بريطانيا: ماذا وراء عبارات التأبين؟

حجم الخط
14

عن ستة وتسعين عاماً ـ منها سبعون على العرش ـ رحلت «إليزابيث الصامدة»، على حد تعبير رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال، أو «ملكة القلوب»، حسب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الملكة التي «كانت أكثر من ملكة»، كما قال الرئيس الأمريكي جو بايدن، والتي جسدت وفاتها «نهاية زمن» في رأي أنتوني ألبانيز رئيس وزراء أستراليا، والتي كانت «رمز المصالحة» بعد حربين عالميتين، وفقاً لعبارة المستشار الألماني أولاف شولتس، ناهيك عن عبارات كثيرة لملوك ورؤساء وقادة، حول العالم وردت في تأبين الملكة إليزابيث الثانية، ملكة بريطانيا ورئيسة الكومونويلث.
وإذا كانت تعازي القادة والزعماء كثيرة، فإن وسائل التواصل الاجتماعي في العالم العربي تحديداً قد ضخّت كمّاً ضخماً من عبارات التأبين، إذ كتب الكثير من الشبان العرب ما لا يحصى عن الملكة، وتقمص كثيرون منهم أدواراً رسمية، و«بعثوا برسائل عزاء للعائلة المالكة البريطانية» للتعبير عن الحزن على رحيلها، كما أعاد الكثير نشر صور قديمة لها وهي تزور عدداً من البلدان التي استعمرتها بريطانيا، مشيرين إلى شيء من الفخر بزيارتها لبلدانهم.
ما هو سر هذا الاحتشاد حول الملكة في كثير من البلدان حول العالم، وعلى وجه الخصوص البلدان العربية التي يفترض أن هناك تاريخاً إشكالياً يربط بريطانيا ببعضها؟
هل هو مجرد شعور إنساني بالحزن على فقدان ملكة عمّرتْ طويلاً، وصارت أجيال في العالم لا تعرف بريطانيا إلا بصورة نمطية لتلك الملكة الأنيقة ذات الملامح الأليفة، والتي تبتسم في وداعة، وتمشي بهدوء، حاملة حقيبة صغيرة لها وظائف ودلالات متعددة؟
هل أريد لصورة الملكة في مراحلها العمرية المتأخرة أن تعمل على التخلص من الذاكرة المريرة لدى الشعوب التي استعمرتها جيوش المملكة، مثلما أريد العمل على تشكيل «أيقونة» داخلية للحفاظ على وحدة المملكة؟
يبدو أن اقتصار شخصية الملكة على صورتها النمطية في العقود الأخيرة، بمظهرها الأنيق وتواضعها وقربها من الناس كان له دور في إبقاء هذه الصورة حاضرة لعقود طويلة في أذهان الكثيرين، ذلك أن هذه الصورة لا تحضر في أخبار الحروب والاضطرابات، بل في مناسبات اجتماعية وأسرية وموضوعات محببة للطبقات الشعبية، الأمر الذي جعلها في نظر كثيرين «أيقونة» سلام ووداعة وخير، في وقت يتحمل أو تتحمل رئيس أو رئيسة الوزراء أعباء السياسة وأوزارها، حيث تحضر رئاسة الوزراء في أخبار الحروب والمشاكل الاقتصادية والأزمات السياسية، فيما تحضر الملكة في حديقة القصر أو داخل الكنيسة، أو وهي تداعب الأطفال أو مع كلابها، أو في حفلات ومناسبات بهيجة، الأمر الذي قرن صورتها في أذهان المتلقين بالبساطة والحميمية والألفة والبهجة والفرح، وهي أمور لم تأتِ عَرَضاً، بل كان لطبيعة منصب الملكة، كما لطبيعة شخصيتها وطبيعة الصور المقصود إبرازها دور في ربط تلك الشخصية بمعانٍ جميلة في أذهان الجمهور، داخلياً وخارجياً.

هل بالفعل عبر رواد وسائل التواصل الاجتماعي عن حقيقة شعورهم الإنساني إزاء وفاة ملكة تنتمي لسياقات ثقافية وحضارية وسياسية مغايرة، أم أرادو إرسال رسائل ضمنية متعلقة بسياقاتهم الثقافية والحضارية والسياسية المختلفة؟

ما سبق يمكن أن يكون أسباباً – أو بعض أسباب ـ ذاتية وراء كمّ كبير من التعاطف والعبارات التي قيلت عن الملكة إليزابيث الثانية، وهي أسباب تتعلق بشخصية الملكة أو بصورتها التي أريد لها أن تظهر بها على الجمهور حول العالم، لكن ماذا عن الأسباب الموضوعية التي لا علاقة لها بشخصية الملكة، قدر ما هي مرتبطة بالظروف والسياقات التاريخية والمعاصرة؟
لماذا حظيتْ وفاة الملكة ـ مثلاً ـ بقدر كبير من الاهتمام على وسائل التواصل الاجتماعي في المنطقة العربية على وجه الخصوص، رغم التاريخ الاستعماري البريطاني في عدد من البلدان العربية؟
هل هو التعبير عن حنين المستعمَر إلى أيام المستعمِر كنوع من الحنين الدائم لأحلام شعوب المنطقة في دولة طالما حَلُم بها الوجدان الشعبي عبر مراحل من النضال نحو تلك الدولة التي حالت تعقيدات داخلية وخارجية دون قيامها على الصورة التي يريدها أولئك الحالمون؟
هل هو توق شعوب المنطقة للعصرنة والحداثة والخروج من دوائر الصراع الماضوي والالتحاق بركب الحضارة المعاصرة؟
هل هي الرغبة الجامحة في سيادة القانون والقضاء المستقل والحقوق والحريات والرفاه وعدالة توزيع الثروة وديمقراطية السلطة، إضافة إلى مبادئ فصل السلطات والشفافية ومكافحة الفساد، وغيرها من قيم ومبادئ وأهداف تتوق لها شعوب المنطقة، ويراها كثيرون متجسدة في النموذج الليبرالي الغربي؟
هل هي الرغبة في ظروف حياة أفضل، تلك الرغبة التي تدفع بملايين من الشباب العربي للرحيل، في محاولات للوصول للشاطئ الشمالي للبحر الأبيض المتوسط، عبر رحلات موت قضى فيها الآلاف في البحر الذي لا يُعَدّ مجرد بحر، بل يرمز إلى «برزخ حضاري» بين تاريخين وجغرافيتين وثقافتين، في عيون ملايين من الذين يتوقون لخوض تجربة الرحيل عبر الموج؟
هل يشير حجم عبارات التأبين إلى نوع من التمرد على الواقع والتمرد على القيم السائدة والأنساق الدينية والثقافية والسياسية والاجتماعية التي يرى المتمردون أنها السبب وراء ما يعيشونه من واقع لا يلبي طموحاتهم؟
هل يمثل تصرف الكثير من الشبان العرب امتداداً لمحاولات سابقة في اقتباس النموذج الغربي في السياسة والاقتصاد والاجتماع والحياة الليبرالية؟
هل تنفتح العبارات الكثيرة على وسائل التواصل الاجتماعي في البلاد العربية على دلالات انهيار أحلام ما سمي بـ«الربيع العربي» لدى قطاعات واسعة من «شباب الثورات»، تلك الثورات التي أسقطت الأنظمة، ولكنها لم تنجح في إقامة أنظمة جديدة، الأمر الذي راكم الإحباطات التي وجدت في موت ملكة «إمبراطورية استعمارية» متنفساً لاشعورياً، للتعبير عن الحنين إلى تحقق أحلام الحرية والاستقلال؟
أخيراً: هل بالفعل عبر رواد وسائل التواصل الاجتماعي عن حقيقة شعورهم الإنساني إزاء وفاة ملكة تنتمي لسياقات ثقافية وحضارية وسياسية مغايرة، أم أرادوا إرسال رسائل ضمنية متعلقة بسياقاتهم الثقافية والحضارية والسياسية المختلفة؟
ومع توالي الأسئلة يبدو أن الإجابة تحتاج إلى مساحة أوسع، وأنها ستكون مختلفة من شخص لآخر أو من جهة لثانية، لكن ما لا يُختلَف عليه هنا، هو أن ردة فعل الشارع الشعبي العربي تجاه وفاة إليزابيث الثانية مثلت ظاهرة لافتة جديرة بتأملها للوقوف على أبعادها، وتمييز ما يتعلق من تلك الأبعاد بشخصية الملكة، وما هو متعلق منها بالسياقات والظروف التي يعيشها هذا الجيل.

