لا يضير رواية “بريد الليل” الجديدة للروائية اللبنانية هدى بركات، تكهّن القارئ لواقعية بعض شخصياتها وأماكن حركة هذه الشخصيات، حيث لا يحصُر التكهّنُ مهما كان صوابه شخصيات الرواية بحيّز محدود، ولا يمنعها عن الانفتاح إلى المحيط الإنساني الذي حاولت الرواية ناجحةً في أن تفتحه لها. فشخصية الزعيم العسكري الهارب، أو المتفِق على هربه مع رئيسه، لن يحدّه عن وجوده الإنساني، (مكاناً وزماناً، حيث يكرّر العسكر أضاليلهم)، تكهّنُ أنه شقيق حافظ الأسد، رفعت الأسد، الذي لبس ثياب الديمقراطي الواسعة عليه كبلطجي، وفتح مشاريع صحفية تستغل البشر، بأموال بلده المسروقة المهربة في باريس. ولن يحدّ شخصية القاتل الذي ساهمت في صنع وحشيته قسوةُ أبيه في تربيته، ومخابرات بلده التي انتهكت جسده وروحه، من أن يكون أحد جلادي وقتلة النظام السوري الذي هرب مع غرق مركب النظام في بداية الثورة السورية إلى ألمانيا، مدعياً أنه من المعارضة.
ويبدو أن يد الرواية غير بعيدةٍ عن تحريض القارئ على هذا التكهّن، بإشارتها من خلال فصل “موت البوسطجي”، إلى من يقوم بمسخ وقتل وتشريد البشر؛ الطائرات التي لا يملكها سوى النظام السوري وحلفاؤه، وداعش، شريكة النظام غير المنظورة في القتل والتشريد: “صرت موظفاً في مكتب البريد، لا يجول ولا يوزع شيئاً بسبب الحروب والمعارك التي نزلت من السماء أو صعدت من جهنم، لا أحد يفهم كيف أو لماذا داعش، داعش يقولون، وتهرب الخلائق وتموت على الطرقات، أو تختبئ في زرائب الحيوانات. حتى الحيوانات دشرت في الفلاة أو أكلها الناس جيفاً”. “لكن إلى متى سأظل قاعداً هنا، فالحروب التي تتحرك لا خط لها أو سيرة. المنهزم اليوم قد يصبح أكثر شراسة وتدميراً غداً، وهو يكرّ حين يتوقع الواحد أنه يفرّ لأنه ينهزم. كل ما ألتقطه على الراديو من أخبار يبدو قديماً جداً أو هو غير مفيد، إذ تكذّبه أذني التي تتابع ضجيج الانفجارات وأزيز الطائرات في السماء، في حين يقول الراديو أخباراً نقيضة”.
في فتح “بريد الليل” بمشرط المعنى، على الفضاء الإنساني، وإن لم يكن هذا شرطاً لانفتاحات الرواية على هذا الفضاء بصورة عامة، لم تضع هدى بركات أسماء للأمكنة التي تشكل مسارح الأحداث، من مدنٍ وقرى ومطارات، ولم تحدّد أحداثَ روايتها بأزمان. وفعلت هذا لشخصياتها التي لم تحددها كذلك بأسماء ولا بسيرٍ مكتملة، لكنها عمّقت دواخلها باختزال إبداعي إنساني ملحوظ، مع تعميق تفاعل الخارج مع دواخل هذه الشخصيات كي تخرج إلى ما هي عليه. وأضافت التعاطف الخالي من الحكم، مع الشخصية الإنسانية التي تعاني وتطلب التعاطف، في لحظاتِ وقوعِها وضَعفِها، لكنْ من دون تبريرٍ للجريمة التي تكتمل بعدالة عقوبتها، ولم تَدَعْ وجه الشخصية التي تتحدث عن نفسها وحيداً لتحديد صورته، بل أضافت له مرآةً توضح جوانب هذه الشخصية من جهة أعين الآخرين. مع توقّع الكثير مما يضيفه آخرون إلى هذا الحقل.
