عقب عودته من بعثة إلى جامعة السوربون في باريس عام 1931 شرع محمد مندور في كتابة مؤلّفٍ سماه «بعد أن أصبح البصرُ حديدا» يشرح فيه ما لفضل الغرب علينا، وكيف نردّ هذا الفضل، كي لا ننسى فلا يكون عندها معنى لما نحيا من أجله. لم ينشر مندور الكتاب، وبقي مخطوطا لديه، لكن عنوانه يُظهر لنا جليّا محاولة المؤلّف شرح الدور الذي قامت به حضارة الغرب في تشكيل وتكوين وتبويب صور أفكاره. لقد صيّرت شوارع أوروبا نظرَ الفيلسوف الأديب محمد مندور من فولاذ، فهو يرى الآن ما لا يُرى، أي الحكمة والعقلَ الرزين ومعنى أن يختار المرء دافعا لحياته يحرص عليه، وأن يكون مستعدّا للتضحية في سبيل ذلك بأغلى وأثمن ما يملك، وإن كان نَفَسَه.
لكن سؤالا يظلّ قائما بيننا وبين المؤلّف، لماذا أبقى كتابه بعيدا عن الأضواء؟ كما أن ورثته لم يذكروا شيئا غير خبر عنه وعنوانه؟ ما الذي يضمّه هذا الكتاب من تصوّرات وآراء لم يجرؤ مندور على نشرها للعامّة؟ في هذه السطور محاولة لاستقراء كلّ ذلك، فقد عشتُ مع كتب الفيلسوف الأديب المنشورة سنين حتى أصبحت رائحتها وملمس الصفحات فيها يشبه ما لراحة يدي، فهل يحقّ لي ذلك؟
لا يكون الأدب قويّا إلا عندما يلامس المعضلات الكونية الكبرى، والمشكلة الأهمّ في هذه الحقبة من السنين هي انقسام عالمنا إلى اثنين، عالم متحضّر يسابق الزمن، وآخر يتعجّل في خطواته إلى الوراء، وأبعد في رجوعه كثيرا حتى غاب عن النظر. عالم ظاهر وعالم باطن. عالم حيّ وعالم يتماوت منذ سنين، فلا هو حاضر ولا هو غائب. وعندما يزور أحدنا بلدا متحضّرا وتستهويه الدّهشة في المدينة والرّيف، وينسجم قلبا وقالبا مع القيم السّائدة، تكون ردّة فعله الذّوبان في هذا المحيط إلى الأخير، ثم يعود الرّجل إلى بلده، لكن في إمكان أيّ أحد الاستدلال عليه بسهولة، وإن ضاع بين أفراد قومه وارتدى زيّا شعبيّا وغطّى رأسه بالكوفيّة والعقال.
هذه الفكرة هي فحوى الرّسالة التي حاول الطّيّب صالح إيصالها إلينا في روايته الشّهيرة «موسم الهجرة إلى الشّمال». يزور مصطفى سعيد، بطل الرّواية، الغرب بصفة طالب، وبعد تخرّجه يحصل على وظيفة محاضر في إحدى الجامعات البريطانية، وخلال هذه السنين يتبنّى قيم المجتمع الإنكليزي، ولما يعود إلى بلده السّودان، يبيّن لنا الطيّب صالح أن بطله لم يتغيّر وحده، وإنما ينقل تأثير المجتمع الذي عاش فيه إلى زوجته بنت البلدة، لقد صارت إنكليزيّة إلى حدٍّ مَّا، ولا تستطيع العودة إلى ما كانت عليه. وعلينا تذكّر أن الرواية كُتبت في منتصف القرن الماضي، في سنين لم تبلغ بلداننا هذه الدرجة من التخلّف والغياب عن الدنيا، مثلما وصلنا إليه الآن! لنا أن نتساءل عن الأسباب التي من أجلها ترك الرّجل والمرأة بلديهما، مصطفى سعيد وزوجته، وتلوّنا بألوان البلد البعيد، رغم أنهما يعيشان بين الأهل؟
يختصر وول ديورانت في كتابه متعدّد الأجزاء «قصة الحضارة» تعريف الحضارة بكلمة واحدة: «الرِّقّة» رِقّة طاغية بمقدورها قلب كلّ ما لدى المرء، فكأنما صار مخلوقا جديدا، ثمّ تسِمه بعد ذلك بعلامة، فيبدو بين أفراد قومه مثل شهاب لا ينطفِئ. فتنة ثانية تبين على وجوه العرب المهاجرين إلى الغرب، ولنطلق عليهم اسم الآسيو-أوروبيين والأفريقو-أوروبيين، تولّدها فكرة الحريّة، وفهمها بصورتها الصحيحة، ومن ثَمَّ الإخلاص لها لأنها الفكرة الوحيدة التي تنجّينا من ضآلة حجم العقل التي سببها الإيمان بالخرافات وضيق الأفق. إنه لا شيء يأتي من لا شيء، على حدّ قول شكسبير، وكلّ ما لدى الأوروبيين روحا وجسدا يعود إلى فنائهم في فكرة الحريّة، ولا شيء غير ذلك، فهي التي تعيد خلْقنا من جديد بصورة كائنات مختلفة عن أسلافنا، سواء المباشرين أو البعيدين منهم، في العمل كما في الحياة.
فتنة ثالثة تهبها أوروبا لنا، مصدرها الفراغ اللّذيذ في الشّوارع والحدائق والعمارة المفروشة باتّساع طوليّ شاهق وعرضيّ فسيح؛ يؤثّر هذا الفراغ في الطّبيعة العضويّة للمرء، وتتحكّم هذه في كلّ أفعالنا الإراديّة وغير الإراديّة. وعندما تجتمع العطايا الثّلاث، الرّقّة والحريّة والفراغ اللّذيذ، وتتفاعل في ضمير المرء، فإنّه صار أوروبيّا بالثّلاثة، وتوقّف الزّمان عنده والمكان الذي يضمّه، فلا يمكن عودته إلى أصله، وإن كُتبَ له أن يَقضيَ بقيّة عمره في بلده الأوّل. إنه نوع من الاغتراب بين ثقافتين، أو ما يدعى بصدام الثّقافات، يعود الواحد منّا بسببه من دول الغرب فينظر إلى ما يجري في بلده، وقد انسلخ منه تماما، فهو يطلب النّسيان لما مرّ به في السّابق، مثل السّجين الذي يرى شمسا من بعد طول حرمان في زنزانة تحت الأرض.
إن الأدب وحده بوسعه قياس شحنة الدهشة التي تفعلها المدينة الأوروبيّة في عيوننا – دع عنك محاولات الشعراء البائسة عند تقليدهم الشّاعر ت. س. إيليوت في قصيدة «الأرض الخراب» فهؤلاء يتأمّلون الواقع وينكرونه بصورة فظيعة -كما أنه في إمكان هذه الدّهشة تغيير هويّة المرء، وأحاول هنا دراستها في عيون قاصّ عراقيّ تأثّرت حياته وأعماله الأدبيّة بالعطايا الثّلاث التي مرّ ذكرها.
يروي محمود عبد الوهاب أنه كان يزور في إحدى السنين تشيكوسلوفاكيا، وقصد ضاحية اسمها كارلو فيفاري، وكانت تُشرق في تلك السّاعة بضوء نهر يمتدّ على جانبيه جسرٌ أبيضُ ونحيلٌ كأنه مصنوع من عاج. توقف القاصّ في منتصف الجسر، وراح يتأمل المكان. لا شيء جديد في المدينة، وليس ثمة ما هو غريب، كما أن كلّ ما فيها معروف ويراه الجميع بصورة اعتياديّة طوال أيام الرّبيع والصّيف. لكنّ ما اكتشفه القاصّ كان أمرا مختلفا، وربما لن تمرّ على البلدة لحظات مشابهة في عيون أهلها. في تلك السّاعة كان كلّ شيء يخلع ألوانه القديمة ويتزيّى بأبهى زينة، عالمٌ يُمكنك تقريبا شمّه، والجسر العاجيّ يلتمع في الضّوء الشّحيح الباهت من الشّمس. يقول محمود عبد الوهاب: «فجأةً، انطلقتْ من روح المكان، ولا أدري كيف، صورة البلدة كأنّها بطاقة تهنئة أنيقة وزاهية، لعيد قادم».
لقد جرى اقترابه من المدينة التشيكيّة بواسطة روح خفيّة انطلقت من المكان، وعصفت به ليراه على حقيقته. ومن أفعال هذه الرّوح أنّها تدمغنا بمؤثّرَين هما الرّقّة العاطفية، والشعور الطاغي بالحرّية، فلا نستطيع العودة إلى ما كنّا عليه في السابق.
محمود عبد الوهاب هو قاصّ المدينة، إذ لم يكن منشغلا طوال حياته سوى بأمر واحد هو تشبيه المدينة في أوروبا بوردة تتفتّح شيئا فشيئا في الصّباح الباكر، يقدّمها لنا أديبنا بصورة بطاقة تهنئة. إنه يهنّئ نفسه في الحقيقة على هذا الانتقال الخطير في مجرى حياته، كأنّه صار الآن بشرا سويّا. المدينة الشرقية لا تشبه باقة الزهور، لقد أعمل فيها السياسيون الخراب، وسلخوا جلدها مثل شاة وهم يعملون فيها بالمُدى والسيوف والخناجر. وكان لترحال عبد الوهاب في المدن الأوروبية سبب رئيس في تعلّقه بهذه الثيمة في أغلب قصصه، وإذا عدنا إلى قصّته «القطار الصّاعد إلى بغداد» المكتوبة في الخمسينيات، نرى فيها تصويرا مجهريّا للبؤس الذي يعيشه ناسُ الكاتب في وطنه العراق، وفي مدينة البصرة بالذات حيث يعيش القاصّ، جحيم ولا ذلك الذي تصوّره لنا كتب الأنبياء، جزاءً ونكالا بالشّعوب العاصية. ربما كانت وقفة محمود عبد الوهاب عند جسر المدينة هي السبب وراء تبدّل نظرته إلى وطنه العراق، وهذا ليس خداعا للنّفس، إنما هو نوع من الاستبدال المستساغ في الشعور لدى المرء.
إن ما يجري في بلداننا في الحقيقة هو العكس تماما مما سبق شرحه، الفناء في فكرة القيود التي لا تنتهي، والعمارة المشوّهة في الشّارع والبيت ومحلّ العمل، بالإضافة إلى الفظاظة في السّلوك لدينا. إن مدننا تتصدّع بصورة فظيعة، ويعيش ساكنوها أقسى سنين البؤس والتّعاسة، تكدّست علينا بكلّ فوضاها ونَعْمائها وبأسائها، أكثر بكثير من عقود مريرة مرّت وانقضت، مما تحكيه لنا كتب التّاريخ عن هولاكو وتيمورلنك والسّفّاح فلان وفلان. ما نعيشه الآن عبارة عن زلزال دائم من سلّم ريختر الأعلى لا تنفع معه محاولات استيرادنا، بواسطة النقود، العمارةَ الحديثة والطبَّ الحديث والمَكْننة الحديثة في كلّ مجالات الحياة، بما فيها التعليم، إن لم تزد الحال هذه التزويقات سوءا، فهي أعمال نقوم بها بطريقة عشوائيّة على سطح المبنى المهترئ الأساس، فنزيده ضعفا على ضعفه، وكلّما زاد البناء العشوائي والتّحميل على السطح، ضاعفنا من قوّة الآفة التي تأكل الجذور. المبنى آيل للسقوط، ونحن نقوم بتعجيل الأمر. تبدو هذه الحقيقة موجعة بشكل من الأشكال، لكنّ الإنسان ابن بيئته، وأكثر بلداننا العربية تمتاز بمحيط يابس، أيّامه متماثلة في أحسن الأحوال، وكلّ خطوة فيه معلَّمة بأثر من تلك التي خطّها أسلافنا البعيدون على رمال الصحراء، وسعيد الحظّ من يودّع هذه العلامات إلى الأبد، ومن يجاهد في سبيل رجوع الخليقة مثلما كانت في القرون الخوالي، أو ما يسمّى بعودة السلف الصالح، يشبه من يروم تركيب وجه شيخ يحتضر على محيّا مولود حديث.
كاتب عراقي