كاتب يمني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    هناك تحركات في بريطانيا بتغيير الحكم من ملكي إلى جمهوري لعدة أسباب أولها الأزمة الإقتصادية !
    على الملك تشارلز التنازل عن الكثير من ثروات العائلة المالكة من أموال وممتلكات ووو !!
    الشعب البريطاني بأحوج ما يكون لتلك الثروات !!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول الدكتور جمال البدري:

    إنّ الموت حقّ على الجميع؛ الملوك والصعاليك سواء عاشوا عشر سنين أومائة عامّ…وكما قال الشاعر عمـــرالخيّام : { لقد تساوى في الثرى راحل*****غدًا وماضٍ من ألوف السنين }.وشخصيًّا كنت أتوّقع ( موت ) الملكـــة اليزابيث منذ عامّ 2020؛ لهذا حينما علمت بخبر وفاتها لم يفاجئني.لكن ليس الموت هو المهم بل دلالة النهايّة؟ وأرى أنّ موت الملكة فعلًا نهاية للحرب العالميّة الثانيّة.وكما قالها القائد الفرنسيّ: غورو على قبرصلاح الدّين الأيوبيّ في دمشق: الآن ياصلاح قد انتهت الحروب الصليبيّة.فالآن ياإليزابيث قد انتهت الحرب العالميّة الثانيّة. أما علاقة الملكة بالأحداث الاستعماريّة في المنطقة العربيّة منذ العدوان الثلاثيّ على مصر في عامّ 1956حتى العدوان الأميركيّ على العراق عامّ 2003.فالمؤكّد أنّ الملكة كانت ( تبــارك ) قرارات الحكومات البريطانيّة؛ فلا يمكن لرئيس وزراء بريطانيا الدخول في حرب من دون علم وموافقة ومباركة الملكـــة؛ ومعلوم أنّ أيّ رئيس وزراء كان يلتقي بالملكة ( أسبوعيًا ) ليحيطها بالمواقـف والقرارات الهامّة؛ ليأخذ منها توجيهاتها الخاصّة…

  3. يقول الدكتور جمال البدري:

    إنما كانت تظهر للعلن أنها ملكة دستوريّة فلا تتدّخل بقرارات الحكومة؛ وهذا غيرصحيح تمامًا.وعـزز الإعـلام السياسيّ هذه ( الخاصيّة ) لاضفاء القدسيّة على الديمقراطيّة البريطانيّة…خاصّة وبريطانيا مكوّنـــة من أربعة أقاليم متحدة إضافة لدول ما وراء البحار من مجموعة الكومنولث.وهي رابطة للاستعمار البريطانيّ غيرالمباشر. أما صيغة ومراسيم التوديع لجنازة الملكة؛ فهي تقع كما قالها محمد حسنين هيكل ضمن: { هيلمــان الدولة }.أي الحفاظ على هيبة ومكانة المملكة في نفوس رعاياها؛ داخليًا وخارجيًا؛ بكسب العواطف لصالح الملك الجديــد. هل ستتعزز قواعد ونظام الملكيّة البريطانيّة بعد إليزابيث؟ هناك شعور ساخن بضرورة إحـــداث تغييرات دراماتيكيّة تتلائم وتطوّرات عصر ما بعد إليزابيث.ما مدى هذا التغيير؟ الملك تشارلز الثالث لا يمكنه القيام بالتغيير الكبير؛ لكن سيُفرض عليه التغييـر مكرهًا…فبريطانيا تشارلز الثالث ستكون كما قالها الشاعرالقرشيّ عبد الله الزبعريّ: { تنكّلوا عن بطن مكة إنها ***** كانت قديمًا لا يُرام حريمها }.أما حرمـة بريطانيا تشارلز فسيرام حريمها.

    1. يقول أحمد الأرناؤوط:

      أولا (أقاليم) بريطانيا ليست أربعة بل ثلاثة وواحدا ما زال محتلا من دولة أُخرى، ثانيا حتى لو كانت هذه (الأقاليم) أربعة فعليا فهي ليست متحدة بأي شكل من الأشكال في الجوهر

  4. يقول تيسير خرما:

    حرر استعمار أوروبي شعوب من محتلين وطور مناطق وثنية بكل القارات إلى دول بمقومات من لا شيء فأقام مدارس مستشفيات مناجم مصانع مزارع شبكات طرق سكك حديد جسور موانيء مطارات معسكرات وحول ملايين وثنيين لدين سماوي ودرب وطور مواطنين لجنود وضباط عمال فنيين مهندسين ممرضين أطباء محامين وأنشأ أنظمة حكم ودساتير وبرلمانات وعندما انسحب ترك دولاً ما زالت قائمة تتكلم لغات عالمية تستورد آخر ما أنتج لكن بفترة استعمار استغل ثروات مجاناً واشترى آلاف عبيد من تجار عرب لسد حاجته لعمالة زراعية كثيفة بمستعمرات العالم الجديد

