بعد أيام من غزو صدام حسين لدولة الكويت، أرسل ميخائيل غورباتشوف رسالة إلى الرئيس العراقي يعلمه فيها في حالة عدم انسحاب القوات خلال 24 ساعة فإن معاهدة الصداقة والتعاون بين البلدين تعتبر لاغية.
وظهر صدام في تلك الليلة على الشاشة البيضاء، وقال متهكما “الرئيس الروسي يريد مني جواباً خلال يوم واحد. ولكن رسالتك أيها الرئيس لا تصلني عبر البريد إلا بعد شهر، أو أكثر”.
لم يتمكن صدام في تلك الساعة من الاحتفاظ بسيماء التهكم طوال الوقت، وبانت عليه بدلاً من ذلك إمارات الغطرسة والضجر. لكن جوّ النكتة الذي أشاعه وهو يظهر في التلفزيون حاول أن يضع بواسطته حدّاً للمرارة التي سكنت قلبه منذ أيام الغزو الأولى، فلم يؤيده في هذه الخطوة العالية والواسعة غير دولتين هما موريتانيا وبوركينوفاسو.
معاهدة صداقة
ظهر برفقة الرئيس على الشاشة في ذلك اليوم التاريخي وزيرا الدفاع والخارجية، وظلّا يبتسمان في كل لقطة من الشريط الإخباريّ، الذي بثّه تلفزيون العراق، وربما أخذ الاثنان تلك الابتسامة الشاحبة معهما وهما يغادران مكان الاجتماع مع الرئيس، وبقيت تسكن وجهيهما أياماً عديدة، أو أسابيع. بين بغداد والاتحاد السوفييتي معاهدة صداقة منذ 1972 نصّت على «أن الطرفين ستبقى بينهما صداقة دائمة لا تنفصم عُراها». رسالة غورباتشوف إذن واضحة. لا وجود للمعاهدة مع بقاء الجيش العراقي على أرض الكويت.
تنزلق سمعة الرئيس ـ أو أي سياسيّ ـ في بلداننا من الوطنية إلى العمالة بسهولة، وينقسم الجمهور تبعاً لهذا الانزلاق إلى فريقين، مع الرئيس أو ضدّه. في العراق كانت الأغلبية من الشعب والحكومة غير راضية عن الغزو، بمن فيهما وزير الدفاع، ووزير الخارجية، اللذان ظلّا يكابدان في أثناء اللقاء كالإسفنجة المكرهة على التحمل، لأنها ليس بمقدورها أن تمتلئ أكثر. سلطان هاشم لم يكن على علم بتورط جيشه في هذه المغامرة، ولم يبقّ لطارق عزيز غير دولتين في العالم يتباحث معهما في هذا الشأن الخطير، وكان يرى من خلف نظارته السميكة الكرة الأرضية تدور، وقد أُطفئت أنوار جميع عواصم الكون، عدا واغادوغو ونواكشوط.
ظهرت النشرة الأولى من الأخبار في الثامنة مساء، وفي العاشرة أعاد تلفزيون العراق بجميع قنواته بثّ الخبر، وكان الرئيس يجلس على الأريكة في بيته، يراقب صورته تتحرك على الشاشة. بدا في تلك اللحظة متوفزاً، لكنه أطلق ضحكة عريضة متأثراً من سخريته من الرئيس الأصلع ذي الوحمة السائلة على وجنته. ربما كانت هذه سبب نفوره من الرجل، ومن دولته، ومن معسكره. دقيقة، ونسي صدام الأمر برمّته، وأخذ يفتّش في وجهي وزيريه على الشاشة عن أيّ دليل على التفكير بالخيانة، أو عدم الولاء، أو التراخي في تنفيذ الأوامر.
لم ينتبه الرئيس إلى سؤال خبّأه الوزيران كلّ في دخيلته: ما الذي يملأ بريد سيادته مدة شهر، وأكثر، ويشغله عن رئيس مجلس السوفييت الأعلى؟
اطمئنان صدام حسين وهو يسخر من غورباتشوف بهذه الطريقة، يرفع الآن سؤالاً ملحّاً: على من كان يعتمد في وثوقه من عدم المجازفة بالإقدام على هذه الخطوة، والعناد في عدم الانسحاب من الكويت، على الرغم من النصائح التي قدّمها له رؤساء عدّة، معرّضا بلده لمخاطرة دخول الجحيم من أوسع أبوابه؟
منذ تلك الليلة والخطّ البياني للوضع المعيشي في العراق، وعلاقته بما يدور في العالم، في حالة انحدار مطرد. صار البلد يحتل عناوين الصحف، ونشرات الأخبار في العالم بلا شيء غير أعداد القتلى والمعوزين، الذين على استعداد للهجرة، والتبعية إلى دول العالم الثالث بات قولها يشبه إلقاء مزحة غير مستساغة، لأن العدّ الصحيح لمكانة البلاد، ربما تجاوز الرقم العشرين، أو المئة.
منصّات التواصل الاجتماعي
هنالك صورة تتناقلها منصّات التواصل الاجتماعي لأفعى تلتفّ حول جذع يابس وتقبض بفكّيها على سمكة قفزت من النهر إلى الهواء، أيّ صبر عجيب تمتلكه هذه الآفة وهي تنتظر لحظة لا تأتي إلّا عندما تمرّ في النهر سمكةٌ تحبّ القفز العالي في البيئة الأخطر عليها؛ الهواء؟
في يناير/كانون الثاني من 1990 – أي قبل سبعة أشهر فقط من غزو العراق للدولة الجارة – حلّ أكثر من عشرين عضواً من الكونغرس الأمريكي، ضيوفاً في العاصمة بغداد، ومن بين الحوارات التي نشرتها الصحافة، سؤال وجّهه أحدهم إلى الرئيس العراقي عن سبب افتقار بلاده جغرافيا وتاريخياً إلى بوابة يطلّ منها على البحر.
استعمل السائل أقصى ما لديه من براعة لصياغة السؤال، وشعر الرئيس بضيق استطاع أن يبعده عن عيون الضيوف، وأجابه أن ميناء الفاو يقع على أمتار قليلة من البحر، ويمكننا تطويره وجعله فناراً يوصلنا بإطلالة على عالم البحار. الضيق الذي ألمّ بالرئيس أثناء الجلسة، تحوّل في المساء إلى راحة صغيرة لم يجرّبها من قبل. أخذت هذه الكمية من الهواء الإضافي تتسلل إلى صدر الرئيس، وتجعله شيئا فشيئا يتنفس بعمق، ومع ساعات الليل كانت الصورة تتضّح أكثر. الضياء الأول من وقت السحر جاء له بالحلّ، واتّخذ عندها قراره.
قرار غزو دولة
كانت أثمن أيام حياة الرئيس العراقي هي عندما يهجره النوم ويضطرّ عندها أن يفكّر في صياغة أمثل للقوانين المهمة للدولة العراقية، وكانت هذه تُسنّ في ساعة السحر، وتُذاع مباشرة على الهواء. الأمر هذه المرّة لا يتعلّق بقانون يمكن شطبه وتبديله بسهولة، إنما هو قرار غزو دولة الكويت. غادر وفد الكونغرس عائداً، وظهرت مجلة “التضامن” التي يصدرها الصحافي فؤاد مطر، وعلى غلافها الأول صورة صدام حسين واقفا بين أعضاء الكونغرس، مع التعليق: “صدام حسين: رجل العام 1990”.
سؤال: من هم “الغادرون” الذين قصدهم صدام في مستهل خطابه الشهيرعند بدء حرب الخليج الثانية: “غدر الغادرون… وابتدأت المنازلة الكبرى في أم المعارك، بين الحق المنتصر بعون الله، والباطل المندحر لا محالة إن شاء الله؟”.
في التسجيل الصوري للخطاب يظهر صدام وفي عينيه حول طفيف كأنه لم يكن مطمئناً إلى حرف مما قاله، وهنالك تفسير آخر لهذا الحَوَل هو شعوره في تلك اللحظة بنوع من التفهّم لتفاهة العظمة، ولما في النصر من زيف وخواء، لا فرق إن كان سيؤول له في نهاية الأمر، أو للأمريكيين الذين ورّطوه بهذا العمل.
أكرّر السؤال: من هم “الغادرون”؟
ما أستطيع أن أجزم به هو أن هؤلاء ليسوا ممن كان يعيش مع صدام حسين، أو حوله، أو في الجوار. رأى أحدهم سيفا كبيرا معلقا على خصر رجل، فقال له: “منذ عهد بعيد وأنا أراك موثقا إلى هذا السلاح؛ لماذا لا تفكك وثاقك وتحرّر نفسك ما دمت طليق اليدين؟”. قضى صدام حسين حياته وهو شاهر سلاحه، وفي اليوم الذي يعوزه عدوّا ينازله، يرفع بندقيته عندها إلى السماء، ويرمي، ويرمي، وتفوته للأسف الشديد رؤية ظلّه البائس المرتمي بجواره على الأرض.
كاتب عراقي