لو أعرفها الساعةَ
ساعةَ موتي
لتزينتُ
لبِستُ الأغلى
وجلستُ أميرهْ،
لأُقابلَ مجهولاً
خافت منه الناسُ
وما خفتُ…
كتبت لميعة عباس عمارة هذه القصيدة في سبعينيات القرن الماضي، وصدقت نبوءتها، فقد ظلت حتى آخر عمرها تملك، بالإضافة إلى موهبة الشعر، موهبة الشباب الدائم.
أجمل ما لدى الشاعرة الراحلة، بالنسبة إلي، هو اسمها، لأن فيه ذكر لمدينتي «العمارة» وهي فردوس يحيط به سور من غابات النخيل، تحت ثقل شمسٍ عُتُل، وصحبة أنهار ونهيرات وبحيرات لا تُحصى. رغم ولادتها في العاصمة بغداد، ظلت لميعة تحمل اسم جدها الصائغ العماري، الصابئي، وكان هؤلاء يعيشون في مركز المدينة وفي القرى، الفقراء منهم يعملون في تهيئة القير الذي يغلف الزوارق النهرية من الخارج، يحمي الخشب الثمين من أن يبتل بالماء، والأثرياء يعتاشون من مهنة صياغة الفضة والذهب، وإلى هؤلاء كانت تنتمي أسرة الشاعرة. أمضت دراستها الابتدائية والثانوية في العمارة، وانتقلت بعد ذلك إلى بغداد لغرض الدراسة في دار المعلمين العالية، برفقة الشاعر بدر شاكر السياب، الذي كان يبدي لها دوما محبة جمة، لكنها محبة موقرة، وكتب فيها أجمل قصائده:
ماذا تريد العيون السود؟ إن لها
ما لستُ أنساه حين أنساها
نظم السياب هذا البيت للشاعرة، وهو من بواكير شعره، ويؤرخ للعلاقة بين الاثنين. الحب هو الفعل الوحيد الذي يحدث مرة واحدة، ويظل يحدث إلى الأبد. وفي السنين التي ابتُلِي بها بالداء، كان السياب يتخذ من هذا الحب مصدر قوة تجدد طاقاته، وتنشط روحه التي تضمحل يوما بعد يوم.
وبفضل الجو الذي كانت تعيش فيه الشاعرة في الدار العالية، ومعاصرتها لرواد الحداثة؛ السياب والبياتي ونازك الملائكة، الذين سوف يغيرون لدى العامة مفهوم الشعر، وطريقة كتابته، وكان لهؤلاء الدور في أن تدخل لميعة عباس عمارة الحياة الأدبية شهابا. كان بدر السياب يلقن الشاعرة مفاهيم أدبية تتعلق بكرامة العمل الفني، واستقلال الشاعر النفسي عما يحيط به، وغير ذلك مما كان له تأثير مباشر في نتاج الشاعرة. قصيدة تحمل عنوان «جامعات الملح» نظمتها لميعة بمناسبة صدور قانون الإصلاح الزراعي بعد الحركة التي جاء بها عبد الكريم قاسم، وأطاح بالحكم الملكي في العراق في تموز/يوليو 1958:
– يا هذهِ
لا تجمعي الترابَ والملحَ
خُذي عاليَهُ برقةٍ فإنه لا يركضُ.
كلَبَنٍ من دُرةٍ طيعةٍ لا ترفضُ.
– وكيف لا؟
وقد سمعتُ خبراً يُدمي الحشا ويُرمضُ:
سيزرعونَ الأرضَ، كل الأرضِ يا اُخيتي
فلا سِباخ بعدَ حينٍ تمخضُ.
تأثير القصيدة السيابية هنا واضح، كأن الأدوات اختيرت بأيدٍ واحدة، وكذلك التنسيق بين الأبيات، وتوزيع المشاهد. ثمة صدق في المشاعر في القصيدة، ورغبة قوية في قول الشعر المختلف، إلا أن نفائسَ الإبداع لا تأتي بها الرغبة، ولا الجهد الذي تكون آثاره مرئية، ولا الصدفة. الفن العظيم يتطلب موهبة كبيرة وإرادة راسخة وصبرا يفوق قدرة البشر. في شعر لميعة هنالك حشد من الانطباعات التي لا تتفق بمجموعها لتكوين قصيدة عظيمة، وهذه تتطلب أكبر قدر من الأحاسيس من أجل قول بيت واحد، أو شطر واحد، أو كلمة.
كتبت لميعة عباس عمارة الشعر الفصيح والشعبي، ولها ست دواوين مطبوعة، وكانت تقول الشعر مثلما يخطر على بالها، ولغتها سهلة للغاية، ومواضيع شعرها بسيطة، وأغلبه بناتي لم تتجاوز قائلته إلى حد ما عتبة البيت:
«في نظراتي حب| في نبراتي حب| في أنفاسي حب| حتى في مروحتي الصندل| في عقدي العنبرِ| حب| حب| حتى في الصمت».
قلت إن أجمل ما لدى الشاعرة، بالنسبة إليّ، هو اسمها، والأجمل ثانية، هو رسمها؛ سحنة سمراء صافية، وليل عميق في العينين، بالإضافة إلى اللمعة الساحرة.. كأني أرى في وجهها ذكرى لنساء من أهلي.
يتحدث أورهان باموق في كتاب «إسطنبول» عن لون المرأة الشرق أوسطية، بياض أقرب إلى الخمري منه إلى الأشقر، وتمتد هذه الصبغة حتى الشاطئ الإسباني، وتخف تدريجيا حتى تختفي ما إن نبتعد عن البحر. فإذا كانت وجهتك بلاد ما بين النهرين، طلعت لك النخلة عند مشارف مدينة تكريت، غابات نخيل ناهضة نحو السماء تكللها شمس قوية ساطعة، ويأخذ، ابتداءً من هذا المكان، لون الأرض، وطعم الماء بالتبدل، وتتغير تبعا لذلك ألواننا، وتصير السمرة هي الغالبة، إنها ليست السمرة الهندية النبيذية، ولا البرونزية التي تختص بها بلدان المتوسط. لدينا هنا، أي في بلاد الرافدين، سُمرات حنطية وطحينية وعجينية، وأخرى ترابية وطينية وحجرية، ولكل واحدة طبيعتها الخاصة، وحوارها المميز مع العين، وإذا انحدرت إلى الجنوب أكثر فسوف تتبين سمرة شديدة تقارب لون الفحم. كانت الحياة تمور في دماء لميعة عباس عمارة، السمراء المليحة، وكأنها تعيش في مشارف ربيع غير مؤكد. وهي شابة، كانت تمتلك جميع مقومات الجمال الذي تبتدعه آلة الفن. وعندما طعنت في السن، بقيت شعلة الضوء في طلعتها. تنفعل في أثناء إلقائها الشعر، وعيناها مكحلتان ببراعة فائقة حتى كان من العسير أن يتبين المرء فيهما دموع الفرح من الحزن:
«أرد أسألكْ| وبحسن نية محلفك بالله تِرِدْ (أي تجيب)
ربك بيوم الْصوركْ
كم يوم طينك نقعه بماي الوردْ»
وهذا الشعر لا يذهب إليه العامة، لكنه يحضر إليهم في كل وقت، في الحفلات التي تُلقي فيها لميعة قصائدها، أو بواسطة أشرطة التسجيل التي تُذاع في كل مكان ووقت. فخرنا أن نبدع بيتا من الشعر لا سبيل إلى نسيانه. يبقى العراقيون والعرب يحفظون للشاعرة لميعة عباس أغنية من تأليفها أداها المطرب فرج وهاب هي (درويش انه ﭽنت زادي العشب والماي) كما لا ينسى الجميع أغنية فاضل عواد (اشتاكلك يا نهـر يا لـبردك الجـنة) وأغنية سعدون جابر (أرد أسألك: وبحسن نـية محلفـك بالله تـرد) وهما من تأليف الشاعرة.
ظلت لميعة وفية لبيئتها العمارية، وقد أسبغت عليها تلك البلدة شكل وطريقة تفكيرها، وتكون الحياة عظيمة في المعنى وفي المبنى عندما تتساوق لحظة البدء مع ساعة المنتهى. دِيانة الشاعرة هي الصابئية، لكنها تربت في مدينة العمارة، وكان لدى الناس في تلك السنين قدر من تشدد ديني يساوي قدر التسامح، فلم يكونوا صابئيين ولا يهودا ولا مسيحيين ولا مسلمين، كانت ثمة اشتراكية دينية امتزجت فيها جميع هذه الدماء حتى اختلفت وتشابهت، نوع من حرية دينية أعطت الشاعرة قوة روحية، كما أن الماركسية التي اتخذتها مذهبا، وبقيت وفية له إلى آخر العمر، أعطتها قوة روحية تمكنت بواسطتها، من أن تصون حريتها من أن تتبدد. وهذا هو سر تمتعها بشباب طوال عمرها، حتى أن من يشاهدها وهي تلقي شعرها، يراها قطعة فنية أكثر نفاسة من قصائدها التي تلهب حماسة الحاضرين.
«كذبتْ مرآتي
صدقتْ عيناكَ»
هل كتبت لميعة هذا الشعر لبدر السياب؟ الكلام بسيط، وعميق، كما أن النغمة، والنبرة، والتأثير فاعل، وهذا ما يمتاز به الأدب الذي تمده التجربة الحية بنسغ لا تخطئه العين. إن فيه نظرة امرأة ألِفت الحب وشمت رائحته مرارا، فهي تتحدث عنه ببساطة خدرت السياب فكتب فيها أجمل قصائده:
«عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
عيناك حين تبسمان تورق الكروم
وترقص الأضواء… كالأقمار في نهر»
هو الوصف الأكثر شهرة في شعر السياب، وقد نظمه في عينيْ لميعة عباس عمارة. تسمي المرأة في العراق حبيبها «بستان قلبي» ويدعوها الرجل «بستان عيني» وما بين العين والقلب تكون خطوات الحب الأولى، حيث يُكتب الشعر الذي يدوم عناق الحب فيه. والغريب في الأمر أن الشاعرة لم تكن على دراية بحب السياب لها إلا بعد موته، وظل هذا الود يجري في عروقها. وفي أحد الأيام، وكان ذلك بعد حواليْ عقدين من وفاة ملهمها الحب والشعر، أي بدر شاكر السياب، خاطبته لميعة بهذه القصيدة:
حببتُكَ حتى استحالت دمائي فضيلة
وحتى وقاني هواكَ
بروقَ الرعود الجميلة،
فأنتَ بعيدٌ
وأنتَ قريبٌ
تساويتَ عندي
كبيتٍ من الشعر يملأُ صمتي
وتمنعني رهبةٌ أن أقوله.
هو شعر نابع من خبرة مقهورة غذاها الحرمان والبُعد. هل بلغت هذه الكلمات الرقيقة شاعرنا السياب، بينما كان جسده يسكن أحضان التراب؟ أستطيع أن أؤكد هذا الأمر، وأثبت على تأكيدي، طالما أن الشعر في معناه الأخير هو محاولتنا في أن نكون ونستمر في كينونتنا، أي أن نموت من دون أن نموت.
كاتب عراقي
مقال رائع في استذكار الشاعرة الجميلة التي حفرت في الذاكرة وجودها الرائع