  5. يقول محمد دبش:

    (مثل ملكة بريطانيا لا بتهش و لا بتنش) هذا المثل كان يردده كثير من الكتاب في مقالاتهم او في المقابلات الحواريه و كان هذا مثل خاطئ تماما فقد كانت هذه الملكه علي درايه و اطلاع و معرفه مسبقه و حتي من الممكن الموافقه او غير الموافقه علي كل الخطوات و الافعال و طبعا الحروب التي تقررها الحكومه مع رئيس الوزراء

  6. يقول جمال:

    يرفع رئيس الوزراء تقارير للملكة ويلتقي بها كل أسبوع مرة، غير أن ما يدور أثناء اللقاء لا تظهر على وسائل الإعلام.
    الملكية البريطانية مهمة في نظر المدافعين عنها لوحدة البلاد.

  7. يقول خليل الناصري:

    الشباب العربي يمر بمرحلة من الضياع، ضياع الدولة والقيمة والفكرة والهدف والوسيلة، ولذا فإن ما يكتب على وسائل التواصل الاجتماعي هو تعبير عن هذا الضياع. ولذا نرى أحياناً اهتماما بموضوعات تافهة ولكنها تجد صدى واسعاً على الشبكة العنكبوتية.

  8. يقول الغريب:

    ان حزن الشعوب العربية على موت الملكة البريطانية وخوضه مغامرة قطع البحر الى الضفة الشمالية اين يوجد المستعمر القديم والحالي ايضا رغم خطورتها والالحاح في طلب الفيزا من ماكرون من طرف شعوب المستعمرات الفرنسية, كلها تدل بوضوح ان الشعوب العربية تفضل المستعمر على الحاكم العربي ولكن على حد تعبير الدكتور فيصل القاسم : ” لا تحلموا بعودة المستعمر ” لانه استطاع ان يضع عليكم ربوهات تخلفه ويتحكم فيها عن بعد

  9. يقول عبد الله العقبة:

    والسؤال هل يمكن لعواطف التأبين ان تكون الاسمنت الماسك للمملكة المتحدة بعد رحيل الملكة إليزابيث؟ العواطف لا تبني دولا ولو كانت من كارتون..شكرا لكاتب المقال المبدع وارفع قبعتي للدكتور جمال البدري على تعليقه المسبار.

    1. يقول ابن زياد - فرنسا:

      ما هذا التناقض بين العواطف ومسك المملكة وبين العواطف وبناء الدولة ؟ المملكة مبنية أصلا ولا تحتاج أي عواطف لبنائها ، القضية الأساسية تكمن قبول أو عدم قبول الشعب للنظام الملكي بعد كل هذا الزمان المديد !

  10. يقول لبنى شعث - فلسطينية مغتربة:

    في الحقيقة، إنها مشكلة الافتقار إلى “الهوية” لدى عرب اليوم قبل كل شيء، ومن أولى علائم هذا الافتقار تتجسد في الرجوع إلى العبودية الأصل (وخاصة لمن أصلهم من العبيد فعليا)، وتتجسد بالتالي في إغداق كل أشكال المديح على الآخر نكايةً بآخرَ غيره، فترى المتحدر منها وما يترتب عليها من تملق ومداهنة ونفاق أصلا، تراه شخصا مفقودا في الجوهر وهو ينتحل العديد من الأقنعة والأسماء وليس له من وراء هذا الانتحال المتعدد سوى توزيع المدائح والتقاريظ والمجاملات (المتعددة بتعدد الأقنعة والأسماء عينها)، توزيعها وبإفراط شديد لهذا أو ذاك “الممدوح” أيا كان مستواه ووقعه (وتأثيره كذلك إن تواجد في الأساس) !!؟
    مع التحية والتقدير إلى الكاتب محمد جميح !!؟

    1. يقول حنان جمعة -:

      أحسنت يا أخت لبنى شعث : ضياع الهوية والارتداد إلى العبودية لمن تحدَّر منها ، هذا هو بيت القصيد ، لا فُض فوك !!

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية