بروين شو

حجم الخط
2

كنت طفلة خجولة حد الانطواء، وتلميذة ينزُّ عقلها هم التفوق، ومع هذا كنت أحب إلقاء الشعر، والوقوف على المسرح، وهذا وفق كل محيطي لا يتوافق مع طبعي. فالمسرح يتطلب حب الظهور والجرأة والمواجهة. لكن من كان يعرف أن الوقوف على المسرح يعني ترك شخصيتي الحقيقية في مخبئها المعهود، ومواجهة الجمهور بشخصية أخرى ليست أنا؟
هل هذا هو سر التمثيل؟
قد يكون كذلك بالنسبة للبعض، وقد يكون غير ذلك بالنسبة لكثيرين، لكنّ المسرح في النهاية يُخرج جانبا آخر من شخصيتنا لا نقوى على استخدامه، ويجعلنا نوظفه بشكل صحيح. المسرح أبو الفنون كلها كما نعلم، وهو لا يحتاج في البداية سوى إلى الموهبة، وإلى إصرار لصقلها. هكذا ومنذ نعومة أظفاري إذن مشيت في هذه الطريق، التي رأيت فيها سعادتي. ولم أكن أعرف حينها أنها طريق شائكة تتطلب الكثير من القتال، للبقاء واقفة وسط المنتجات الإعلامية التي تدغدغ الغرائز وشهوات لا حصر لها. الآن أعيد قراءة بداياتي فأرى ضخامة التحدي، في أن أؤسس لبرنامج ثقافي مبني كله على أهل الأدب والشعر والموسيقى، منساقة خلف أحلامي الرومانسية وانبهاري المبكر بروائيين بحجم حنا مينا، ومفكرين بحجم أدونيس، وشعراء غنائيين بحجم طلال حيدر، وقائمة طويلة جدا من الوجوه الأدبية والفنية من كل أصقاع العالم العربي.
استخدمت حواسي الثقافية ـ إن صحت تسميتها كذلك – وأنجزت ما يجب إنجازه، فعلت ذلك مؤجلة الكلام عن بعض صدماتي الناتجة عن اقترابي من تلك الرموز والأيقونات والأسماء الكبيرة، وإدراكي لشساعة الفروقات بين الشخص وإنتاجه وتنظيراته. اليوم وأنا أعيد تقييم ما قدمته سأجدني متصالحة أكثر مع الطبائع البشرية لنجوم الرواية والشعر والمسرح والدراما والسينما، فلكل شخص نقاط ضعف، تماما مثلما لديه نقاط قوة، ولديه وجه يراه الجمهور الواسع حين يعتلي المسرح، ووجه آخر يراه المقربون منه في الكواليس، وربما له وجه آخر ثالث لا أحد يعرفه سواه، وقد يعرفه استثناءً محيط جد ضيق قد لا يتجاوز الصديق الواحد أو الصديقين.
إن الحياة تحبك الأحداث، والبشر يتصرفون وفق معطياتها، ويبدو أن مقياس النجاح الحقيقي ليس ذلك الذي تراه الجماهير ومتابعو المشاهير، بل ما يراه الشخص نفسه من خلال منجزه. وإن كان بريق حب الظهور أقوى من أي مشروع ذي محتوى ثقافي أو إنساني فإن سلّم التفاهة هو المسيطر اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي، فهل نسقط جميعا فيه؟
