كيليا نمور يافعة في السابعة عشرة من عمرها. إلى وقت قريب، لم يكن قد سمع عنها أحد في الجزائر. من يهتم بأخبار مراهقة؟ لكنها غيرت جنسيتها الرياضية، مثلت البلد في دورة الألعاب الأولمبية وكسبت الذهب في الجمباز. هذا التتويج كان له وقع جرم سماوي وقع على أرض مأهولة. لم تكن مجرد ميدالية ذهبية، فقد تحولت كيلينا نمور إلى واحدة من أفراد العائلات الجزائرية. الجميع ينظر إليها بإعجاب غير مسبوق. وخرج كذلك مسؤولون من الظل، وتداولوا الميكروفون وكل واحد منهم ينسب إلى نفسه الفضل في أن غيرت كيليا جنسيتها الرياضية. كل واحد منهم يريد أن يصير «نجماً» في أعين الآخرين. وفي المقاهي بات الناس يتحدثون عن الجمباز مثل حديثهم المعتاد في شؤون الكرة. يدعون فهم هذه الرياضة التي تحتكرها غربيات. فقد صارت كيليا نمور، عن غير قصد منها، وجهاً للفتاة الجزائرية. صارت صورة بروفايل ترفعها فتيات على حساباتهن في السوشيال ميديا. بعدما كنا يختفين خلف صور مغنيات أو ممثلات، أو خلف صور حجاب أو جلباب، بتن ينتحلن صورة لاعبة الجمباز اليافعة، وكل واحدة منهن تحمل في قلبها أمنية بأن تتبوأ مكانتها ذات يوم. ويكاد الحال ينطبق على إيمان خليف، التي لم تخلف وعدها بالذهب، في الملاكمة النسوية، وعادت من باريس تحمل ميداليتين، واحدة من الحلبة والثانية من مقارعتها وصبرها في تحمل الإساءات التي تعرضت لها، في الأسابيع الأخيرة، والتشكيك في أنوثتها.
تحملت إيمان كل تلك الضغوطات، وواصلت طريقها صوب التتويج من غير عثرة. وباتت نجمة فوق العادة. كيليا نمور تمثل جزائريات مغتربات وإيمان خليف القادمة من عمق الجزائر. كلاهما لم ينحصر فوزهما على ميدالية تنضاف إلى جدول الميداليات، بل تمكنتا من زرع هرمونات التحفيز في قلوب مثيلاتهن من البنات في الجزائر. كانت المرأة في الجزائر تنحصر مهمتها في خدمة الذكورية، في الإنجاب ورعاية الأطفال، لا يُنظر إليها من باب مساواة، لكن بعد ميداليتين في الألعاب الأولمبية، صار من حق المرأة أن تحلم، أن تطل برأسها خارج قفص الرجال، أن تنازع حقها في النجاح، أن يصير اسمها، في المستقبل، بديلاً عن اسمي كيليا وإيمان.
تغيير الطريق
هناك مثل شعبي شائع في الجزائر مفاده: «المرأة لها زوجها أو قبرها» أي أن لا خيار ثالث لها، لا حق لها في التفكير في الخروج عن الخطة الاجتماعية المسطرة، لا يسمح لها (لاسيما في مناطق نائية) في التفكير في دراسات عليا، تكتفي بالزاد القليل، وتنتظر رجلاً يطرق بابها، فتتخلص من صفة عازبة. هكذا جرت الأعراف في تحييد المرأة من المشهد العام، في حجبها في البيت، وفي حجب عقلها من مراكمة الأحلام. لكن هل سوف يستمر الحال كما كان؟ أليس من الواجب تعميم انتصارات كيليا وإيمان؟ لم تكن الحياة رؤوفة بالمرأة، في الجزائر، من غير مقاومة وصبر ومجازفة. لم يكن في وسعها الوصول إلى ما تصبو إليه من غير أن تصيبها سهام الذكورية المريرة، التي تود إزاحة المرأة كي يظل الرجل وحده يمسك بزمام الأمور. هذه الذكورية لم تعد وجهة نظر، بل هي قانون قائم في حد ذاته. قبل أيام وأنا أطالع تقريراً عن أسباب الطلاق في الجزائر، صادفت تصريحاً لواحد من علماء الاجتماع يقول ما معناه، إن السبب في الطلاق هو خروج المرأة إلى العمل. هذا الكلام لا يمكن تقبله إن صدر على شخص غير متعلم، ما بالك أن يصدر على لسان شخص يفترض أنه تخصص في السوسيولوجيا! ويمكن أن نتخيل حجم الضغط الذي تتحمله المرأة كل يوم. إذا خرجت إلى المدرسة فهي تعلم أن الدراسة لن ترفع من شأنها، في عيون الغير، ما دامت لم تحظ بزواج. إذا خرجت إلى العمل، فهي تعلم أن الآخرين يظنون في خروجها من البيت سبباً في فرضية الطلاق إذا كانت متزوجة. ماذا يرجى منها في هذه الحالة؟ أن تلزم البيت ولا تخرج منه؟ إذا لازمت كيليا أو إيمان البيت، لكانت الجزائر في اكتئاب، لأنها لن تنال نصيبا من ميداليات باريس. أليس من الواجب أن نفكر في تشجيع النساء على الحلم، أن يمارسن ما يطمحن إليه، أن يكنّ مثل كيليا وإيمان في تخصصهن، ليس بالضرورة في الرياضة، بل نحتاج أمثال كيليا وإيمان في الطب والهندسة والصحافة، وغيرها من المجالات الأخرى.
مشاريع
منذ استقلال الجزائر في 1962، توالت مشاريع حكومية، من أجل الحد من الأمية، ولاسيما في أوساط النساء، وفي المناطق الريفية والبعيدة عن المدن الكبرى. جعلت الدولة من التعليم عموداً يحمل سقف طموحاتها، ولم تخطأ في ذلك الخيار، على الرغم من أن نجاحه يحتاج إلى مراجعة، لكن لماذا لا نفكر في مشروع مماثل يتعلق بدعم النساء في الرياضة؟ عندما نطالع سيرة إيمان خليف، سوف نجد أنفسنا إزاء امرأة استثنائية. فهي ليست من الجزائر العاصمة، ولا من واحدة من مدن البلاد الكبيرة في الشمال، بل هي من قرية نائية، ولدت وكبرت فيها، ثم انتقلت مع أهلها إلى بلدة محافظة، حيث المرأة يتعسر عليها الخروج من البيت عقب سن الرشد. في بلدة من النادر أن نعثر فيها على قاعة رياضة موجهة للنساء (ونعلم منطق الفصل بين الرجال والنساء في قاعات الرياضة في الجزائر) إذن فقد جاءت إيمان خليف إلى الملاكمة من بيئة تعادي رؤية المرأة خارج البيت، ولا يسرها أن تراها تمارس الرياضة في العلن، وما بالك برياضة مثل الملاكمة، التي عمّرت طويلاً حكراً على الرجال. مع ذلك كسبت إيمان خليف نزالها ضد العادات والأعراف، تغلبت على مكبرات الصوت الذكورية، التي كانت محاطة بها، وصارت فخراً للرجال وتحلم نساء أخريات باقتفاء أثرها. نظن أن ما حصل في باريس، في الأسابيع الماضية، من تتويج نسوي في الرياضة الجزائرية، يستحق أن يكون عتبة نعيد فيها التفكير في علاقتنا بالمرأة، ورفع الحجر عنها.
كاتب جزائري