في شهر يونيو الماضي، قمت بزيارة أخرى لواشنطن بدعوة من أحد مراكز دراسة السياسات المرموقة في العاصمة الأمريكية. وكانت مناسبة لحوارات معمقة مع عدد من الأكاديميين والمحللين وصناع القرار هناك. ولأن ‘المسألة الإسلامية’ كانت على قمة الأجندة السياسية بسبب الأحداث الملتهبة في المنطقة، فقد فرضت الضرورة استعادة خيوط حوار حول هذه المسألة بدأ في خريف عام 1984. ففي ذلك الخريف المشهود، قرأ بعض محللي واشنطن، ومن يطلق عليهم في مزيج من السخرية والتوقير ‘الحكماء’ (‘بنديتس’)، ‘بشريات سارة’ لما رأوا أنه بوادر انحسار المد الإسلامي، فساد السرور في وزارة الخارجية الأمريكية التي انتشت أيما انتشاء بهذه الأخبار.
استند هذا التحليل على عدة مؤشرات ‘انتخابية’ خلال الأشهر السابقة، كان من أبرزها خسارة الإسلاميين انتخابات الاتحادات الطلابية في الجامعات السودانية، وحصول الإخوان المسلمين في مصر على عشر مقاعد فقط في البرلمان في انتخابات خاضوها على لائحة حزب الوفد، وحصول الإسلاميين على نسب متدنية لم تزد على 10′ في انتخابات نظمت في باكستان والكويت. وقدر رأى الخبراء وصانعو القرار في هذه المؤشرات دلائل متضافرة على أن التيار الإسلامي قد بدأ في التراجع بعد موجة ‘الصحوة الإسلامية’ التي تنامت في أواخر السبعينات، خاصة بعد الثورة الإسلامية في إيران.
بعد اطلاعي على فحوى هذا التحليل وحيثياته عبر مصادر مطلعة، نشرت في مجلة ‘أرابيا’ الصادرة في لندن في مطلع عام 1985 قمت فيه بتفنيد هذا الاستنتاج وحيثياته معاً، حيث كانت الأسانيد التي اعتمد عليها المحللون غاية في الضعف والتهافت. فكيف يمكن وصف ‘الانتخابات’ التي عقدت في مصر والكويت بأنها مقياس حقيقي لشعبية أي تيار؟ يكفي أن جماعة الإخوان في مصر كانت لا تزال محظورة، مما اضطرها للترشح على قائمة حزب الوفد، ومع ذلك فاز كل مرشحيها على تلك القائمة تقريباً. أما في الكويت، فكان من مظاهر هلع الحكومة أن السياسي اليساري المعارض، أحمد الخطيب، الذي كان محظوراً سياسياً لسنوات طويلة، أخرج من التغييب القسري فجأة، وفتحت له كل منابر الإعلام الرسمية وغير الرسمية في محاولة يائسة للتصدي لصعود الإسلاميين هناك. وعندما يلجأ نظام إلى مثل هذه التكتيكات اليائسة فإن هذا يشير، بالعكس، إلى قراءة بأن التيار الإسلامي هو الصاعد. هذا فوق أن قوانين الانتخاب في الكويت لا تسمح بأحزاب أصلاً، وتفرض قيوداً كثيرة على حرية ونزاهة الاقتراع. وحتى في الوقائع التي كانت فيها الانتخابات حرة نسبياً، كما كان الحال في انتخابات اتحاد طلاب جامعة الخرطوم، فإن ‘سقوط’ الإسلاميين هناك لم يتأت إلا بعد تحالف كل قوى اليمين واليسار (وبعض الإسلاميين) ضدهم. ولا شك أنه من المبالغة وصف انتخابات توازنت فيها أصوات تيار واحد مع أصوات كل التيارات الأخرى على الخارطة السياسية بأنها علامة ‘تراجع’ لذلك التيار.
خلصت في تلك المقالة إلى استنتاجين، أولهما أن دعوى التراجع لا تستند على حيثيات صحيحة، وثانيهما توقع انحسار التيارات الإسلامية المعتدلة لصالح التيارات المتطرفة المعادية للغرب.
لم تمر بضع سنوات حتى أصدر الأكاديمي الفرنسي أوليفر روي في مطلع التسعينات كتابه المشهور ‘فشل الإسلام السياسي’، وهو كتاب نشر بين يدي النجاح الانتخابي الكاسح للإسلاميين في الجزائر وصعودهم في مواقع أخرى كثيرة، من الخليج إلى المحيط ومن اندونيسيا إلى تركيا. في نفس تلك الحقبة بدأت التوقع الثاني يتحقق جزئياً، حيث تصاعد نفوذ التيارات المتطرفة في مصر والجزائر والباكستان وأفغانستان والسعودية وغيرها، وليس على حساب التيارات المعتدلة كما توقعنا، حيث أن تلك التيارات واصلت نموها.
