سيقف التاريخ يتأمل في دهشة سطور هذه الصفحة من تاريخ بريطانيا، لما فيها من تطورات سياسية درامية، ومن هدوء أو ركود في كافة نواحي الحياة الأخرى، وكأن الحياة كلها في هذا البلد توقفت عند موضوع واحد هو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أو بمعنى آخر طلاقها السياسي من مشروع أوروبا المتحدة، بعد فترة تمتد إلى أكثر من أربعين عاما من الزواج الشرعي، بدأت بآمال زاهية، واستمرت مضطربة طول الوقت، وكادت ان تنتهي بكارثة للطرفين. في هذا العام تجلت في أوضح صورها خصائص السياسة البريطانية، سواء على صعيد الديمقراطية المحلية، أو إدارة العلاقات مع القوى الخارجية، تحت ضغوط حادة وفي ظل ظروف شديدة القسوة.
سقوط تريزا ماي
ورثت رئيسة الوزراء السابقة تريزا ماي تركة ثقيلة بعد الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وقرار رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون بالانسحاب من المشهد السياسي. ماي التي كانت تفضل بقاء بريطانيا في الاتحاد وجدت نفسها تقود حزبا تميل أغلبيته للخروج، فقررت إجراء انتخابات لعلها تحوز على أغلبية كبيرة تكفيها للمناورة داخل مجلس العموم وخارجه. لكن انتخابات 2017 أسفرت عن فشلها في الحصول على الأغلبية، فاضطرت للاتفاق مع الاتحاديين في أيرلندا الشمالية للحصول على أغلبية تؤهلها لتشكيل الحكومة. لكن حكومة ماي التي ولدت ضعيفة فشلت في الحصول على اتفاق مع الاتحاد الأوروبي يتمتع بتأييد مجلس العموم، فاضطرت أكثر من مرة للعودة إلى مائدة المفاوضات، لكنها عجزت عن التوصل إلى اتفاق مقبول. وكان الرفض من داخل حزبها يعادل تقريبا الرفض الذي أعلنه حزب العمال وغيره من الأحزاب المعارضة.
في نهاية الأمر قرر حزب المحافظين تنحية ماي، والبدء في إجراء انتخابات جديدة لزعامة الحزب، استطاع بوريس جونسون وزير الخارجية السابق، وعمدة لندن السابق أيضا، أن يفوز بها بسهولة، وسط تأييد غير مسبوق من الجناح اليميني داخل الحزب، ضد مرشح تيار الاعتدال الذي كان يقوده وزير الخارجية جيريمي هانت. وبدت القيادة الجديدة لحزب المحافظين الداعمة لانتخاب بوريس جونسون وكأنها تسير في طريق القطيعة مع التيار التقليدي لحزب المحافظين، وتؤسس لمدرسة سياسية جديدة داخل الحزب تتحكم فيها مجموعة مركز الأبحاث الأوروبي، اليمينية ذات الطابع القومي المتشدد.
ومع انتخاب بوريس جونسون زعيما للحزب، صعيد نجم تلك المدرسة، وتولى أقطابها المراكز الرئيسية حزبيا وحكوميا وتشريعيا. وبعد فشل بوريس جونسون في تمرير اتفاقه الجديد مع الاتحاد الأوروبي بشأن ترتيبات وشروط الخروج، بسبب معارضة أغلبية مجلس العموم، فإن رئيس الحكومة البريطانية الجديد توصل إلى قناعة مفادها انه لا بديل عن إجراء انتخابات عامة جديدة، طلبا لأغلبية كافية تمكنه من تمرير الاتفاق والتشريعات المنفذة له. ومع أن كثيرين كانوا مرعوبين من فكرة إجراء انتخابات مبكرة، فإن بوريس جونسون قرر المخاطرة، وحصل على موافقة مجلس العموم للدعوة لانتخابات عامة في 12 كانون الأول/ديسمبر الماضي. واستطاع المحافظون في هذه الانتخابات تحقيق أغلبية لم يحصلوا عليها منذ 30 عاما. وبذلك فإن الطريق أمامهم أصبح ممهدا لتنفيذ السياسات التي وعدوا بها الناخبين، بما في ذلك الخروج من الاتحاد الأوروبي، وإنهاء سياسات التقشف، وتقديم خدمات اجتماعية وصحية وتعليمية كافية لإرضاء الناخبين، ورفع مستوى القدرات التنافسية للاقتصاد البريطاني.