التفكير في برنامج خفيف لا يخلو من محتوى ثقافي، كان هدفي لمواجهة تسونامي التفاهة، مع طرح عدة أفكار عبر بعض التطبيقات التي اكتسحت المشهد، وأصبحت حديث الناس في كل العالم.. أي نعم كنت متخوفة من طرق باب «التك توك» مثلا، التطبيق الأكثر جاذبية في العالم، كوني محسوبة على الفئة الجادة من الإعلاميين، إلا أن جيناتي التي ما زالت تحتفظ بالمواهب القديمة المتشوقة لإحيائها، فرضت نفسها عليّ، وقد فكرت مع فريق الإنتاج الذي كان مشجعا في الترويج لبرامجي الجديدة عبر التطبيقات التي رأيت فيها وسائل لكسب جمهور جديد، دون خسران جمهوري الذي تعود على بروين الرصينة الجادة. لقد تغيرت شروط العمل التلفزيوني وأصبح من الضروري أن أعطي أهمية للعبة «الريتينغ» وهذا بالضبط ما ولّد فكرة برنامج «بروين شو» الذي جمعت فيه بين «الطرب والتجارب والثيمات المختلفة» في تناغم كبير عبر تنوع مادته الحوارية، التي لامست أعماق ضيوفي تماما، كما لامست جمهوري، وقد اخترتهم مع فريق العمل بدقة حسب موضوع كل حلقة، بين نجوم الأمس، ونجوم اليوم، ونجوم المستقبل إذ ليس شرطا اليوم أن يكون النجم من الصف الأول ليحقق «ريتينغ» عاليا، اكتشفت أن تقنية الحوار وإخراج خبايا ضيفي هي التقنية الأنجح دائما لوضع أي شخص تحت الأضواء وجعله نجما.
بعد عقدين من احتراف البرامج الثقافية بدءا بـ»شظايا الإبداع» و»صواري» ثم «وجوه» إلى «نلتقي مع بروين» الذي استمر فترة طويلة، ها أنا أجد بابا يفتح على قضايا اجتماعية وأنماط ثقافية أخرى تكسر روتين القوالب المألوفة. فالثقافة هي كل ما يصنع بصمة مجتمع ويميزه عن آخر، لهذا استحدثت فقرات عن التنمية البشرية وعن الطبخ، وعن طبلة الست، وأمور أخرى هي من صميم ثقافتنا.
ربما بالغ المثقف بتقديم نفسه كشخص مترفع عن العامة، فهو يكتب عن مواجعهم، لكنه لا يختلط بهم، يستغلهم في عرض أفكاره عبر المقال، أو القصة، أو الرواية، أو المسرح، لكنه ليس جزءا منهم، هو الراوي العارف المتلصص على حيواتهم، المراقب لهم، لكنه ليس واحدا منهم. في «بروين شو» نذكّر الناس بأن المثقف لا يعيش في قبته المعزولة عنهم، إنه جزء لا يتجزأ منهم، هو الشبيه لهم في معاناته وخيباته وأفراحه وآلامه، وهو المختلف فقط في موهبته، هو الذي يرسم الوردة قبل أن تذبل فيجعلها خالدة، وهو الذي يكتب عن الدمعة أغنية فتصبح طربا، فيأسرنا بجماليات تخفف من أشكال الوجع الذي ينتابنا بين حين وآخر.

كان عام 2019 نهاية لبرنامجي «نلتقي…» لكنه أيضا كان مخاضا وبداية لمرحلة جديدة في حياتي المهنية، وآفاقا كبرى لم أكن لأراها لولا كل هذه التحولات التي حدثت في العمل الإعلامي، والتي أخذتُ منها كل العناصر الإيجابية التي ألهمتني دون أن اهتم بالسلبيات، التي قد ترفع أي «مؤثر» مؤقتا ثم تهوي به نحو القاع.

لمواجهة سطوة السوشيال ميديا بكل ما تعج به من وجوه، أنجزت أيضا برنامج «الملهم» في شكل كبسولة أدبية، «بونبوناية» على رأي المصريين، يختصر في عشر دقائق أهم المحطات من حياة شخصية ألهمت البشرية، وهو مبني على إعادة قراءة مؤثري الزمن الماضي، لاعتقادي أن لكل عصر مؤثريه مثل كوكو شانيل، ووالت ديزني، وآخرين. وقد أخرجت من هذا الماضي الكثير من الحكايات التي ظلت مخبأة في أرشيف الكتب والصحافة الورقية القديمة، وكانت متعة إنجاز هذا البرنامج لا مثيل لها منذ بدأت بالتحضيرات له من مرحلة البحث، إلى اللحظة التي أصبح فيها جاهزا للعرض، إلى الاحتكاك بفريق محترف، مع الشركة المنتجة «إن فوكس فيلم» للمخرج والمنتج الفني مشهور أبو الفتوح، الذي عرف مع فريقه كيف يبث الحياة في كل شخصية ملهمة قدمتها، مانحا لي فرصة لإبراز الجانب الشاعري من شخصيتي تماما كما تمنيت دائما. متابع «الملهم» سيدرك أن العدسة السينمائية للمخرج هشام عبد الرسول جعلت مدخل كل حلقة «كليب» لقصيدة، والصراحة تقال كان اختياري للقاهرة فضاء لانطلاقتي الجديدة خيارا موفقا، كونه كان ولا يزال فضاء ملهما لي، هذا غير كم الحنين الذي أكنه لها منذ أيام دراساتي العليا فيها.

هل اعتبر هذه السنة سنة تحولات كبرى في حياتي؟ نعم هي كذلك، ولم يتوقف الأمر عند «الملهم» و»بروين شو» بل تجاوزته لأداء أول دور تمثيلي لي في فيلم قصير بعنوان «الوهم الأخضر» من تأليفي وبطولتي، وهو يندرج تحت «سينما المرأة» مدته 15 دقيقة سنشارك به في المهرجانات.
إن الدافع هنا ليس الحديث عن نفسي لمجرد الإخبار، بل لإبراز نقطة التحول الكبرى في حياتي كشهادة عن تجربة حية لمواجهة سطوة السوشيال ميديا. لقد أحالت هذه السطوة وجوها إعلامية كبيرة إلى التقاعد المبكر، رغم خبرتها وشعبيتها، وهذا غير مقبول سواء على الصعيد المهني أو الأخلاقي، إذ لا يمكن مقارنة شعبية إعلامي جاد بشعبية مراهق مهرج على السوشيال ميديا، ومطالبته بتقليده، ويبدو لي أن إخفاق أغلب هذه المواقع والتطبيقات، سيحدث من باب الملل منها وتشابه ما تقدمه من تهريج، وحتما لن يبقى في الواجهة من خلالها غير أولئك الذين عرفوا كيف يطورون أنفسهم، دون أن يتنازلوا عن أصالتهم وثقلهم الإعلامي الذي اكتسبوه مع التجربة.
كان عام 2019 نهاية لبرنامجي «نلتقي…» لكنه أيضا كان مخاضا وبداية لمرحلة جديدة في حياتي المهنية، وآفاقا كبرى لم أكن لأراها لولا كل هذه التحولات التي حدثت في العمل الإعلامي، والتي أخذتُ منها كل العناصر الإيجابية التي ألهمتني دون أن اهتم بالسلبيات، التي قد ترفع أي «مؤثر» مؤقتا ثم تهوي به نحو القاع.

شاعرة وإعلامية من البحرين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    أنا أريد تسويق مشروع صالح (التايواني)، في الوصول إلى زيادة الإيرادات للجميع الإنسان والأسرة والشركة المنتجة للمنتجات الإنسانية من خلال بيعها في سوق صالح (الحلال)، في دائرة البريد، التابعة لوزارة الاتصالات في أي دولة من دولنا،

    لها رغبة في منافسة منتجات سوق (علي بابا) التي تمثل حكمة الصين، أو منافسة منتجات سوق (أمازون) التي تمثل فلسفة الولايات المتحدة الأمريكية.??
    ??????

  2. يقول سيف كرار... السودان:

    مرحبا بالوهم الأخضر… ?وليس??….

إشترك في قائمتنا البريدية