في عام 1993، أي بعد عام من صدور الترجمة الإنكليزية لكتاب روي، دعيت وبعض الإخوة (أذكر منهم الأخ الصديق جمال خاشقجي، الصحافي السعودي المشهور) لندوة نظمها مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك، ولكن ليس لمناقشة ‘فشل الإسلام السياسي’ هذه، بل للتأمل في ‘مخاطر’ صعوده. وكانت مجلة ‘فورين أفيرز’ التي يصدرها المجلس نشرت في ربيع ذلك العام مقالة للصحفية جوديث ميلر (نيويورك تايمز) ترى فيها صعود التيار الإسلامي قدراً مقدوراً. وقد حذرت على هذا الأساس من خطأ سياسة الترويج للديمقراطية التي كانت الإدارات الأمريكية تتبناها (رسمياً على الأقل). وبحسب ميلر فإن هذا الترويج سيؤدي إلى فوز الإسلاميين، وهم بطبيعتهم معادون للغرب، ومعادون لإسرائيل ومعادون للمرأة (هذه الإضافة الأخيرة من قبيل المحسنات، لأن هناك أنظمة شديدة العداء للمرأة، ولكن الإدارات الأمريكية تحبها حباً جماً).
كان تعليقي الرئيسي على هذا السجال هو أنه ليس بمقدور الإدارة الأمريكية ولا غيرها وقف المد الإسلامي، وكل ما سيحدث هو أن الغرب سيكتسب عداء هذه التيارات الصاعدة. وأذكر وقتها أن أحد المشاركين قال لي خارج الاجتماع إن نقاشنا هذا نقاش ‘أكاديمي’ بالمعنى السيىء، لأن السياسة الأمريكية في هذا المجال محددة ومفروغ منها. فالرئيس الأمريكي كلما استقبل حلفاءه من حكام المنطقة في البيت الأبيض، بدءاً من زعماء إسرائيل ومروراً بحكام الدول الموالية في مصر وتونس والمغرب والأردن ودول الخليج، فإنه يسمع رسالة واحدة: الإسلاميون هم الخطر الأكبر. وبالتالي فإن السياسة الأمريكية لا بد أن تكون هي العداء الصريح للإسلاميين ومحاربتهم بكل وسيلة ممكنة.
في نهاية التسعينات، وبعد أن تحقق الجزء الثاني من ‘النبوءة’ باستيلاء الطالبان على أفغانستان وإعلان ‘الجبهة العالمية لمحاربة اليهود والصليبيين’ (القاعدة) بزعامة بن لادن، بعثت لي جوديث ميلر بمخطوطة كتاب جديد يتنبأ هذه المرة بانحسار المد الإسلامي طالبة التعليق. لم أزد على أن بعثت لها بصورة من مقالتي سالفة الذكر، مع التذكير بأن الجزء الثاني من النبوءة (أي انحسار المد الإسلامي المعتدل) لم يتحقق، بدليل وصول ‘الإسلاميين’ للحكم في تركيا لأول مرة بقيادة نجم الدين أربكان في عام 1996، والصعود الأسطوري لتيارات إسلامية في ماليزيا واندونيسيا ومعظم الدول العربية.
الطريف أن أشرس خصوم الإسلاميين، وعلى رأسهم حكام مصر وتونس والجزائر، رغم اجتهادهم في ‘استئصال’ التيارات الإسلامية، وافتخار بعضهم بالنجاح في ذلك، كانوا ابرز المروجين لمقولة أن القضاء على التيار الإسلامي مستحيل، وأن أقل تراجع للقبضة الأمنية ستعني وصولهم للسلطة. وقد عبر الرئيس المخلوع حسني مبارك عن هذا الرأي بصراحة ووضوح في مقابلة مع ‘الواشنطن بوست’ في عام 2002 استشهد فيها بمحاولة فاشلة لمنع إقامة جنازة شعبية لمرشد الإخوان السابق مصطفى مشهور الذي لقي ربه في ذلك العام. وبحسب مبارك فإنه وجه أجهزته الأمنية بإغلاق كل مداخل القاهرة، وفرض طوق حصار على مكان الجنازة لمنعها من التحول إلى حدث جماهيري. ومع ذلك شهد الجنازة أكثر من ثمانين ألف مشيع. وخلص مبارك إلى أن أي انفتاح ديمقراطي في مصر سيعني استيلاء الإخوان على السلطة في مصر وكذلك في الأردن والسعودية وكل البلدان العربية. (أنظر إلى هذه الصراحة المحببة حين يتحدث الزعيم إلى أحبابه الأمريكان، فهو يعترف بأنه دكتاتور، وسيظل كذلك، ويطلب ‘التفهم’. وهذا ينفي أي شبهة بأن هؤلاء ‘الاصدقاء’ لم يكونوا على علم كامل بالصورة كما يدعي البعض بعد ذلك).
هذه المقدمة كانت ضرورية للتذكير بأن استبشار بعض خصوم الإسلاميين بالانتكاسة التي تعرض لها حكم الإخوان في مصر، واعتبارها ‘نهاية للمشروع السياسي الإسلامي’، هي من قبيل التعلق بالأوهام. ذلك أن تكرار نعي الإسلام السياسي، بحسب تعبير مارك توين حين بلغه نبأ ‘وفاته’، هو ‘خبر مبالغ فيه’. ويكفي أن في طليعة المستبشرين ‘الزعيم الأوحد’ بشار الأسد، لأن هذا وحده يعني أن أمام الإسلام السياسي مستقبل طويل وزاهر إن شاء الله. ذلك أولاً لأن النظام السوري قنن منذ عام 1980 حكم الإعدام (وبأثر رجعي حتى على من ‘تاب’) في حق كل من ينتمي للتيار الإسلامي. فإذا كان مثل هذا الزعيم الدموي يأتي بعد ثلث قرن ليقول بأن من أعدمهم وأبادهم هم أكبر خطر على نظامه المتهالك، فهذا وحده يكفي. من جهة أخرى فإن عداوة مثل هذا النظام وأشباهه للتيار الإسلامي هي أفضل دعاية لهذا التيار. فإذا كان هؤلاء أول من يعترف بأن بقية التيارات لا تشكل خطراً على نظامهم، فهم يدعون كل ضحية إلى أن يصبح إسلامياً.
نحن لا نزال هنا في مقام التحليل العلمي الموضوعي. فالحديث عن صعود متوقع للتيار الإسلامي المتطرف لا يعني أننا نؤيد مثل هذا التطور أو نتمناه، وإنما نحن نقرأ الوقائع ونبني استنتاجات على شواهد ملموسة. وكنا قد توقعنا في مداولات في مؤتمرات مشهودة نظمناها هنا في الجامعة في أعوام 2006، 2007، و2008 (وبحوث منشورة نشر آخرها في عام 2010) صعوداً مفاجئاً للإسلاميين في دول مثل مصر وتونس. وقد حذرنا وقتها مما وصفناه بـ ‘سيناريو غزة’، حيث وصلت حماس للسلطة دون أن تتوقع ذلك أو تكون مستعدة له. وكان تحذيرنا المكرر هذا موجهاً بالتحديد لإخوان مصر، لأنهم في نظرنا لم يهيئوا أنفسهم لاحتمال الوصول إلى السلطة، وظلوا بالمقابل يؤكدون أنهم لا يريدونها ولا يسعون إليها. وكنا نقول: من الأفضل أن يسعى اي فصيل سياسي للسلطة، وأن يكيف سياساته على هذا الأساس، لأن البديل قد يكون كارثياً.
بعد وصول الإخوان للحكم انتقدنا كذلك سياستهم غير الموفقة، وحذرنا من ‘سيناريو جزائري’ هذه المرة. وللأسف صدقت توقعاتنا في المرتين: وصل الإخوان للسلطة وهم غير مستعدين لها وبدون توقع، ثم نتج عن ذلك ما يشبه السيناريو الجزائري. وفي نظري أن الإسلاميين (فيما عدا تونس) غير مؤهلين لتولي السلطة وغير مستحقين لها. ولكنا لسنا نحن الشعب المصري أو الجزائري، ولسنا من ينتخب.
ويمكن أن يقال أن أفضل دعاية للإسلاميين كانت ولا تزال هي خصومهم. يكفي أن شهراً واحداً من حكم التحالف العلماني-الليبرالي-المخابراتي في مصر جعل حكم مرسي الفاشل يظهر كأنه عصر ذهبي يقرب من الخلافة الراشدة. ففي عهد مرسي كان الرئيس يشتم ويحقر، وكانت مقار ‘الحزب الحاكم’ تحرق وتدمر، والقصر الرئاسي يحاصر، ومع ذلك لم يكن هناك معتقلون سياسيون ولا تعذيب ولا إغلاق للصحف أو القنوات، ولم يكن هناك قتل للمتظاهرين السلميين. أما ما نشهده في العصر المباركي الثاني فلا يحتاج إلى تعليق.