سقوط جيريمي كوربين
على الرغم من أن زعيم حزب العمال كان السبب الرئيسي، وليس الوحيد، لسقوط حزبه في انتخابات 2019 فإنه لم يستقل بعد من قيادة الحزب، وأن كان قد أعلن عزمه على الاستقالة وأكد انه لن يقود الحزب في الانتخابات العامة المقبلة. ومن الواضح أن المجموعة اليسارية التي تسيطر على حزب العمال، والتي يمثل كوربين واجهتها السياسية، تخشى من التصفية في حال استقالة كوربين فورا. وتفضل هذه المجموعة بقاءه حتى يتم انتخاب قيادة جديدة للحزب، تساعدهم على البقاء والاستمرار في السيطرة. وقد أعلن الرجل الثاني في الحزب جون ماكدونال عزمه على الاستقالة، وهو ما يعني أن الصراع على الزعامة سيكون شديدا داخل الجيل التالي لكل من كوربين (70 سنة) وماكدونال (68 سنة). وسيكون هذا الصراع على أشده، ليس بين جيلين فقط، ولكن بين عدد من المدارس الفكرية داخل الحزب، خصوصا وأن الجناح المعتدل داخل الحزب، فقد أهم رموزه قبل الانتخابات العامة باستقالة توم واطسون نائب رئيس حزب العمال، الذي أعلن اعتزال الحياة السياسية تماما.
ويشعر التيار المعتدل داخل الحزب بخطورة الصراع المقبل على القيادة داخل الحزب. وقد وجه رئيس الوزراء الأسبق توني بلير نداء قويا إلى الحزب بضرورة أن يتدبر معنى الخسارة التاريخية التي لحقت به، وهي الأثقل منذ عام 1935. وعلى الرغم من وجود الكثير من الوجوه والرموز المعتدلة داخل حزب العمال، إلا أن التيار المسيطر تغلب عليه النزعة البيروقراطية التسلطية، وهو ما يقلل احتمال الانتقال السلس للقيادة داخل الحزب من الجناح التقليدي المتشدد إلى الجناح المعتدل التحديثي.
جون بيركو ميراث تاريخي
ترك رئيس مجلس العموم البريطاني جون بيركو، الذي كان قد أعلن عزمه على التقاعد قبل انتخابات زعامة حزب المحافظين، بصمة شديدة الوضوح على طبيعة وفلسفة الممارسة الديمقراطية في النظام البرلماني خلال عام 2019 وعلى مدار فترة الصراع بين الحكومة والمجلس فيما يتعلق بإقرار الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي. وقد اتخذ جون بيركو مواقف حازمة حالت دون تغول الحكومة على مجلس العموم، كما حالت دون تداخل السلطات بين المجلس، وبين سلطة القضاء. ففي مجال العلاقة بين الحكومة والمجلس وقف بيركو ضد محاولات الحكومة إعادة طرح مشروعات القوانين بدون إدخال تغييرات جوهرية عليها. كما وضع شروطا ومعايير لما يمكن اعتباره “تغيير جوهري” بما يحول دون إدخال تعديلات؛ شكلية للتحايل على المجلس. وفي مجال العلاقة بين المجلس والقضاء، رفض بيركو ان يتولى مجلس العموم تفسير نصوص الأحكام القضائية بما يناسب هوى الأعضاء، وأصر على أن تكون سلطة القضاء للقضاء، وسلطة التشريع لمجلس العموم، بدون أي تداخل بينهما. وسوف تعيش القواعد التي وضعها جون بيركو على مر السنين بعد رحيله عن المجلس، باعتبارها تجسد الروح الحقيقية للديمقراطية البرلمانية في أعرق ديمقراطيات العالم.
نمو اقتصادي
وكان العام عاديا للاقتصاد البريطاني من حيث معدلات النمو والاستقرار. وعلى الرغم من أن الجنيه الاسترليني واجه ضغوطا شديدة خلال العام، فإن المحافظة على معدل التضخم داخل نطاق السيطرة في الحدود التي قررها بنك إنكلترا يؤكد قدرة السياسة الاقتصادية على الحد من التضخم الذي يتسرب إلى الاقتصاد المحلي مع الواردات بسبب انخفاض قيمة العملة.
لكن المشكلة الرئيسية التي تواجه بريطانيا خلال السنوات العشر الأخيرة، والتي ظهرت بوضوح عام 2019 تتمثل في تراجع الصناعات التحويلية وانخفاض إنتاجية العمل عن مستوياتها في أوروبا الغربية، وعن الولايات المتحدة بنسبة تصل إلى 30 في المئة، وهو ما يعتبر أحد أهم التحديات التي تواجه الحكومة الجديدة بقيادة بوريس جونسون إلى جانب تحديات التوصل إلى اتفاقات تجارية عادلة مع كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، والارتفاع بمستوى خدمات الرعاية الاجتماعية إلى المستويات التي يتطلع إليها الناخبون.