“بريكست” يلقي بظلاله على تسوية نزاع إقليم كشمير

حجم الخط
0

أنقرة: بعد فترة وجيزة من توليه منصبه، أقدم رئيس الوزراء البريطاني الجديد، بوريس جونسون، على تحدٍ كبيرٍ، ودعا إلى إلغاء بند “شبكة الأمان” الخاص بالحدود الأيرلندية، الذي من شأنه أن يبطل فعليا التزامات اتفاق “الجمعة العظيمة” لعام 1998، الذي مهد لحل قضية أيرلندا الشمالية والصراع البريطاني – الأيرلندي الذي استمر 700 عام.

في أوائل تسعينيات القرن الماضي، مع انتهاء الحرب الباردة، وعندما كانت المجموعة الأوروبية تغير اسمها إلى الاتحاد الأوروبي، تسابقت الدول لتسوية نزاعات إقليمية؛ شملت ولاية “تيرول” (إيطاليا والنمسا)، ومدينة “تريستي” (إيطاليا ويوغوسلافيا السابقة)، وأندورا (فرنسا وإسبانيا)، من بين نزاعات أخرى.

أما النزاع الأكثر دموية في أيرلندا الشمالية، الذي شهد ما لا يقل عن 10 آلاف هجوم بالقنابل خلال عقدين بداية من عام 1968، فتمت تسويته بعد اتفاق “الجمعة العظيمة” عام 1998 بين حكومتي المملكة المتحدة وجمهورية أيرلندا، والأحزاب السياسية التي تمثل أيرلندا الشمالية.

غير أن دعوة جونسون لإعادة بناء الحدود مع جميع الأدوات الجمركية، ونقاط التفتيش بين الأراضي البريطانية وأيرلندا الشمالية، وجمهورية أيرلندا المجاورة، دفعت الاتفاق الذي طال أمده إلى حالة من الفوضى.

وكان الغرب يبيع الميثاق في جميع أنحاء العالم على أنه نموذج لتسوية نزاعات أخرى، كإقليم “جامو وكشمير” بين الهند وباكستان.

كما نصح الرئيس الأمريكي الأسبق، بيل كلينتون، الذي شارك في عملية السلام في أيرلندا الشمالية، جمهورًا هنديًا، في 2 مارس/ آذار 2003، بأن يستلهم نموذج اتفاق أيرلندا الشمالية في تسوية نزاع “كشمير” مع باكستان.

استند الركن الأساسي للاتفاق على مبدأ تبني نهج محوره الشعب بدلًا من التركيز على الإقليم، ما يعني أنه لن يكون هناك تبادل للأراضي أو السيادات؛ لكن المنطقة الخاضعة للنزاع سيُكفل لها الحكم الذاتي ونزع السلاح وحرية حركة الناس والمواد عبر الحدود مع عدم وجود نقاط حدودية وجمارك.

جونسون، مع التزامه بمغادرة الاتحاد الأوروبي “بريكست” في 31 أكتوبر/ تشرين الأول من العام الجاري، مع أو بدون التوصل إلى اتفاق، دعا إلى الإلغاء التام لـ”شبكة الأمان”.

وقال جونسون أمام مجلس العموم (الغرفة الأولى للبرلمان): “لا يمكن لأي دولة تقدر استقلالها واحترامها لذاتها أن توافق على معاهدة تخلت عن استقلالنا الاقتصادي وحكمنا الذاتي كما تفعل شبكة الأمان هذه”.

ووفقًا لجون دويل، العميد التنفيذي لكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة مدينة “دبلن”، فإن مرونة المملكة في فتح الحدود واستعادة الروابط بين المجتمعين الأيرلنديين المنقسمين كانت حاسمة في الحصول على موافقة القوميين الأيرلنديين على الاتفاق.

وقال دويل: “بالنسبة للقوميين، يمثل ذلك اعترافًا بسيادتهم السياسية، ولكن بطريقة مقبولة، لدى المملكة المتحدة”.

وتشير الوثائق إلى أن مشاركة كلينتون النشطة والداعمة في العملية هي التي أدت إلى الاتفاق.

وكانت تأشيرات الولايات المتحدة لزعيم حزب “شين فين” (الذراع السياسية للجيش الجمهوري الأيرلندي)، جيري آدمز، وزعيم الجيش الجمهوري الأيرلندي، جو كاهيل، من الإجراءات الحاسمة لبناء الثقة في الفترة التي سبقت وقف إطلاق النار.

** تشابه بين قضيتي “أيرلندا الشمالية” وإقليم “جامو وكشمير”

التشابه بين قضيتي “أيرلندا الشمالية”، وإقليم “جامو وكشمير” هو أن البروتستانت المعارضين للانفصال كانوا مدعومين من المملكة المتحدة، والكاثوليك الذين خاضوا حربًا دموية تحت راية الجيش الجمهوري الأيرلندي كان لديهم دعم ضمني من جمهورية أيرلندا، التي كانت تضمر رغبة في الأمة الأيرلندية الكبرى.

حتى بعد مرور 20 عامًا على الاتفاق، يقف المجتمعان منفصلين، حيث توجد مدارس وسكن ونوادٍ وأنشطة ثقافية منفصلة، وفي الواقع كل شيء منفصل، فانعدام الثقة عميق لدرجة أن مقبرة المدينة مقسمة والجدار (الفاصل) يمر تحت الأرض، لمنع حتى موتى المُجتمعَين من “التلاقي”.

ولكن ثمة مؤشرات واضحة على السلام أيضًا، ذكر ساتيش كومار، وهو مدرس من أصل هندي بجامعة “كوينز” المشهورة عالميًا في مدينة بلفاست، أن المنطقة اعتادت على أن تكون مليئة بالشكوك.

وكان مشهد الجنود البريطانيين المسلحين بعتاد المعركة، وهم يطاردون عناصر القوات الخاصة التابعة للجيش الجمهوري الأيرلندي على طرق بلفاست وتفجيرات القنابل والمواجهات- من معالم الحياة اليومية.

وقال كومار: “لا يوجد أي شرطي يمكن رؤيته الآن في أي مكان في الأسواق.. السلام سمح لرجال الأعمال والعقارات بالنمو”، مضيفًا أن طرق الأبواب والتفتيش في منتصف الليل كانت شائعة، ولم يكن من السهل التنقل في الليل.

في عام 2009، اعتبر مسلسل تلفزيوني حول أكثر المحاربين دموية، بثته قناة “ديسكفري” (أمريكية خاصة)، وقارن بين حركة “طالبان” في أفغانستان والجيش الجمهوري الأيرلندي، أن الأخير أشد فتكًا من ناحية الوصول إلى الأسلحة والتكتيكات.

تضم مدينة بلفاست فندق “يوروبا”، وهو أكثر الفنادق التي تعرضت للقصف في العالم، إذ استهدف 27 مرة، يقول الصحافيون إن بوابته استُهدفت مرارًا ليتصدر عناوين الصحف، واعتاد استضافة معظم الصحافيين الزائرين.

ووفقًا لما قاله كومار، فإن اتفاق “الجمعة العظيمة” عام 1998، وفي وقت لاحق اتفاقية “سانت أندرو” 2007، أعطتا الفصائل المتحاربة شعورًا بالنصر.

وبينما وقعت الاتفاقية السابقة بين حكومتي المملكة المتحدة وجمهورية أيرلندا، وقعت الاتفاقية الأخيرة بين الفصائل المتحاربة من حزب “شين فين”، و”الحزب الاتحادي الديمقراطي” البروتستانتي المتطرف، لتشكيل سلطة تنفيذية قائمة على تقاسم السلطة.

كما أنهت اتفاقية “الجمعة العظيمة” النزاع البريطاني – الأيرلندي الذي استمر طيلة سبعة عقود، والذي بلغ ذروته عام 1916 مع انتفاضة عيد الفصح في دبلن.

النزاع أشعل سلسلة من الأحداث، وقسّم المنطقة في نهاية المطاف، وأسفر عن تشكيل دولة منفصلة لجمهورية أيرلندا في الجنوب تضم 26 مقاطعة، بينما تم دمج 6 مقاطعات في الشمال مع المملكة المتحدة.

ظل الإقليم الشمالي، الذي يبلغ عدد سكانه مليوني نسمة، في حالة من الاضطراب، إذ واصل 45% من الأقلية الكاثوليك، ويسمون “القوميين”، القتال من أجل الاندماج مع جمهورية أيرلندا.

أما الغالبية العظمى 55% من البروتستانت (اتحاديين)، الذين كان يُنظر إليهم على أنهم غرباء ومستوطنون، ففضلوا الاندماج الكامل مع المملكة المتحدة.

وفي إطار عملية السلام، طُلب من المسلحين من كلا الجانبين نزع السلاح، لكن خلافًا لما حدث في الهند، كان الجانب المهم في نزع سلاح المسلحين هو أن بريطانيا لم تصر مطلقًا على أن يلقوا أسلحتهم في العلن، كما لم يضعوه شرطًا لاستئناف المفاوضات، وتم تشكيل لجنة دولية في وقت لاحق بقيادة جنرال كندي لمراقبة جمع الأسلحة.

** صيغة “مشرف” لتسوية نزاع كشمير وعملية السلام في أيرلندا الشمالية

وفقًا للاتفاقية، تخلت الحكومة الأيرلندية أيضًا عن مطالبتها بأيرلندا الشمالية، في حين تم السماح للمنطقة بالبقاء جزءًا من المملكة المتحدة، فقد سمحت الاتفاقية بالحق في الانفصال، الذي ينص على احترام رغبة الانفصال الذي عبرت عنه الأغلبية.

كما شكلت علاقة متداخلة بين بريطانيا، وأيرلندا، وأيرلندا الشمالية، حيث أنشأت مؤتمرًا حكوميًا بريطانيًا – أيرلنديًا لتعزيز التعاون الثنائي، ومؤتمرًا وزاريًا بين الشمال والجنوب يشرف فيه أعضاء السلطة التنفيذية والحكومة الأيرلندية الشمالية على التعاون عبر الحدود.

