بشرية العامين بين قوسين

نحن بشرية العامين بين قوسين: العامين المسجلين في التقويم، ولكن المفرغين من الكينونة والمصير. نسمّيهما عامين معلّقين مطوّقين بقوسي الاستثناء الكوني العظيم لأن 2020 لم يقع، ولأن 2021 لن يقع (تماما كما أن «حرب طروادة لن تقع» في عنوان جان جيرودو المسرحي الشهير). لأن كلا من هذين العامين المعطّلين «ما ينحسبش» من عمرك أو عمري أو عمر أي من الناجين من الحرب العالمية الثالثة التي شنها الفيروس دون سابق إعلان ودون نافذة شروط أو مفاوضات. ما ينحسبش. صدقت أم كلثوم، بصرف النظر عن أنها توصلت إلى هذه النتيجة الحسابية السلبية بمقدمات عاطفية شخصية بينما توصلنا إليها، نحن بشرية العامين بين قوسين، بالمقدمات الوبائية العالمية التي لا تكتفي بحصد من تريد من الضحايا وإنما تجتهد في تعطيل بقية الإنسانية تعطيلا، بتجميد حياتها وشتى إمكاناتها حتى إشعار قد يأتي وقد لا يأتي.

مضى 2020 هدرا بين هلع، وإصابات، ووفيات تجاوزت عالميا مليونا ونصف المليون. أما الناجون الباقون حتى الآن على قيد الحياة، فقد مر العام أمام عيونهم مرور المنام دون أن يتمكنوا من احتضانه أو مجالسته أو مخاطبته أو حتى مجرد رؤيته. مر 2020 خلسة وتركنا معلقين بين عام ولا عام. بين كون ولا كون. حيث تضافرت القيود المتزايدة على أبسط الحريات الفردية (من حركة، وخروج، وسفر، ولقاء مع الأصحاب، وجلوس في المقاهي، وارتياد لقاعات المحاضرات والسينما والمسرح، وحتى زيارة الآباء والأجداد والأقرباء من المسنين) مع أوامر الحجر المتواترة، لتلزم الناس بيوتهم في ما يشبه الإقامة الجبرية الدائمة.

 صار الناس محرومين من هذه الفضاءات المغايرة أو الغيرية، سواء كانت أمكنة عبور مثل الشوارع أم فضاءات استراحة مؤقتة مثل المقاهي وقاعات السينما، فإنهم قد فقدوا أهمّ ما يحرّرهم من العلاقة، أو المواجهة، الانفرادية بينهم وبين أنفسهم

فماذا عن 2021؟ ماذا عن العام الذي دخلناه فما استقبلنا وما استقبلناه؟ الأرجح أنه سينسج على المنوال الوبائي ذاته لعام 2020. هذا في أفضل الحالات. ذلك أن من المحتمل أن تستمر الأزمة الصحية حولين آخرين فتشمل معظم 2022. ولهذا يظل السيناريو الأفضل والأرجى، أي الأكثر إثارة للتفاؤل، هو أن توزع اللقاحات في جميع البلدان، لا في البلدان الغربية والغنية فقط، وأن تبدأ تفعل فعلها التحصيني على امتداد 2021 بحيث لا يحل الشتاء القادم إلا وتكون الحياة قد بدأت تعود تدريجيا إلى ما يشبه مجراها المعتاد. لكن لا ضامن لرجحان كفة السيناريو الأفضل. فالفيروس متخلّق متجدد، وسلالاته تتكاثر في برهنة على قوة عزيمته أو سعة خياله. والظن عندي أنه ذو خيال، وأن خياله نافذ فعّال.

ولهذا فإن عامي 2020 و2021 يجسمان بأقصى التراجيدية مقولة فيكتور هيغو بأن «أثقل الأعباء أن يوجد المرء دون أن يحيا». إذ نحن في وجود بلا حياة. وجود لا أفق فيه سوى البقاء البيولوجي بمنجى من غزوات الفيروس الفاجعة. وجود مختصر في بضع كلمات لا تكاد تخلو منها أي نشرة أنباء: إصابات، وفيات، حجر صحي (المعادل السيميائي لعبارة «الكساد العظيم» قبل تسعة عقود) إفلاس مؤسسات، بطالة جزئية، عمل عن بعد، أساسي ولا-أساسي. الأساسي في التعريف الحكومي في معظم الدول هو محال بيع المواد الغذائية، ولهذا تستثنى من أوامر الإغلاق أثناء حالات الحجر المتكررة. أما اللا-أساسي فهو الثقافة عموما، ممثلة بالمكتبات والمسارح والمعارض والجامعات. والنتيجة أن الكوفيد صار يمثل، حسب الطبيب النفساني أدريان جيمس، أكبر خطر على الصحة العقلية منذ الحرب العالمية الثانية، حيث أن آثاره ومضاعفاته سوف تبقى تفعل فعلها التدميري في الكيان البشري لأعوام طويلة حتى بعد تمكن الطب من السيطرة على الفيروس.
كما أن هذين العامين بين قوسين قد أيقظانا، في خضم الخوف والوجع، على صدمة حتمية العيش بطريقة غير مختبرة أو مضمونة. ذلك أن محنة الحجر أحدثت، ولا تزال تحدث، تغييرا عميقا في علاقتنا بالمكان. حيث أدى فقدنا المفاجئ للتعدد المكاني، كما تقول المفكرة كلير مارتن، إلى إدراك حقيقة هامة، هي أن حياتنا تتوقف على فضاء الخارج أكثر من فضاء الداخل. وهو ما كان ميشال فوكو قد عبر عنه، في نص بعنوان «فضاءات مغايرة» بالقول: إنما نحيا حياتنا في فضاء الخارج لأننا نجتذب إليه، وبه، خارج ذواتنا. وبما أن الناس صاروا الآن محرومين من هذه الفضاءات المغايرة أو الغيرية، سواء كانت أمكنة عبور مثل الشوارع أم فضاءات استراحة مؤقتة مثل المقاهي وقاعات السينما، فإنهم قد فقدوا أهمّ ما يحرّرهم من العلاقة، أو المواجهة، الانفرادية بينهم وبين أنفسهم، كما فقدوا أهمّ ما ينجيهم من جحيم الآخرين الذي يمكن أن تهوي فيه العلائق الحميمة عندما ينغلق عليها فخ اللّا-خيار واللّا-مهرب.

كاتب تونسي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول آمينة:

    مقال رائع مواطني العزيز كالعادة فقط أضيف عبارة البطالة تامة وليس جزئية لكثير من الأشخاص في تونس خاصة وللأسف حيث لا مورد رزق ولا ضمان صحي ولا جراية بطالة لكثير من المعطلين عن العمل أصحاب الشهائد الجامعية خاصة النساء :(

  2. يقول خالد جهيمة:

    رائع كعادتك. تحياتي.

إشترك في قائمتنا البريدية