وما دام أمثال الأسد ومبارك وورثتهم وأنظمة النهب الوراثي المتآكلة هي البديل الوحيد المطروح، وما دامت المقارنة معدومة بين أسوأ النظم الإسلامية وأفضل النظم المنافسة، وما دامت القوى التي تسمي نفسها ليبرالية أو يسارية (ويسار آخر الزمان هو إلى الليبراليين الجدد أقرب) تتحالف مع تلك الأنظمة، فيمكن أن نتوقع استمرار صعود الإسلاميين لسبب بسيط، وهي أنهم لا يزالون أفضل البدائل بالنسبة للمواطن العادي.
‘ كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن
القوة التي اسقطت حكم الاخوان وفتحت ابواب جهنم على الاسلامين ليست بقادرة على تحسين الامور من الناحية المعاشية والتي هي اكثر ما يهم الراي العام والمسيطر عليه لتهدئته؟؟؟؟ وبتالي الانهاء على حكم الاسلامين
ولا تنسى يا دكتور ان حرمان الاسلاميين من استحقاقهم الانتخابي واقصائهم سيبرر للمتطرفين استخدام القوه ويشجع ويقنع حتى المراقب والمتفرج المتعاطف معهم بأن لا حل الا الجهاد
تحليل عميق ….تحيه للكاتب المحترم
تحليل ورصد رائع … وفقك الله ..
ليت من يعمل في الشأن العام يسترشد بآراء الخبراء والمحليلين السياسين ( الحقيقيين ) …
وفقك الله …
من اروع ما قرأت .. تحليل ممتاز ولكن قومي لا يفقهون!.
الله عليك …… ويكفي في مصر أن نقارن بين حشد اكثر 15 حزب وحشود حزب واحد ويكفي أن كل الاحزاب تكتلت ضدهم في الانخابات وفازوا
حل أزمة مصر يتم بعودتها لنظام ملكي دستوري ديمقراطي شرعي وخفض معظم ميزانية الجيش وتسريح معظم أفراده وإبعاد طائراته ودباباته لمناطق الحدود وبيع شركاته ومصانعه للقطاع الخاص فمشكلة مصر بدأت منذ ستة عقود عندما قام جيش مصر بأول إنقلاب عسكري وألغى نظام ملكي برلماني وعطل الدستور وعزل الملك وحل البرلمان المنتخب واستبدل علم الملكية بعلم الجيش واغتصب السلطة من الملك والشعب بحجة تحرير فلسطين 1948 وهو ما لم يحصل بل تم احتلال كامل فلسطين بعدها وأقام الجيش دولةً داخل الدولة واغتصب أموال المصريين وسحق الطبقة الوسطى وحول مصر عالةً على دول الخليج والغرب بعد أن كانت قبل ستة عقود أفضل دولة بالشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا بكل نواحي التعليم والاقتصاد والديمقراطية والإنتاج والنفوذ الإقليمي فتحولت إلى دولة شحاذة ومواطنيين مسحوقين وملايين المغتربين بأصقاع الأرض، بل أصبح بإمكان أي عسكري مصري مستجد أن يعيد الكرة بشكل ممل فيعطل أي دستور مستفتى عليه ويحل أي مجلس شورى منتخب ويعزل أي رئيس منتخب بل ويعتقله ويعين مكانه شخصاً غير منتخب ويؤيد إصدار إعلانات غير دستورية ويغتصب السلطة بأي حجة من نوعية “إني أريكم ما أرى”.
Good read
ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين
ما شاء الله تحليل قيم وموضوعي جدا، وأزيد فأقول أن المشروع الإسلامي سيتحقق في المشتقبل القريب بحول الله تعالى ليس لأنه أفضل البدائل بالنسبة للمواطن العادي فقط بل لأنه المشروع الأنظف و الأجمل و الطاهر و ووو الأفظل على الإطلاق لكل البشرية.
اول مرة اقرأ للدكتور عبدالوهاب الافندى…….. وكنت متعجبا هل هناك من المحللين السياسيين والمثقفين عنده كل هذه القدرات لتفسير وتحليل السياسة التى تدور حولنا بهذه العقلانية وهذا المنطق الرائع شكرا يادكتور فقد انبهرت بهذا المقال الرائع فعلا