وفي فتح “بريد الليل” بمشرط شكل الفن الروائي، على التميّز والتجديد، وضعتْ هدى بركات لروايتها بنية بسيطةً تتكون من ثلاثة فصول بعناوين تجسّد حركة محتوى هذه الفصول، على التوالي:
1: خلف النافذة، الفصل الأكبر الذي يحتل أكثر من ثلثيْ الرواية، ويتضمن خمسَ رسائل لشخصيات رجال ونساء تتقاطع مساراتها:
ـــ رجل أول، مهاجر غير شرعي في فرنسا، كاتب ومترجم يعمل بما يسمى الأسود، أي من دون عقد عمل، لدى صحيفة زعيم عسكري سابق، قاتل ولص يَدّعي الديمقراطية، يكتب رسالته الوحيدة في حياته، بفندق، إلى امرأة، هي حبيبته أو عشيقته، إرسالاً واستلاماً.
ـــ امرأةٌ تجد رسالة الرجل في غرفة الفندق الذي تركه، وتكتب رسالةً إلى رجل تتحدث فيها عن تخيّلاتها حول كاتب الرسالة، وتخيّلاتها عن نفسها: “صحيح. أنا دائماً هكذا، أتأرجح بسهولة بين خيالي الخصب، أعني أوهامي، والواقع، أخلط كثيراً بين ما هو وهم وما هو حقيقة، لكن ذلك لا يقلقني، إنه في الحقيقة يسليني كثيراً”.
ـــ رجل ثانٍ يكتب رسالةً إلى أمّه بعد عثوره على رسالة المرأة التي كانت تنتظر رجلاً اتفقت معه على لقاء في الفندق الذي وجدت به رسالة الشاب الأول، وكتبت له رسالة شاهدها الرجل الثالث وهي تلقيها في القمامة، فأخذها وقرأها، وبدأ الكتابة إلى أمّه.
ـــ امرأة ثانية، خادمة ومومس وسارقة في الظاهر، تكتب رسالةً إلى أخيها المسجون بجريمة مخدرات، حول رسالة الرجل الثالث، القاتل الذي أرسل رسالةً إلى أمّه، ووجدتها بين ثنيات مقعد الطائرة المكلفة بتنظيفها كخادمة، بعد أن قبضو عليه وأنزلوه من الطائرة، وكذلك حول أمها، التي ظلمتها وساهمت معاملتُها السيئة لها إلى دفعها لحياة الخدمة والسرقة والدعارة”.
ـــ رجلٌ ثالث، مِثْلي، مشرّد، يكتب رسالةً إلى أبيه، الذي عامله بازدراء ونبذه بسبب مثليته، حول رسالة المرأة الخادمة التي تعمل معه في البار، ووضعتها في خزانته لإخفائها، وشعر أن مسار حياتها تتقاطع مع مسار حياته، وكذلك حول علاقته بأبيه، ومسار حياته بتأثير هذه العلاقة: “هذه الرسالة التي لم تصل، كأنها الصوت الذي لم يسمعه أحد منذ البداية. منذ ولدتْ هذه المرأة ضاعَ صوتُها. شعرتُ، وأنا أقرأ الرسالة، بقرب قدر المرأة من قدري، وبتشابهٍ أيضاً في مساريْ حياتينا. وتساءلتُ، كأنْ معها، عن جدوى أيّ مقاومة إن كانت مرسومةً لنا أقدارُنا منذ اللحظة الأولى لخروج أجسادنا الصغيرة من بطون الأمهات”.
2: في المطار، الفصل الثاني في الرواية، ويكمل الفصل الأول، باختلاف أسلوب سيناريو الرسائل إلى ما يشبه المذكرات أو الاعترافات أو المقابلات الصحفية، لشخصيات تكمل جوانب رسم الشخصيات الخمس لنفسها، إضاءةً، ومخالفةً، وعرضَ حقائقِ ووجهاتِ نظرِ من وُجّهت إليهم أو ارتبطت بهم الرسائل.
3: موت البوسطجي، الفصل الثالث، الذي يختم الرواية ويشير إلى هدفها في عرض تقطع الاتصال والتواصل بين الناس، ليس بفعل التكنولوجيا فحسب، بل أكثر بفعل صناعة الحرب، في سوريا التي يعاني أهلها من القتل والتشريد والتفتيت العائلي.
ولم تنسَ هدى بركات، التي تبدو بارعةً في ذلك، وضع بنيتها هذه تحت العنوان الإبداعي “بريد الليل” الذي يجمع رسائل النفس إلى ذاتها وإلى الذوات التي تعتقد أنها ستريحها من أعباء ما تحمل من عذابات وآثام ورغبات في الخلاص، بالسماع لاعترافاتها، وإن لم تكن هذه الذوات موجودةً لسماع هذه الاعترافات أو لتلقّي هذه الرسائل.
وحيث أن الروائيين المتمرسين مثل هدى بركات لا يكتفون بإمتاع قرائهم من خلال تحريك شخصياتٍ آسرةٍ تلمَس أعماقهم، وتجعلَهم يحسّون أنها هُمْ، أو مَنْ حوْلهم، ليتفاعلوا ويتغيروا، فحسب؛ تبدعُ هدى بركات ما يزيدُ متعةَ قرّائها، بما يمكن تسميته سيناريو ملاحقة المصائر، بالرسائل التي تلتقطها أيادٍ تنفتح على رسائل تلتقطها أيادٍ، وكأنّها تداخلات حكايات ألف ليلة وليلة، أو سلسلة أفعال الخير التي تتوالد كما الوباء، وترتقي هدى بسيناريو روايتها هذا إلى أن يكونَ بطلاً آخر من أبطالها ضمن بنيتها العميقة. ولا يغيّر من هذا تبدُّل التوليد فنياً في الفصلين الثاني والثالث، الذين يمكن الاختلاف في إيجاد أو عدم إيجادهما مبررات الارتباط التي وجدها سابقهما الفني، لكنهما في كل الأحوال أضافا قيماً في الرواية يأتي في مقدمتها تخليص القارئ من دنس مرض الحكم على الآخر.
وفي الختام الذي يعود بطريقةٍ ما إلى البداية في هذه القراءة، قد تفيد الإشارةُ إلى ما يعترض الكتابةَ عن هذه الرواية من تفكيرٍ بالتوقف، والاكتفاء بالكثير الذي كُتب عنها، وبما قالته الروائية نفسها في المقابلات الصحفية معها عن روايتها، لكنّ التأثر والتمحيص في هذه الرواية يُفضيان إلى ما تكتنزه، من الكثير الكثير الذي يمكن اكتشافه والكتابة عنه.
هدى بركات روائية لبنانية، مقيمة في فرنسا، ويكنز رصيدها قبل “بريد الليل” التي فازت بالجائزة العالمية للرواية العربية، روايات ناجحة عديدة منها: “حجر الضحك” 1995، التي عبرت عن تغيرات المجتمع اللبناني خلال الحرب الأهلية؛ و”أهل الهوى”، “رسائل الغريبة” التي تناولت فيها حال المغتربين بعد سفرها إلى فرنسا؛ و”حارث المياه”، 2001، التي حصلت على جائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأمريكية بالقاهرة؛ و”ملكوت هذه الأرض”، التي وصلت أيضاً إلى القائمة الطويلة في الجائزة العالمية للرواية العربية عام 2013. ومعظم هذه الروايات مترجم للعديد من اللغات.
هدى بركات: “بريد الليل”
دار الآداب للنشر والتوزيع، بيروت 2018
129 صفحة.