يعتقد ما يقرب من ثلثي الناخبين البريطانيين أن حكومة المحافظين بقيادة ريشي سوناك مسؤولة عن أزمة غلاء المعيشة وانتشار الإضرابات العمالية والمهنية، وتدهور مستوى الرعاية الصحية والاجتماعية، كما إنها مسؤولة عن سوء إدارة السياسة الخارجية والاقتصادية والاجتماعية منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وطبقا لاستطلاعات الرأي العام فإن شعبية حكومة حزب المحافظين هبطت بنحو 20 نقطة مئوية تحت شعبية حزب العمال بقيادة كير ستارمر. ويلقي الناخبون باللوم على الحكومة في تفاقم الأزمات خلال العام الماضي، وانتقالها للعام الجديد بدون حلول تلوح في الأفق. وعلى الرغم من أن سوناك جاء إلى رئاسة الحكومة منذ ما يقرب من 10 أسابيع، فإن أولويات سياسة حكومته انصرفت إلى محاولة إصلاح الكارثة المالية التي تسبب فيها حكومة ليز تراس خلال 40 يوما. المهمة الرئيسية التي انصرف إليها سوناك وأركان حكومته خلال الأسابيع الماضية كانت إعادة ترتيب القوائم المالية للإنفاق الحكومي والمصروفات، بغرض إعادة التوازن للمالية العامة للدولة. وقد نجح في تحقيق ذلك إلى حد كبير.
يلقي الناخبون باللوم على الحكومة في تفاقم الأزمات خلال العام الماضي
لكن سوناك لم يقدم شيئا لتخفيف أزمة غلاء المعيشة، ولا لوقف موجة الإضرابات، التي شملت إلى جانب عمال السكك الحديد، هيئات التمريض، والإسعاف، وعمال البريد، وربما ينضم إليهم المعلمون. إضراب الممرضين لأول مرة في تاريخ بريطانيا ترك آثارا سلبية أدت لتعميق جراح نظام الرعاية الصحية الذي يعاني من تخفيض الموارد منذ عشر سنوات، ومن الضغوط المترتبة على تداعيات جائحة كورونا وانتشار أمراض فصل الشتاء. وذكر بيان أصدره المكتب الوطني للإحصاء يوم الخميس الماضي أن معدل الوفيات في أواخر الشهر الماضي زاد بنسبة 20 في المئة عن المعدل الطبيعي في هذا الوقت من العام. وقد حاول سوناك مع بداية العام الجديد أن يقدم رؤية متفائلة للأداء الحكومي خلال الفترة المتبقية على موعد الانتخابات العامة المقبلة، التي يجب أن تجري في موعد أقصاه كانون الثاني/يناير من عام 2025 أي بعد سنتين من الآن.
وأعلن رئيس الوزراء البريطاني خمسة تعهدات في مؤتمر صحافي، تلتزم حكومته بالوفاء بها خلال تلك الفترة، تشمل تخفيض معدل التضخم إلى نصف ما هو عليه حاليا خلال عام، وكذلك تخفيض حجم الدين العام، وزيادة معدل النمو الاقتصادي، والقضاء على فترة الانتظار لإجراء العمليات الجراحية في المستشفيات العامة خلال عامين، وإنهاء ظاهرة عبور اللاجئين غير القانونيين بالقوارب عبر بحر المانش إلى بريطانيا. وقال إنه مستعد للمساءلة أمام الناخبين بشأن تحقيق هذه التعهدات خلال الفترة المتبقية من عمر الحكومة الحالية. كما لخص ريشي سوناك رؤيته لمستقبل بريطانيا في العمل على بناء اقتصاد متقدم تكنولوجيا من خلال تطوير قدرات الابتكار والتقدم التكنولوجي، خصوصا تطوير التعليم وتدريس مواد الرياضيات حتى نهاية المرحلة الثانوية لكل تلاميذ المدارس، باعتبار أن الرياضيات هي أساس المعرفة بعلوم الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الكوانتوم. ويبدو من هذه التعهدات أن سوناك تجنب تماما الخوض في بعض الأزمات المباشرة التي تواجه بريطانيا، مثل موجة الإضرابات، ونقص إمدادات الغذاء، وتعثر القطاع الزراعي، ونقص العمالة في القطاع الصناعي، وفي قطاعات حيوية أخرى مثل البناء والفنادق والمطاعم؛ بسبب تداعيات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي “بريكست”. كما تجنب سوناك الحديث عن المفاوضات المتعثرة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي بشأن بروتوكول أيرلندا الشمالية، الذي ينظم القواعد الخاصة بالتجارة بين أيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا، وبين بريطانيا وأيرلندا الشمالية.
مواجهة مع الحقائق
الأولويات التي حددها ريشي سوناك لسياسته للعامين 23 و 24 تتضاءل بشدة أمام موجة الإضرابات التي تعيشها بريطانيا، ومن المتوقع أن تشغل 20 يوما من أيام الشهر الأول من السنة، وسوف تستمر إذا لم يتم الاتفاق على تسويتها. ومع أنه من المقرر أن تتدخل الحكومة في المفاوضات بين نقابات العاملين بالسكك الحديد والنقل البري والبحري للمرة الأولى منذ نشوب النزاع بشأن الأجور وظروف العمل، فإن فرصة نجاح هذا التدخل ما تزال ضيقة جدا، حيث قالت القيادات النقابية أنها لم تتلق أي عرض جديد بشأن زيادة مقبولة للأجور وتحسين ظروف العمل للعاملين، وأكد متحدث باسم الشركات أنها لن تتفاوض بشأن الأجور ولكنها على استعداد للتفاوض بشأن ظروف العمل. وتسعى الشركات إلى تخفيض أعداد العاملين، وتعديل نظام العمل بطريقة تقول النقابات أنها تزيد الأعباء على العاملين، على الرغم من التغييرات التكنولوجية المرتقبة في نظام العمل.
تدهور نظام الرعاية الصحية
كذلك فإن الوعد الذي قدمه سوناك لتقليل فترات الانتظار في قوائم الرعاية الصحية لا علاقة له باحتجاجات مقدمي خدمة الرعاية في المستشفيات من الممرضين والممرضات والمسعفين وطواقم العلاج الطبيعي وغيرهم. ويطالب هؤلاء بزيادة كبيرة في أجورهم، تصل حسب البيانات المعلنة إلى 19 في المئة. ومع أن قيادة إضراب هيئات التمريض أعلنت انها ستبدي قدرا من المرونة في حال استجابة الحكومة لطلب إجراء مفاوضات بشأن الأجور وظروف العمل، فإن الحكومة ترفض من حيث المبدأ الدخول في مفاوضات مع هيئات التمريض وغيرهم من العاملين في قطاع الرعاية الصحية، وذلك على الرغم من التحذيرات الجدية بأن الإضراب المتقطع عن العمل يمكن أن يؤدي إلى انهيار خدمات الطوارئ والانقاذ والتسبب في ارتفاع عدد الوفيات. وقدرت الإدارات الصحية في عدد من المناطق ان عدد الوفيات يمكن أن يصل إلى 500 مريض أسبوعيا نتيجة لذلك. ومن ثم فإن حديث سوناك عن تقليل فترات الانتظار يفتقر إلى المصداقية مع استمرار النقص الشديد في أعداد الممرضين، وضعف الإقبال على الدراسة في كليات التمريض، والافتقار إلى المعدات والأجهزة الطبية اللازمة، ومنها أجهزة ضرورية للتشخيص والعلاج مثل أجهزة الأشعة ومستلزمات المعامل. وقد كانت ردود الفعل على وعود سوناك سلبية على طول الخط من جانب القيادات النقابية والمهنية في القطاع الصحي.
سوناك لم يقدم شيئا لتخفيف أزمة غلاء المعيشة
وفيما يتعلق بما ذكره سوناك عن ضرورة تدريس مواد الرياضيات في المدارس لكل الطلاب حتى سن 18 سنة، فقد سخرت القيادات النقابية في قطاع التعليم من ذلك الوعد، مؤكدة أن هناك نقصا شديدا في أعداد المعلمين بشكل عام، وفي أعداد معلمي الرياضيات بشكل خاص، إضافة إلى الحاجة لتعويض القطاع عن النقص المتواصل منذ عشر سنوات على الأقل في الإنفاق على التعليم وتطوير المدارس. وكانت التخفيضات في ميزانيات التعليم عاما بعد آخر تحت حكم المحافظين قد وصلت إلى حد تقليل الإنفاق على الوجبات الغذائية للطلاب في المدارس، بمن فيهم غير القادرين الذين يعتمدون على بنوك الطعام وتبرعات الجمعيات الخيرية. وعلى الرغم من أن أزمة غلاء المعيشة تهدد كل بيت في بريطانيا من الفقراء إلى الطبقة المتوسطة، فإن وعود سوناك لم تقدم حلولا عملية لتفاقم هذه الأزمة.
ما يزيد الأمر سوءا في وعود سوناك، ما كشف عنه الحوار مع الصحافيين بشأن عزم الحكومة تقديم تشريعات جديدة من شأنها فرض قيود على حق الإضراب عن العمل، بدعوى “إقامة توازن بين حقوق العاملين وحقوق المجتمع”. هذا يعني من الناحية العملية ان بريطانيا ستخطو على الطريق الذي سلكته الولايات المتحدة، في إصدار قانون يقيد حق الإضراب، ويمنح الحكومة سلطات تضمن استمرار العمل بحد أدنى على الأقل في المرافق التي تعتبرها حيوية، طبقا لما تراه الحكومة، وحق فصل العمال الذين لا يلتزمون بذلك. ومن ثم تحويل ممارسة حق الإضراب إلى مجرد مسألة شكلية أو رمزية. هذا من شأنه أن يضعف نقابات العمال والروابط المهنية، ويقلل اهتمام العاملين بالمشاركة في الأنشطة النقابية، أو الانضمام للنقابات من الأصل. وفي مسألة وقف تدفق اللاجئين غير القانونيين يعتزم سوناك تقديم مشروع قانون جديد إلى مجلس العموم يمنح الحكومة سلطة ترحيل المهاجرين غير القانونيين إلى بلدانهم الأصلية أو إلى مناطق أخرى “آمنة” والسماح للحكومة بتوقيع اتفاقيات ثنائية مع دول أخرى في هذا الخصوص، وفرض غرامات باهظة على محاولات دخول البلاد بغير تأشيرة دخول رسمية. هذا التوجه المتشدد يستفيد في واقع الأمر من حكم المحكمة العليا البريطانية الصادر في أواخر العام الماضي، بشأن ترحيل مهاجرين إلى رواندا، الذي يقضي بأن إبعاد المهاجرين غير القانونيين وترحيلهم هو إجراء قانوني.
ارتفاع قياسي لأسعار الغذاء
بالنسبة للمواطن العادي تمثل زيادة أسعار الوقود والغذاء ونقص امدادات السلع الغذائية الهم اليومي الذي تعاني منه كل أسرة. وقد سجلت الاحصاءات الرسمية ارتفاع معدل التضخم للسلع الغذائية إلى أعلى مستوى بين السلع الاستهلاكية عموما، ليصل إلى 13.3 في المئة في الشهر الماضي، وهو ما يقرب من ضعف معدل التضخم في أسعار السلع الاستهلاكية عموما الذي بلغ 7.3 في المئة في الشهر نفسه.
الأولويات تتضاءل بشدة أمام موجة الإضرابات التي تعيشها بريطانيا
وقد رد زعيم حزب العمال كير ستارمر على وعود سوناك بهجوم شديد على سياسة حزب المحافظين، وقال إن بريطانيا تحت حكم الحزب سجلت أسوأ معدلات النمو خلال ال 200 عام الأخيرة، وأن حكومات المحافظين خلال الـ 13 عاما الأخيرة فشلت في إدراك أولويات واحتياجات المجتمع. ودعا إلى عدم السماح لسياسة الحكومة بأن تخرب نظام الرعاية الصحية الذي تفخر به بريطانيا بين كل بلدان العالم. وكان مكتب الإحصاء الوطني قد أصدر بيانا يوم الخميس الماضي قال فيه أن المستشفيات ووحدات الرعاية الصحية تتعرض لضغوط شديدة أدت فعلا في أواخر الشهر الماضي إلى زيادة حالات الوفيات بنسبة 20 في المئة عن المعدلات المعتادة في هذا الوقت من السنة.
ومن الواضح أن المزاج السياسي العام في بريطانيا يتطلع إلى سياسات يمكن أن تعيد الأمل إلى المواطنين، بعد فترة عناء طويلة منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ثم جائحة كورونا، ومن بعدهما حرب أوكرانيا وتداعياتها. وإذا كان حزب العمال يتقدم على حزب المحافظين في استطلاعات قياس الرأي العام في الوقت الحالي، فإن الفترة الزمنية من الآن وحتى إجراء الانتخابات المقبلة قد تحمل تطورات كثيرة إيجابية وسلبية لكل من رئيس الحكومة ريشي سوناك، وزعيم حزب العمال كير ستارمر، فالمنافسة السياسية ستظل مستمرة بين القوى السياسية المختلفة، ولن يتم حسم نتائجها إلا عند الانتخابات النيابية المقبلة.