«بصيرة البلبل».. الدرس وبلاغة القص

حجم الخط
0

العتبـــة

مجموعة القاص حنون مجيد «بصيرة البلبل» تتخذ من عنوان أحد النصوص ثريا للكتاب القصصي. وهو عنوان ينتمي إلى الذاتي والموضوعي في التعبير. فهو يصلح أن يكون عنواناً شاملاً للمجموعة، من جهة كونه مستلا من مجموعة عناوين، لكنه في الوقت نفسه؛ يعبّر عن فصاحة كل النصوص. المتأتية من بصيرة القاص، وهو يمارس كتابة القصة القصيرة جداً، ليس في هذا الكتاب، وإنما في ما سبقه. الأمر الذي يضعه ضمن رواد هذا الجنس من الكتابة ومنهم إبراهيم أحمد، حمدي مخلف الحديثي، خالد حبيب الراوي في القص العراقي، ومحمود شقير، محمد عيتاني، زكريا ثامر في القص العربي. وهو شديد الاهتمام بعتبات نصوصه، سواء نصوص المتن أو عتبة الغلاف. وهذا راجع إلى فصاحة النصوص بعامة، ولعلنا لا نغالي أو نبالغ، إذ نذكر أن بلاغة كل نص تنتمي مباشرة إلى ما كتبه الحكيم الآشوري (أحيقار) خاصة في نصوصه، التي تضمنت الحكمة بلاغة في اللغة، ودرساً في التعبير.

متن الكتاب القصصي

في هذه المجموعة التي لا تختلف في بلاغة التعبير في ما كتب من قصص ضمتها مجاميع منفردة، لكنه في هذا الكتاب حصراً أعاد لهذا الجنس هيّبته. ليس من باب ما قدمه من بلاغة وحسب، وإنما في استعادة خفية عبر الطرح وسط لغط كثير لكتاب غير موهوبين في كتابة هذا النوع من القص، خاصة في ما يُصاغ تعبيراً بنيوياً بـ(الضربة القصصية)، وتكثيف المرمى في المعنى. ونرى أن هذا الأمر يتعلق بالموهبة، أو ما يسمى في الشعر العامي (الحسجة) وفي الفصيح (البلاغة). إن الاستسهال في الكتابة، مهد لشيوع الخطأ، غير أن الأصالة تبقى ضمن دائرة البنى العميقة والقارّة. فالضربة تبقى سليلة الموهبة المتأتية من الجينات المعرفية الموروثة، والوعي المكثف. فالضربة مثلاً عند القاص كريم السامر في مجموعته «زنزانة» لا تبتعد عن التلخيص المكثف، بل تكاد تكتفي بانتشال المرمى (الضربة)، وفق بلاغة التعبير وذكاء القاص وموهبته، تُساعده في هذا تخطيطات الفنان خالد خضير الصالحي.
في «بصيرة البلبل» نقف على السمات الأساسية، وهي محصورة بين المعنى والبناء القصصي. ففي المعنى نجد أن النصوص تمنحنا دروساً متنوعة في الكثير من المفاهيم في الحياة. هذه الدروس مستخلصة من التجربة التي تضمنتها النصوص على قصرها. فهي نصوص فاعلة في مجال تحريك إحساس المتلقي، خلال ما تضمنته من بلاغة المعنى، فلو تصفحنا عرضاً كل نص على حدة، لتوفرنا على كتاب فيه تفاصيل تضم أغراضا كثيرة (نفسية، اجتماعية، سياسية فلسفية) وغير هذا من أغراض. هي بمثابة مضامين ذات حمولات عامة تخص الحياة والوجود.

السر الكامن في نصوص الكاتب هنا، هي تكثيف لسرد، أي يأخذ من البناء جزالته. فالتكثيف في المعنى، يضع النص ضمن دائرة موجزة التعبير، وعمق الدلالة المتأتية من حرص المبنى اللغوي على أن لا يُفرّط بالإيجاز.

وهي إشارات تؤكد عدم ابتعاد القاص عن هموم البسطاء، غير أن الطاغي هو اتخاذ من الفاعل الذهني صياغة بليغة للمعالجة. فالقصص زاخرة بالمعاني التي تصلح لكل زمان ومكان، كما نطالع ونهوى حِكَم من سبقونا، وخلدوا في ذاكرة الزمن والتاريخ. إن المعاني منتشرة في الواقع، لكن الذي يصعب هو التقاطها. ونرى أن حنون مجيد له حسّية ذاتية في التقاط النادر والمثير والبليغ، مثله مثل محمود شقير في التقاطه للنادر، أو جعل غير اللافت للنظر لافتاً، خاصة في قصته الشهيرة «الحمّام» مثل محمد عيتاني في سخريته اللاذعة.
إن السر الكامن في نصوص الكاتب هنا، هي تكثيف لسرد، أي يأخذ من البناء جزالته. فالتكثيف في المعنى، يضع النص ضمن دائرة موجزة التعبير، وعمق الدلالة المتأتية من حرص المبنى اللغوي على أن لا يُفرّط بالإيجاز. كما أنه لا يُبعد النص عن دلالته العامة، وجعله ضمن دائرة الدلالة الذاتية. فهو يتسلل من الذاتي إلى الموضوعي. وأحياناً عن موهوبة في السرد، يمنحها هذا البعد الفلسفي، الذي يخص الوجود بدلالاته من طبيعة الوجود البسيط، أو غير ذي البال، ويأخذ به نحو اللافت في التعبير. كما هي النصوص التي تتخذ من عالم الحيوان مآلاً للقص، خاصة دلالة عالم الطيور. فهو يستنطق وجودها البليغ، ويستخلص معانيه من معاني حياتها التلقائية. إنه يتخذ من بلاغة الواقع المنظور إليه من بصيرة قاص ذكي للتعبير عن فضاءات فلسفية، إذ يُعمم خلاصات فكرية لأحداث قد تبدو بسيطة وعابرة، فالصغير يصبح كبيراً في المعنى، والكامن يظهر إلى الوجود بثرائه.
أما بخصوص البناء. فلا يُخفى ما تقدمه النصوص من ضبط ومهارة فنية. فالماء من لون الإناء، كما يُذكر. ولعل الكثافة في المعنى كما ذكرنا، لا يأتي إلا من تركيز فائض للبناء. فهما وحدتان مترابطتان بجدلية في الكتابة. فلا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، مثلهما مثل المهندس والبنّاء. كلاهما يكمل جُهد صاحبه. فالكيفية التي صاغ بها نصوصه، نقصد التركيبة البنيوية، كانت أكثر ضبطاً والتصاقاً بالمعاني العامة والخاصة.
نرى أن القاص حنون مجيد عبر مجموعته هذه قدّم جملة من المعاني، التي تنطوي على دروس تخص البنى الاجتماعية والسياسية والنفسية، وتميل أكثر إلى الحكمة والفلسفة في مرماها العام. كذلك قدمت بناء محكماً للقص، بل نؤكد أنه أعاد خلال نصوصه الهيبة إلى بلاغة هذا الجنس من الكتابة البليغة وذات الصلة المباشرة بحياة الإنسان.

٭ ناقد عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية