحتاجون إلى من يفهم أوضاعهم التي تتطلب فقط إعادة ترتيب وتنظيم مع الغرب وليس ضده، لأن التخلف مهما قيل عنه لا يمكن أن يعزى إطلاقا إلى الغرب، فقد حدث ووقع التخلف في المجال العربي بكل ما ينطوي عليه من حمولة التاريخ والتراث والعقل، ونمط العيش، وفكرة المال ونوعية الأعمال، مع آخر إنجازات الحضارات والمدنيات الحديثة والمعاصرة التي وجدت في بعض البلاد العربية، ولم يحسن تعميمها بسبب المنافس العربي لها والمزاحم القريب والشقيق. فالذين وصلوا إلى الحكم، امتلكوا السيادة وقبضوا بيد من حديد على زمام السلطة، وصارت من ذمتهم المالية بعد ما تبين أنها حبلى بريوع سهلة التحصيل ولا تنفد، وأفضل سبيل إلى دوامها هو عدم مزاحمتهم في الاستفادة وتعاون ومساعدة الغرب لهم. وهنا، مرة أخرى توكيد على السؤال المصيري، الذي انتهي إليه برهان غليون: إمكانية التفكير السليم هو مع الغرب وليس ضده، ويجب تعميم التجربة والخبرة على كل الجماهير وليس النخبة وحدها، لأن العبرة وكل العبرة هو بالتفوق والفوز والظفر بالنجاحات، على ما يصنع الرياضيون في الملاعب العالمية، فهم فاعلون نافعون وأفضل بما لا يقاس من رجال «السياسة»، وصنيعتهم من الموظفين الطيعين والانتهازيين والطفيليين، الضامنين لعمليات النهب والسطو والانتهاكات «الشرعية» والجرائم الرسمية. لم يقتصر برهان غليون على بحث مسألة التخلف والتقدم من منطلق عربي، ومن فضاء ومجال عربي، بل غربي أيضا وليس من خلفية القطر السوري بلده الأصلي وحسب، بل على خلفية بلده الآخر فرنسا الذي استوفت له الهوية المعاصرة وبها أكتمل عنده الفكر في تجلياته ومحدداته كافة. وبتعبير يفيد الفهم أن الفكر العربي لا يمكنه أن يشغل الواقع كله، ما لم تؤازره الحرية والديمقراطية وحالة من الاطمئنان إلى العدالة والمعاملة المعقولة والتفاهم المشترك، أي كل ما توفره المجتمعات الغربية الآيلة دائما إلى التحوّل والتغير. وعليه، أو هكذا يجب أن يتم الأمر في حالة المفكر برهان غليون وقبل الإنصاف الأخير، أن يجيب على سؤاله المصيري: هل يمكن أن يعود إلى سوريا ومواصلة العيش فيها؟ الجواب المصيري الذي قدمه المفكر المصري ناصر حامد أبوزيد قبل وفاته عام 2010، هو أنه لا يرى فائدة في العودة إلى مصر بعد طول مكوثه وعيشه في هولندا، التي وفرت له الأبعاد والجوانب الناقصة في مصر، ومن ثم اكتملت هويته ولم يعد يشعر لا بالغربة ولا بالاغتراب، وأنه يخاطب ويتواصل مع مصر والعرب والعالم في لحظة واحدة، لحظة مفعمة بكل التاريخ المعاصر وإنجازاته الرائعة التي يجب أن لا يحرم منها كل سكان الأرض بما في ذلك العرب.
كاتب وأكاديمي جزائري