الجماهير مجالٌ مفهومي، يستدعي كثيرا من الجدل، على مستوى التوصيف، والتأثير والوظيفة، أو على مستوى الاجتماع وعلاقة ذلك بالمجال العمومي، إذ سعت المؤسسات «الغرب أمريكية» على موضعته خارج المرجعيات الأنثروبولوجية، بوصفه مفهوما ينتمي للإرث اليساري الماركسي، فضلا عن كونه يرتبط بسياسات التحشيد، والرقابة والإخضاع، مثلما سعت الدراسات الثقافية إلى رصده، من خلال المتغيرات التي تخصّ علاقته المفهومية بالأنساق الأيديولوجية والجماعوية، والعصابية، بوصفه يضمّ جماعات تمثيلية، لها نزعات خطابية، قابلة للتهييج، والعنف والإيمان.
ورغم أن النظام العالمي قد قوّض مفهوم الجماهير، وأخضعها إلى توصيفات مجردة، ومابعد حداثية، مثلما جعلها ذات تمثيل ضدي لما هو مركزي في النسق الغربي، حيث الفرد والمجتمع، وحيث الطبقة والمؤسسة والنقابة، وكلها بنيات وظيفية، وليست عصبوية، ولكن ما حدث في أمريكا بعد حادثة قتل جورج فلويد ذي الأصول الافريقية، أحدث هزّة كبيرة في المفهوم وفي الواقع، وفي علاقة هذا الواقع بالتوصيفات التي حاول العقل الأمريكي تكريسها في النظام الاجتماعي والثقافي، إذ بات الفضاء الأمريكي أمام سلسلة من التقاطعات، التي وضعت مفهوم الجماهير أمام قراءة أنثروبولوجية فارقة، عبر إنتاج الصدمة الطبقية والجندية والمؤسسية المولدة له، حتى بات البعض يجد في الاحتجاجات الأمريكية والأوروبية وكأنها استعادة لقراءة أفلاطونية في البحث عن المثال، وعن الأنموذج المتعالي لمواطن الجمهورية الفلسفية، بوصفه المواطن الأبيض والحر والقوي والجنسوي والديمقراطي.
أمريكا والعالم الغربي مكشوفان- الآن- أمام سطوة غير مسبوقة للجماهير «غير الجمهورية»، عبر إعادة إنتاج صورة الجمهور الشرقي، أو الجمهور الحقوقي، وحتى الجمهور الثوري بمرجعياته اليسارية، التي اتهمها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون بالمسؤولية عن العنف التظاهري، وعن هدم القيم التاريخية والأيقونية للاستعمار وللإنموذج الكونفدرالي الأمريكي..
لكن ما يُميّز حركة الجماهير في الولايات المتحدة، وفي العديد من دول الغرب هو رفضها الحقوقي للتاريخ، المتموضع في الذاكرة العنصرية، بوصفها جزءا من النسق الحاكم للنظام والمدينة ولبنية أسواقها وثرواتها وذاكرتها الثقافية والاقتصادية، أو بوصفها «براديغمات» لتمثيل السلطة، في سياقها الطبقي الاستعماري والتبشيري، أو في سياقها الاستعبادي، الذي كرسته ظاهرة» القوة» التي فرضتها المؤسسة الأمنية على الجماعات الهامشية.
هذا التاريخ بدا اليوم وكأنه «المزبلة»، وأنّ ابطاله وقادته المكتشفين والفاتحين والفيدراليين بدوا الأقرب إلى صور العنصريين المجرمين، وإلى الرموز الاستبدادية للقهر الاجتماعي والعنصري، وأنهم يستحقون أن يكونوا في في تلك المزبلة وليس على منصات الخلود والأثر.
إنّ ما حدث بعد جريمة قتل جورج فلويد، كشف عن النسق المضمر للنظام، وعن الوحشية التي تمارسها القوى العميقة في مؤسسات ذلك النظام، على مستوى صناعة الخطاب الرسمي الذي تمارس قوته الصيانية، مؤسسة الشرطة والأمن، أو على مستوى ما تمارسه مؤسسات أجهزة الرقابة والأدلجة والتطرف ضد جماعات الهامش الطبقي والجندري واللوني.
فعل الاحتجاج، ليس فعل إكراهات وبحثٍ عن عدالة غائبة وحسب، بل ممارسة للتعبير عن ذاكرة مُجهضة، ذاكرة الهامش والتابع والمقصي، التي تجد في ظاهرة العنف الجندري والعنصري نوعا من القوة التي ظلت تُكرّس ذلك الهامش، عبر تهميش النظرة الحقوقية والأخلاقية للمواطنة، وعبر توصيف النسق الذي يتحكم بقيم العدل والسلام والمساواة والحقوق، مقابل ما تصنعه من سجون وأجهزة قمع ورقابة وقتل، فقد كشفت هذه الاحتجاجات عن عيوب «بنيوية» عميقة في النظام الذي يحكمه الرأسمال الكبير والطاغي والعنيف، عبر آليات تاريخية، وعبر سطوة لها مؤسساتها ورقابتها، وحتى عبر طبيعة منظومات سرية تُدير آليات العقاب والسجن، والتعاطي مع ملف «السلم الأهلي»، بوصفه يحمل بعض تبديات النظام الذي يحكمه السوق والمصلحة والأمن، فبقطع النظر عن المرجعية الثورية والأيديولوجية لمفردة الجماهير، بوصفها اليساري، أو الماركسي، فإن ما يجري على الأرض يفضح العلاقة المضطربة بينها وبين النظام العالمي، وعبر تقاطع يافطاته العمومية، الخاصة بالعولمة، أو بهوية النظام الكامل، أو بالاقتصاد الحر، فالجماهير محكومة بطبيعة هذا الاقتصاد، ومدى قوته، وبقدرته في السيطرة على الأزمات، وعلى البطالة، وعلى فاعلية الشركات الكبرى والعابرة للقارات، عبر «عولمة» سياستها، وعبر سيطرتها على أسواق السلاح والطائرات والنفط والتكنولوجيا، لكن ما يجري في «النسق المضمر» للنظام العالمي يكشف عن محنة علاقة الجماهير بهذا النظام، وبطبيعة السلطة، وبما هو تداولي من مفاهيم العمل والعدل والحق والمشاركة..
لقد تحوّل موضوع جريمة الفصل العنصري إلى ما يشبه «الثورة» على تاريخ النسق المغلق للنظام، الذي صنعته الشركات الكبرى، ولتعرية ما هو مُضمر في هذا النظام، عبر تعرية مركزية جمهورية مؤسساته، وشعاراته، وتاريخه، وسياساته، وعنفه، وأوهامه ونظرته إلى الآخر/ المختلف في الهوية والجندر واللون، أو من المهاجرين. الضحايا والتابعون المتموضعون حول فكرة الآخر، لم يكن لهم صوت داخل ذلك النسق، فهو السجن والنظام الرقابي، والمشفى والعزل، والعمل القاسي، مثلما هو النسق الحاكم للغة/ الخطاب والقيم والاندماج، ورغم اندماجهم اللاواعي في الممارسة الاجتماعية، فإنّ بروز أي نزعة مطلبية، أو موقف حقوقي، تدعو النظام العالمي إلى الكشف عن قسوته، وعن جوهره اللاحقوقي، إذ تتحول عقد اللون والجندر والهوية والأصل إلى علامات تُبيح العزل، والعنف والطرد والتهميش، وقد تُبيح القتل من قبل مؤسسات النسق القمعية، ولعل تاريخ العنف في الولايات المتحدة وفي أوروبا، وفي العديد من المركزيات السياسية والأيديولوجية، يكشف لنا عن طبيعة النسق الحاكم، وعن نظرته لثنائية المركز والهامش، فهذه الثنائية تتحول إلى قوة ثقافية طاردة، وإلى ممارسة يتجوهر حولها النظام السياسي والحقوقي.
اذا كان التاريخ هو القوة التي تملكها السلطة، فإن للسرد هو المجال الذي يُتيح للجماهير المجاهرة بالضدية، وبتقويض التاريخ بوصفه خائنا، لأن صناعته تقوم على فاعلية المؤسسة والرمز والقوة والتدوين، وصولا إلى حماية السياق، بدءا من الجماعة، والحاكمية، والخلافة، والسلطنة، والخطاب الفقهي والكنسي، وصولا إلى حماية العالم الرأسمالي.
حين أطلق الزعيم الأسود مارتن لوثر كنغ كلمته الشهيرة» لديّ حلم بأنه في يوم من الأيام، أطفالي الأربعة سيعيشون في بلد لا يكون فيه الحكم على الناس تبعًا لألوان جلودهم، وإنما بما تنطوي عليه أخلاقهم»، أطلق النار عليه- في ما بعد- رجل أبيض، بتوجيه من مؤسسة ما، أو عبر المغالاة في الحقد الثقافي الشخصي، لكنه في الجوهر يجسد واقع رفض القبول بالانتماء إلى النسق العمومي، ولبيان أهمية الدرس الأنثروبولوجي للظاهرة «العرقية» في أمريكا، وصولا إلى حادثة القتل الاستعراضي لجورج فلويد وقبله للطبيبة برونا تايلر وآخرين من ذوي البشرة السوداء أو الخلاسية، التي أثارت عصفا ذهنيا وحقوقيا، ليس في أمريكا فقط، بل في العالم أجمع، وبطريقة أعادت الجميع إلى التاريخ، حيث تاريخ الأبارتهايد، وعمليات الغزو الغربي لافريقيا، وتاريخ دخول كرستوفر كولمبس إلى الأرض الأمريكية، فضلا عن التحريض على إعادة قراءة مفهومية لقيم أنتجتها «الحداثة الغربية» القائمة على فكرة «الهويات المنسجمة»، والخاضعة إلى النظام الذي يحكمه العقل الرأسمالي، وسلطة السوق والأمن العمومي.
التاريخ بوصفه خائنا
اذا كان التاريخ هو القوة التي تملكها السلطة، فإن للسرد هو المجال الذي يُتيح للجماهير المجاهرة بالضدية، وبتقويض التاريخ بوصفه خائنا، لأن صناعته تقوم على فاعلية المؤسسة والرمز والقوة والتدوين، وصولا إلى حماية السياق، بدءا من الجماعة، والحاكمية، والخلافة، والسلطنة، والخطاب الفقهي والكنسي، وصولا إلى حماية العالم الرأسمالي، وفي الدفاع عن توصيف نظامه الحقوقي والقيمي، وعن نمطه الطبقي، وعن صورة السوق البهيجة، وهذا ما جعل تلك الحماية تتحول إلى ممارسات ثقافية وتجارية وعنصرية، اختلطت فيها نزعات التبشير والاستعمار، مع الرغبة في استعباد الآخر وملكيته الآخر، بوصفه أقل شأنا، وعنصرا متدنيا، ورخيصا وصالحا للاعمال الشاقة، وهو ما أسهم في إنتاج سرديات تقوم على أحقية هذه النزعات، بدءا من « الرواية الكولونيالية» وليس انتهاء بالطروحات الفكرية والسياسية والاستشراقية في مراحلها المتعددة، والتي عمدت إلى تغذية أوهام السيطرة والتملك، والقيام بحملات واسعة في المستعمرات الافريقية لشراء «العبيد» ونقلهم إلى أمريكا وأوروبا، كقوى عمل رخيصة ومؤثرة، مثلما هو تعبير عن الإرث البورجوازي الطبقي، والذي ينظر إلى العنصر غير الأوروبي بنوع من الاحتقار والتهميش.
إن تاريخ أوروبا وأمريكا في «العصور الحديثة» هو تاريخ الرأسمال، بوصفه القوة الصيانية، والأنموذج المتعالي الذي يؤسس للسيطرة، ولصناعة البطولة، ولفرض قيم شرعية للنظام الطبقي والنظام العنصري، حيث تتكرس في هذين النظامين، أنساقا حاكمة، وأنماطا لحكم السلطة أو حكم الرمز، أو حكم رأس المال، التي ستجعل الناس خارج هذه الأنظمة والأنماط هم الأقرب للضحايا..
الاحتجاج بوصفه تقويضا للنمط
ما حدث بعد قتل فلويد، وبروز شعار « حياة السود مهمة» تحول مفهوم الجماهير إلى مفهوم للغضب العام، ولتقويض النمط الأفلاطوني لأنموذج الجمال الرأسمالي الحاكم، ولسلطته الرمزية، وعبر تغويل أنثروبولوجي لكراهية اللون والسلطة، حيث اكتسبت هذه الكراهية قوة احتجاجية صاخبة، نظرت إلى التاريخ بوصفه مزبلة كرستها أوهام الرأسمال، وإكراهات الرموز الكولونيالية والفيدرالية. ما حدث في أمريكا وفي أوروبا، ليس تبشيرا بـ»ماركسية» جديدة كما تحدث جيجيك، بل هي تبشير بنهاية الشكل، الذي سبق أن اقترحه فوكوياما للرأسمالية بوصفها العصر الأخير، حيث كان البحث عن الحرية بعيدا عن الجمهورية الأفلاطونية قريبا عن البحث عن الوجود الذي هددته فيروسات كورونا، التي هي في الجوهر تهديد للنظام الرأسمالي بكليته، عبر تهديد نظامه الصحي والاقتصادي والأخلاقي والرياضي والثقافي. تضخم ظاهرة الاحتجاج العنصري ستكون له تداعيات خطيرة، على مستقبل تقبّل الرأسمالي كنظام أخلاقي، وعلى نمط حاكميته وإدارته، وأحسب أن الرئيس ترامب سيكون أول ضحايا هذا التحوّل الصادم، ليس بحثا عن رئيس بمواصفات أفلاطونية، لكنه تأكيد للنظرية القديمة التي طرحها السوسيولوجي أورنولد توينبي حول «التحدي والاستجابة»، والتي تعني أن النمط الحاكم للرأسمالية الآن بدأ يشيخ، وأن البحث عن استجابة جديدة لتحديات الجماهير، ولتحولات النمط ستكون هي الرهان على مستقبل جديد.
٭ كاتب من العراق