منذ سنوات قليلة، بدأت عازفة البيانو ومؤلفة الموسيقى التركية بشرى كايكجي Büşra Kayıkçı، في تقديم أعمالها الخاصة وإصدار ألبوماتها الموسيقية. ومن عمل إلى آخر، تتضح ملامح التجربة الفنية، وتصير عناصرها أكثر تماسكاً، وتتبلور مصادر الإلهام، وما تميل النفس إلى التعبير عنه من خلال الألحان، وطبيعة النظر إلى الموسيقى، وكيف يجب أن تكون.
ولدت بشرى كايكجي ونشأت في مدينة إسطنبول، التي لا تزال تعيش فيها حتى اليوم، وتلقت منذ طفولتها دروس البيانو، بالإضافة إلى دروس في الرسم وفن الباليه. وإن كانت قد أكملت السير في طريق البيانو والموسيقى، فإن صلتها لم تنقطع، بشكل أو بآخر، بكل من الرسم والباليه، فقد اعتمدت فرقة باليه نيويورك، على بعض مؤلفات كايكجي الموسيقية، في أحد عروض الرقص الحديث التي قدمتها الفرقة. وكذلك تقوم الفنانة التركية بتأليف بعض المقطوعات للبيانو، من وحي أشهر الرسامين العالميين، وأقطاب المدارس الفنية المختلفة، مثل كلود مونيه، وفاسيلي كاندينسكي، وفلورنس هنري، وغيرهم من الفنانين. كما أنها لا تزال تمارس الرسم، وتدمج رسوماتها بالموسيقى، من خلال الأعمال المصورة، التي يستطيع المرء من خلالها، التعرف على بعض ما تتمتع به من مواهب فنية.
تؤلف كايكجي موسيقاها الخاصة، لكنها تقوم أحياناً بإعادة تقديم بعض الأعمال، بارتجالات وتنويعات جديدة، ولا تقتصر اختياراتها على الموسيقى الكلاسيكة، بل تذهب إلى الموسيقى المعاصرة والحديثة، وإلى الغناء أيضاً، لتعيد صياغة تلك الألحان، وتمنحها تجربة سماع جديدة بصوت البيانو المنفرد. ومن الأغنيات التي أعادت صياغتها، وتقديمها كقطعة موسيقية بحتة، أغنية تحمل عنوان «أغنية الهرم» Pyramid Song، لفريق الروك الإنكليزي راديوهيد Radiohead. لكنها أطلقت على مقطوعتها الجديدة المستوحاة من الأغنية، عنوانا تقديراً لأغنية مصرية Tribute To Egyptian Song.
تقدم بشرى كايكجي موسيقى البيانو، وما أبدعته حتى الآن، لا يزال يدور في إطار المقطوعات القصيرة الهادئة، التي تعبر غالباً عن فكرة واحدة، يتم التركيز عليها بعيداً عن التشعبات والامتدادات، وتبدو الأنغام كتأملات في تلك الفكرة، كما تتسم هذه الأعمال بالوضوح والبساطة، ويكون لديها العناوين الدالة الشارحة لمحتواها. وتعد موسيقى كايكجي بطبيعة الحال، تعبيراً عن عالمها الخاص، وثقافتها واهتماماتها، وكل ما يؤثر فيها كفنانة، وأحياناً تكون الموسيقى بوحاً شخصياً، ومشاركة لبعض الذكريات مع المستمع. درست بشرى كايكجي الهندسة المعمارية الداخلية، ولديها اهتمام كبير بالمكان، ينعكس بوضوح على موسيقاها وعناوين أعمالها، فقد اختارت لألبومها المقبل، المنتظر صدوره في الرابع والعشرين من الشهر الحالي، عنوان أماكن Places، ومن بعض مقطوعات هذا الألبوم، التي أطلقتها تباعاً وباتت متاحة، مقطوعة موسيقية تحمل عنوان قبة Quba، والقبة كما هو معروف من أهم معالم العمارة الإسلامية، تحتها يجتمع المصلون في خشوع، لكن وجودها ليس محصوراً في المساجد فقط، بل يمكن رؤيتها في الكثير من المنشآت المصممة على الطراز الإسلامي. عن هذه المقطوعة تقول بشرى كايكجي، إن القبة ترمز إلى الاجتماع والتوحد والتضامن تحت سقف واحد، وأنها ألفت تلك القطعة تعبيراً عن حزنها لما هو واقع في هذا العالم، وأملها في أن تجتمع قلوب البشر يوماً.
انفتاح على الثقافة العربية
من يستمع إلى أعمال بشرى كايكجي، يلاحظ أن لديها انفتاحاً على الثقافة العربية من شعر وموسيقى وغناء، ويلاحظ كذلك اعتزازها باللغة العربية التي تستخدم بعض مفرداتها، كعناوين لمقطوعاتها الموسيقية، كما في مقطوعة «قارب» أو «قريب» Qarib، وتقول كايكجي إنها ألفت هذه المقطوعة، بعد أن عادت من إجازة قضتها مع عائلتها، على أحد سواحل تركيا، وإنها عانت من بعض الأوقات الصعبة خلال تلك الإجازة، ولم يكن يمنحها شيئاً من الهدوء والراحة، سوى مشهد قارب يتهادى فوق المياه، وعندما قررت أن تستخدم المفردة العربية «قارب»، لاحظت أنها تنطقها بالتركية «قريب»، وأن القريب اسم من أسماء الله الحسنى، وليس أقرب إلى الإنسان من الله سبحانه وتعالى، الذي يحيط بكل شيء علما. ومن الأعمال العربية ، التي أعادت بشرى كايكجي تقديمها، بتنويع موسيقي جديد، أغنية «حبوا بعضن» اللبنانية للسيدة فيروز والأخوين رحباني، وهي أغنية عاطفية رقيقة، ذات لحن هادئ رهيف، كان ملائماً تماماً للبيانو في نسخة كايكجي، وقدمت بعض كلمات الأغنية لمشاهدي الفيديو، بكل من اللغة العربية واللغة الإنكليزية، التي تقول: «بيقولوا الحب بيقتل الوقت.. وبيقولوا الوقت بيقتل الحب.. يا حبيبي تعا تا نروح.. قبل الوقت وقبل الحب». وتقول كايكجي إنها حلمت كثيراً، بإعادة تقديم أغنية من أغنيات السيدة فيروز، وإن أغنية «حبوا بعضن» على وجه الخصوص، تحتل مكانة كبيرة وخاصة في قلبها، منذ اليوم الأول الذي استمعت فيه إليها، وتبدي إعجاباً كبيراً بفكرة الأغنية وكلماتها ولحنها، والقصة التي رسمها الأخوان رحباني، عن عاشقين وقعا في الحب واجتمعا ذات شتاء، ثم افترقا وذهب الحب في الشتاء التالي.
وكذلك من مؤلفات بشرى كايكجي الموسيقية، التي ترتبط بالمكان وبالثقافة العربية، مقطوعة تحمل عنوان «شجرة الزيتون»، حيث تعبر من خلالها عن السلام الذي يمنحه إياها شجر الزيتون، وعن ذكرياتها منذ الطفولة، والتقليد العائلي بقضاء بعض الوقت من كل عام في منطقة تمتلئ بأشجار الزيتون في تركيا. وتقول إن شجر الزيتون الذي يعيش ما بين 500 سنة إلى 1000 سنة، يحمل ذاكرة هائلة، وتذكر كايكجي شعر محمود درويش القائل: «لو يذكر الزيتون غارسه.. لصار الزيت دمعا». كما تذكر أبياته الأخرى التي تقول: «أنا من هناك.. ولي ذكريات.. ولدت كما تولد الناس.. لي والدة.. وبيت كثير النوافذ.. لي إخوة.. أصدقاء.. وسجن بنافذة باردة.. ولي موجة خطفتها النوارس.. لي مشهدي الخاص.. لي عشبة زائدة.. ولي قمر في أقاصي الكلام.. ورزق الطيور.. وزيتونة خالدة». ومؤخراً تبدي بشرى كايكجي تعاطفاً كبيراً مع غزة، وما تتعرض له من جرائم الإبادة والمجازر الرهيبة، وتتفاعل من خلال صفحاتها الرسمية على وسائل التواصل الاجتماعي، وتشارك في الحديث عما يجري، وحجم الألم والمعاناة، وما يقاسيه أهل غزة من جحيم يفوق التصور، ومن تفاصيل الألم التي لا حدود لها ولا نهاية، تتحدث كايكجي عن معاناة النساء الحوامل في غزة، وتقول إنها خاضت تجربة الوضع لمرتين، وفي كل من المرتين، وعلى الرغم من أن عملية الوضع كانت تتم في مكان شديد الرقي والنظافة، إلا إنها كانت تعاني ألماً شديداً وخوفاً كبيراً من أن يحدث لها أي مكروه، بل كانت تشعر بأن الموت يهددها. وتحاول عبر صفحاتها أن ترسل استغاثة إلى العالم، بصوت نساء غزة.
كاتبة مصرية