كما سُمح لسكان أيرلندا الشمالية بالحفاظ على جنسيات مزدوجة، إذ يحملون جوازات سفر أيرلندية وبريطانية.

وهذه الاتفاقية لا تُلزم النواب الجدد في الجمعية التشريعية (البرلمان) لأيرلندا الشمالية بأداء يمين بالولاء للسيادة البريطانية، أو بدء جلسات الجمعية بالنشيد البريطاني “عاشت المملكة”.

من جانبه، يعتقد المؤلف، الخبير القانوني البارز، إيه جي نوراني، أن نقطة التحول في النزاع الأيرلندي كانت عام 1990، عندما قال وزير خارجية أيرلندا الشمالية آنذاك، بيتر بروك، إن الحكومة البريطانية ليس لديها مصلحة أنانية إستراتيجية أو اقتصادية في أيرلندا الشمالية.

وأضاف بروك: “دورنا هو مساعدة وتمكين وتشجيع هدف بريطانيا.. إنها لا تستهدف احتلال أو اضطهاد أو استغلال؛ ولكن ضمان حوار ديمقراطي وخيار حر”.

لقد فتح تصريحه الأبواب أمام الجيش الجمهوري الأيرلندي للمشاركة في المفاوضات.

ويؤكد الخبراء في الهند وباكستان أن جزءًا كبيرًا مما يسمى بـ”صيغة” الرئيس الباكستاني السابق، برويز مشرف، لتسوية قضية كشمير كان يستند إلى اتفاق “الجمعة العظيمة أو اتفاق بلفاست”.

وفي هذا الصدد، أقر خورشيد محمود قصوري، الذي كان وزيرًا لخارجية باكستان في عهد مشرف، بأنه تم استخلاص دروس من عملية السلام في أيرلندا الشمالية أثناء صياغة خطة تسوية لقضية كشمير.

وقال قصوري إن مستشار الأمن القومي الباكستاني، طارق عزيز، ووزير الخارجية، رياض محمد خان، آنذاك، أجريا مناقشات استمرت أكثر من 200 ساعة مع ساتيندر لامبا، المبعوث الخاص لرئيس الوزراء الهندي السابق، مانموهان سينغ، من عام 2003 إلى عام 2008.

** ملامح تسوية “كشمير” المقترحة

قال قصوري إن المحاورين الهنود والباكستانيين عقدوا أكثر من 30 اجتماعًا في دبي، وكاتماندو، لصياغة خطة من 9 نقاط تشبه إلى حد ما اتفاقية “الجمعة العظيمة”.

وكانت الصيغة المكونة من تسع نقاط تشمل الحد من العنف من خلال التحكم في تحركات المسلحين عبر الحدود وتفكيك البنية التحتية للإرهاب، ونزع السلاح والحكم الذاتي وإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وتوقيع معاهدة سلام وأمن وصداقة بعد معالجة القضايا المعلقة إلى جانب نقاط أخرى.

وقال “لامبا” إن مانموهان سينغ كلفه بالعمل على جعل الحدود غير ذات صلة بالقضية، وتمكين التجارة والاتصالات والتواصل وتنمية الشعب الكشميري من كلا الجانبين، وإنهاء دورة العنف دون إعادة رسم الخريطة أو تبادل السيادة.

من جانبه، حذر السناتور الأمريكي السابق، جورج ميتشل، الذي كان له دور فعال في صياغة اتفاق 1998، من أن أي تراجع عن الاتفاق ربما يؤجج عودة العنف في أيرلندا الشمالية.

وقال إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الذي سيؤدي إلى إقامة مراكز جمركية على الحدود، ليس من مصلحة أحد.

وأضاف في تصريحات لصحيفة “أيريش نيوز”، ومقرها بلفاست، أن “الحدود الصارمة بين أيرلندا وأيرلندا الشمالية ستضر كليهما”.

بدوره يعتقد نوراني، الذي كتب باستفاضة حول عمليات السلام في أيرلندا الشمالية وكشمير، أن الموقف البريطاني الحالي سيقوّض كل المكاسب، وسيضع علامة استفهام حول نجاح عملية السلام في أيرلندا الشمالية.

كما أنه سيضر بقضية أولئك الذين يحاولون إبرازها كنموذج يحتذى به لتسوية النزاعات الأخرى.

وعلى غرار الحوار الحالي بين الولايات المتحدة، وحركة “طالبان”، لإحلال السلام في أفغانستان، أعطت عملية أيرلندا الشمالية درسًا مهمًا للعالم منذ وقت طويل، مفاده أنه بينما تستطيع الحكومات التعايش مع المعتدلين وإشراكهم في المناقشات، فإن المتطرفين وحدهم في نهاية المطاف هم الذين يجعلون الاتفاقات تصمد.

المشكلة الوحيدة مع الحكومات والشعوب في جميع أنحاء العالم هي أن ذاكرتهم قصيرة العمر، وأنهم يميلون إلى تكرار السير على الدروب المعهودة، والبدء في إعادة رسم الدائرة من جديد.

(الأناضول)

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية