انطلقت السيارة البيضاء ثم مشينا خلفها بأقدامٍ متعثرة في طريق متربة تنحدر إلى مقبرة المدينة، ثم أنزلناه بحبالٍ طويلة في حفرةٍ مستطيلة ليواجه مصيره الغامض عن طيب خاطرٍ وبدون مقاومة، لقد كانت المقبرة ضاجة بالموتى وبإمكانه أن يتكلم مع الجميع متى يشاء، أما الشاي الذي يعشقه فقد شرب منه ما يكفي، حتى يوم القيامة. هكذا فكرت في ما بعد.
توافدت جموع المعزين من القرية واجتمعت العائلة حيث كان إخوتي يبكون بحرقة مؤثرة، وشاهدت أيضا عمي يمسح دموعه بمنديل أبيض ويدسه في جيب السروال قبل أن يعود ويخرج المنديل وهو الذي كان على خلافٍ دائم مع أبي لأتفه الأسباب، فيما كانت أمي تجلس صامتة بثوب الحداد وسط النساء في غرفة جانبية. وبدوري كنت صامتا فوق صندوق الليمونادا أنظر إلى الذين يلتهمون الكسكس في قصعة كبيرة متدافعين بالأكتاف كمحاربين حقيقيين، وكان هناك قط بشاربٍ خفيف يلتهم الطعام المتساقط من الملاعق والأشداق.
في تلك الليلة كان رأسي يفور بصور أبي الذي بدأ حياته فلاحا قرب الوادي، ثم نزح إلى المدينة ذات جفافٍ أصفر لينتقل من ورشةٍ إلى أخرى وبلا مهنة تقريبا إلى أن تقاعد عن التعب بأعضاء متيبسة وعروق بارزة في اليدين وبقعة أرضية في الضواحي لا تكفي حتى لإطعام ستين مسكينا. ومن إنجازاته أنه تزوج امرأة وحيدة فأخلص لها، والتي ليست سوى أمي. أحبها بطريقته الخاصة وأنجب منها أربعة ذكور وخمس إناث.
ورثت أمي عن جدي هذه الإشراقة وهذه السعادة، وورثَ أبي قامة طويلة وحاجبين كثين وغاضبين أحيانا على طريقة رئيس العراق الراحل صدام حسين أثناء المحاكمة عن أشخاصٍ مجهولين، قد يكون أحدهم جدي من جهة أبي.
ولا شك أن أبي كان يملك ذوقا رفيعا بمقاييس زمانه عندما تقدم لخطبة أمي التي تبدو جميلة في صور قديمة، وسعيدة بملابس على أحسن طراز ذلك العهد، وبوشم أزرق في اليدين وأقراص فضة متدلية على الصدر، أما منديل الرأس المنقط فيطل منه شعر أشقر من جهة الفودين. هذا في الوقت الذي كان جدي من جهة أمي يملك أرضا فلاحية مستوية فتشبث بها إلى أن تقدم به العمر فاحتال عليه خالي واستصدر منه تفويضا فباع الأرض بالتقسيط، وفوّت علينا نحن الأحفاد فرصة العودة كي نشم رائحة الأجداد على الأقل.. مات في ما بعد جدي ورأيت خالي يشيل التراب على قبره برفش صدئ وملامح مرتاحة جدا فتألمتُ طويلا، وهو الألم الذي مازلتُ أرعاه بنظراتٍ غاضبة كلما التقيتُ خالي.
ورثت أمي عن جدي هذه الإشراقة وهذه السعادة، وورثَ أبي قامة طويلة وحاجبين كثين وغاضبين أحيانا على طريقة رئيس العراق الراحل صدام حسين أثناء المحاكمة عن أشخاصٍ مجهولين، قد يكون أحدهم جدي من جهة أبي. بينما ورثتُ أنا عنهما هذه المنطقة الوسطى التي بسببها جئت إلى الشعر. أخمن ذلك.
يعود أبي في المساء فيسبقه صوته الجهوري فأغرس رأسي في درس التاريخ الطويل وأتمتم بكلمات غير مسموعة كأي طفلٍ تتوسم فيه العائلة المُنقذ الوحيد، هذا ما كنت أسمعه من حديث أمي وأبي، فأضاعف جهدي وأقاوم مزاج الأساتذة السيئ في تلك الفترة، الذين لم يكونوا جميعا طيبين مع الأولاد المنحدرين من أحزمة البؤس وسوء التغدية وروائح البالوعات. كانت مشاعر أبي غامضة ومحفوظة بأرقامٍ سرية طوال حياته كجميع أمازيغ الجيل القديم، إلى أن جاء اليوم الذي كنت أدس فيه الأغراض والكتب في حقيبة كبيرة من أجل السفر إلى جنوب المغرب، حينها كان واقفا ورائي، محنطا تماما وقد أخذت الدموع تترقرق في عينيه وعندما استدرتُ وعانقته انهار الرجل بسرعة وأخذ يبكي.
مات، أيضا، عمي موسى الذي لم أره أبدا لأنه خرج من الحياة قبل أن أدخل إليها، وتحكي أمي أنه كان حافظا للقرآن وطيب الخلق عكس الذي رأيته يبكي، غير أن المرض داهمه في أواسط العمر فرحل تاركا أولاده الصغار يتدبرون شؤونهم بأنفسهم. كبروا وصاروا موظفين حكوميين في مدنٍ بعيدة وأصبحنا نلتقي في مناسباتٍ متباعدة فنتبادل كلاما عابرا بأدبٍ زائد ونفترق كركاب قطارٍ جمعتهم المقصورة وفرقتهم محطة الوصول.
٭*كاتب من المغرب