بعد أن طمأنتا نتنياهو.. “العدل” و”الخارجية” الإسرائيليتان: خاننا خان

حجم الخط
0

اتهم المدعي العام لمحكمة الجنايات في لاهاي كريم خان، قادة حماس بالجرائم الأخطر، “على أساس أدلة جمعت وفحصت من قبل مكتبي”. وفضلاً عن المشبوهين الفوريين، السنوار ومحمد ضيف، اتهمت المحكمة رئيس الذراع السياسي لحماس خارج غزة، إسماعيل هنية، الشخصية الأعلى لحماس والذي هو خارج القطاع وتستقبله دول عديدة، ويتنقل بين الدوحة وإسطنبول. إن طلب خان أمر اعتقال ضده يخلق تحدياً لقطر وتركيا، وكفيل بأن يسرع الخطوة القطرية حول إغلاق مكاتب حماس في الدوحة. وهي احتمالات لم تقل أمس.

والطلب المقدم ضد ثلاثتهم لا يقل اهتزازاً للأركان؛ لا لأنهم متهمون بالجرائم الأخطر في سجل القوانين الدولية فحسب، بما في ذلك الإبادة الجماعية والقتل المتعمد والتعذيب والمعاملة الوحشية للأسرى في الحرب وغيرها، بل أيضاً بـ “اغتصاب وأفعال عنف جنسي كجرائم ضد الإنسانية”. الاتهام في هذا الموضوع، الذي أصبح أكثرها حساسية، سبق أن أُعرب عنه في تقرير نائبة الأمين العام للأمم المتحدة فارميلا باتن، بأن مخربي حماس ارتكبوا جرائم ترتبط بالجنس بشكل منهجي، بل عملياً أكثر من ذلك بكثير.

“ندعي بأن الجرائم ضد الإنسانية كانت جزءاً من هجوم واسع وممنهج ضد السكان المدنيين في إسرائيل من قبل حماس وجماعات مسلحة أخرى وفقاً لسياسة تنظيمية”، قال خان. الكلمات الثلاثة الأخيرة “وفقاً لسياسة تنظيمية” تلمس قلب الجدال في الموضوع الأكثر حساسية. وعندما تأتي على لسان كريم خان، لأول مرة من جسم دولي قانوني معترف به، فإنها تؤكد، كاشتباه حالياً، ما ينفيه كثيرون بحزم – بأن الحديث لا يدور عن مبادرات محلية، بل عن سياسة حماس كلها، الذين هم ليسوا مخربين قتلة لعينين فقط، بل ارتكبوا أعمالاً واسعة، منتظمة، كجزء من نهج تنظيمي. ما كان يمكن لإسرائيل أن تأمل بصيغة أفضل.

في العالم الآخر، الذي يعيش كابوساً أقل، تنتهي الأنباء هنا وتبدأ التحليلات لمعاني الأمور. لكن في العالم الحقيقي الذي هو في كابوس كامل، واصل المدعي العام ونشر طلبه إصدار أوامر اعتقال ضد نتنياهو وغالانت. حقيقة أن الاتهامات ضد رئيس الوزراء ووزير الدفاع أقل خطورة في رواية الحقائق من تلك التي ضد الثلاثية من حماس، لم تكن من قبيل المواساة؛ إذ إن مجرد وجود تلك الصفحة في بيان المدعي العام بالإنجليزية والفرنسية والعربية، يخلق مقايسة بين الأفعال الأفظع لأولئك، والأفعال الأفظع لهؤلاء وإن كان بقدر أقل.

نتنياهو وغالانت، نفيا بالطبع، وخرج نتنياهو بقطع أكبر ضد طلب أمر الاعتقال؛ لأن التاريخ المليء بالمفارقات، وضعه هو وغالانت، كريه نفسه ورعبه السياسي لاحقاً، في الجانب ذاته لمحكمة الشعوب.

تقول وزارتا العدل والخارجية الإسرائيليتان إن المدعي العام خدعهما. فقبل ستة أسابيع، بدأت تصل أنباء عن نية لإصدار الأوامر. أحد عاملي المحكمة، حسب الشائعة، سكر قليلاً وروى لأحد ما روى هو الآخر لغيره، وتدحرجت الأمور حتى مكتب رئيس الوزراء، ثم وزارة العدل، إلى أسرة الاستخبارات. الجهد الإسرائيلي لفهم ما يحصل في المحكمة لم يبدد الشائعات فحسب، بل أكدها. وحسب مصادر مقربة منه، دخل نتنياهو في ضغط كبير، وكان يخيل للحظة بأن ثمة شيئاً ما مخيف أكثر حتى من انسحاب سموتريتش.

خبراء في وزارة العدل كانوا على قناعة بأنه سينجح في إلغاء أو رد شر القضاء. فقد فهموا، أو على الأقل اعتقدوا أنهم فهموا، بأن المدعي العام قال إنه نوع من “وضع الانتظار”، والذي يفسر الآن كمحاولة من خان لخداع إسرائيل كي لا تمارس ضغطاً، وتسمح له بالتقدم في المسار قبيل رفع الطلب بلا عراقيل. ربما تكون الأمور صحيحة أو شبه صحيحة، لكنها تثبت أن موقف كريم خان، القانوني والجدي الذي اعتبرته إسرائيل اختياراً معقولاً حين تسلم منصبه، تغير بشكل متطرف؛ فهو يتعامل مع إسرائيل وجهاز القضاء، الإنفاذ والتحقيق، كمجرمين يمكن بل وربما يجب التحايل عليهم. تسريب وزارة العدل المسنود لفهم أن الأمور تحت السيطرة، هدأ الروع. ونتنياهو هو الآخر كف عن الخوف، وعاد لمخاوفه من بن غفير وسموتريتش، وواصل الدفع باتجاه الحكم العسكري في غزة.

 الآن، حين يتبين كل هذا كخطأ، وتتقزم المخاوف الأولى أمام الطلب الذي نشر، فسيأسف الجميع على أنهم غفوا في الحراسة، لكن الموضوع التكتيكي هامشي نسبياً. في العالم الآخر، الذي يعيش الكابوس بشكل أقل، كل هذا ما كان ينبغي له أن يحصل، لأنهم يفهمون بأن الوضع صعب، إن لم يكن صعباً جداً – ويعملون ضده.

في العالم ما قبل قيام الحكومة الحالية، انشغل عشرات من القانونيين الخبراء في خدمة الدولة والمنظومات والمنظمات المختلفة، في محاولة للتأكد من عدم فتح محاكمة من هذا النوع ضد إسرائيل، أو تحقيق وطلب أوامر اعتقال. وقد نجحت هذه المحاولة على نحو شبه تام. التحقيق الذي فتح على “الجرف الصامد” بعد سبع سنوات من التردد، تواصل بكسل، وبات وصوله إلى مكان ما مشكوكاً فيه.

جرى في العالم الموازي حوار مثمر ومغذ دوماً بين المستشار القانوني للحكومة ورئيس الوزراء، وعرف الطرفان في هذا الحوار كيف يدفعان قدماً بخطوات لا تقاتل فقط الشبهات الناشئة بأثر رجعي، بل ستدخل المحامين في مسيرة اتخاذ القرارات في مواضيع عسكرية، بما فيها الأكثر حساسية، منها مثلاً سؤال المستشار القانوني للحكومة في 2003: هل يرى القانون الدولي من الصواب تصفية الشيخ أحمد ياسين مؤسس وزعيم حماس رغم أنه زعيم سياسي وأنه عجوز مريض في كلا المقعدين؟ (المستشار قال لا ولا، ومرة أخرى لا – إلى أن جاءت أدلة بررت برأيه الضربة).

أن يقال إن العالم كله ضد إسرائيل وكنا سنصل إلى النتيجة ذاتها، هو مثل أن يقال إن حماس لا تريد صفقة وإن إسرائيل فقدت الآن البراءة في المفاوضات مع منظمة القتلة. حتى لو صح بأن كل العالم ضدنا وكلهم لاساميون، وعندي شك كبير في ذلك، فلا تزال حاجة للنظر في هذه الأمور مسبقاً، والعمل بتفكر وحكمة لمنع ذلك. في العالم الآخر، كانت مستشارة قانونية وأناسها مشاركين في كل القرارات إزاء للحرب، ويشرحون للكابنيت ولقادة الجيش بأنهم ملزمون بتقديم الأمور حسب البروتوكول. في العالم الآخر، بما في ذلك في الأسابيع الأولى والدم يغلي والروح تواقة للثأر، كان المستشارون القانونيون سيحرصون على تطابق القرارات مع القانون الدولي حتى وإن كان هذا القانون يبدو لجهات مختلفة هامشياً وغير مهم وربما ومثيراً للحفيظة في تلك اللحظة. لكن في العالم الحقيقي منظومة العلاقات العكرة التي بين نتنياهو والمستشار القانوني وكل منظومة النيابة العامة، بعد أن حاول نتنياهو إقالتها وتخريب المنظومة، أقصت المستشارة وأناسها عن محافل عديدة. وهذه، عن حق أم عن غير حق، لم تطالب أن يكونوا حاضرين فيها لمرات عديدة.

في العالم الحقيقي تصرف العديد من السياسيين كأنهم يعيشون في فراغ، طلعة ترومان، رواية بن غفير. في العالم الحقيقي مست الجهود السياسية لإحباط جهاز القضاء الإسرائيلي بصورتها – وأصبح خان أقل قناعة باستقلالية منظومة القضاء، وأكثر بأن إسرائيل تعمل بشكل غير قانوني، على أقل تقدير.

خان، بدهائه، حشر الطرفين في فخ متعذر. في العالم الآخر كانوا سينتبهون لتغريدة عظيمة المعنى للمدعي العام، وإن لم ينتبهوا، فلعلهم كانوا سيقرأون المقال الذي نشر هنا في شباط، عقب مؤتمر ميونخ الذي ذكرت التغريدة فيه. “إسرائيل في ذروة مسيرة آخذة في الاحتدام، آخذة في التسارع نحو دولة منبوذة ومقاطعة ومكروهة”، كتبنا في حينه، “وليته من هنا، من ميونخ، يرفع علم أحمر يحاول أن يشرح لمواطني إسرائيل، وربما حتى لزعمائها، خطورة الوضع”. العلم رفع. لكن لم يره أحد.

 في العالم الآخر كانوا سيقرأون هنا صفحة التوصيات التي نشرها المحامي روعي تشايندروف، من كبار المحامين العاملين في القانون الدولي، والذي شغل منصب مساعد المستشار القانوني للحكومة وترأس الدائرة القومية التي نجحت لسنوات في إحباط المبادرات للبدء بإجراءات دولية ضد إسرائيل. تشايندروف أوصى بسلسلة خطوات ينبغي اتخاذها فوراً، قبل أن يصدر الأمر وحتى قبل أن يعلن المدعي العام اعتزامه طلب إصداره. “يجدر النظر أيضاً في إمكانية مطالبة المدعي العام بنقل عملية الفحص والتحقيق إلى إسرائيل.

 إن دستور المحكمة مبني على فكرة الاستكمال – أي إعطاء أولوية للدول التي تريد وتستطيع التحقيق بنفسها في الادعاءات التي تطرح بالنسبة لمواطنيها أو الأفعال التي ارتكبت في أراضيها”، كتب في 2 أيار.

لو اتخذ أحد ما هذا العمل لبدت الأمور أقل اضطراراً منها الآن حين ينظر جهاز القضاء فيها.

في عالم آخر، في كابوس أقل، كانت إسرائيل ستصل جاهزة أكثر بكثير إلى هذه اللحظة. وما كانت لتصل على الإطلاق؛ لأن كريم خان ما كان يريد أن يهين نفسه حتى لو كان مقتنعاً بوجوب إصدار الأمر في محاولة ضعيفة قانونياً بهذا القدر.

لكنه ليس العالم الآخر، بل هذا هو العالم، مع كابوس بالقوة الكاملة. والآن، تصبح إسرائيل الدولة الثالثة التي يطلب فيها إصدار أمر اعتقال ضد رئيسها. كابوس.

بقلم: رونين بيرغمان

 يديعوت أحرونوت 21/5/2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية