بعد الولاية الخامسة… على الساعة الخامسة في 05/05/2019

في هذا اليوم، وهذا الشهر، وهذه الساعة، ولا نعرف إن كانت صدفة الأقدار هي التي صنعت هذا في كل هذا التوقيت المتناسق. شهدت الجزائر وحراكها حدثاً مهماً قد لا يتكرر أبداً في الحياة التي عاشها الجزائريون، ويعيشونها. بهذا، انتهت المرحلة الأولى الكبرى من مطالب الحراك، باعتقال رؤوس الدولة العميقة: الجنرال محمد مدين، والجنرال عثمان طرطاق، والسعيد بوتفليقة، شقيق الرئيس السابق، بتهمة المساس بسلطة الجيش والتآمر ضد سلطة الدولة. وكان قد سبق ذلك اعتقال الجناح الهش من كبار رجال الأعمال الذين عاثوا فساداً، وتحكموا في اقتصاد البلاد، وبنوا إمبراطوريات مالية من لحم الجزائريين: علي حداد، والإخوة كونيناف، ويسعد ربراب، الذين شكلوا على مدار العشرين سنة الماضية الحائط الواقي لممارسات الدولة العميقة لحساب الرئاسة، هذه الأخيرة التي تحولت مع الوقت إلى مجرد قوقعة ميتة.
اعتقال العصابة، كما سماها الحراك وطالب برؤوسها وتطبيق العقوبة القصوى عليها، يجب ألا ينسينا الدولة ومؤسساتها أو ما تبقى منها، وألا تضعها المطالبة بإعدام الجناة خارج القانون.
لا قوة تبت في نهب مال الجزائر وسرقة خيراتها وظلم الناس إلا العدالة خارج أي ضغط ومن أي جهة كانت. الحراك قوة شعبية كبيرة ويجب احترام إرادته، ولكنه ليس العدالة أو مؤسسة قضائية، وإلا سيسقط في التعسف الذي حاربه وما يزال الحراك يحاربه بكل ما ملك قوة. وقبل كل شيء يجب إيجاد صيغة مع كل هؤلاء وحاشياتهم ومنفذيهم من الذين نهبوا المال العام، لاسترجاعه وإعادته إلى خزينة الدولة. الحسابات ضخمة وتقاس بالمليارات ولا يمكن التغاضي عنها. وثائق التحويلات لا بد أن تكون متوفرة في البنوك الوطنية أو عند بعض المديرين النزيهين الذين أعلن الكثير منهم التعاون مع الدولة فور استقرارها. من مصلحتهم أن يتعاونوا ويظهروا ذلك كله للعلن ليصبح كل شيء شفافاً، ليس انتقاماً من سارقي البلاد، ولكن لتنوير الناس. عندما يسترجع الشعب حقوقه المنهوبة كلها تبدأ المحاكمة الحقيقية التي يجب أن تكون عادلة معلنة عن عهد جديد خال من الأحقاد وتوحش الإعدام.  وبهذا تبدأ المرحلة الثانية الكبرى للحراك، أي الانتقال نحو التغيير الجذري للسلطة التي تداخلت فيها الصلاحيات منذ الاستقلال، إذ أصبح الجزائري من يحكمه، رئيس أم ظل رئيس؟
الدولة العميقة كانت هي من يخـــتار وهي من يفرض سلطانه وخياراته. كل رؤساء الجزائر، منذ وفاة الرئيس بومدين، هم من خيارات سلطة الظل الحقيقية، وذهابها يعني ببساطة تحرير الجزائر نهائياً من عائق تاريخي لكل تحول أو تغيير. لا يمكن أن تظل بلاد غنية بمالها وشبابها رهينة إرادة الظل.
جمهورية ثانية حقيقية بدأت ترتسم ملامحها الآن في ظل حراك لم يخب، لأن مطالبه عادلة. قناتان متوفرتان لإنجاز ذلك: القناة الدستورية وهي الصيغة الأكثر توفراً وتطبيقاً، والقناة السياسية وهي مخرج غير منجز، يجب العمل عليه كثيراً قبل التفكير في تطبيقه؛ لأن مخاطره كبيرة، إذ يعري الدولة من كل وسائلها القانونية ويعطل عملها في ظل أزمة اقتصادية وسياسية خانقة. لكل واحدة من القناتين إيجابياتها وسلبياتها، وحدودها ومزالقها أيضاً. نكتفي هنا بالأولى، على أمل العودة إلى الثانية لاحقاً. الحل الدستوري، تعيش الجزائر اليوم سلبياته المباشرة، إذ وجد الشعب الجزائري نفسه أمام رئيس لم ينتخبه فرضته مادة قانونية دستورية. لا يحبه الحراك، ويريده أن يسقط مثل بقية الباءات: ابن صلاح، بدوي، بلعيز. استقال الأخير دون أن يحل الإشكال بالنسبة للحراك، بينما الانتخابات الرئاسية على الأبواب. وعلى الرغم من ذلك، واستناداً إلى ما قدمه حقوقيو الدساتير في الجزائر، أن الحل الدستوري الاجتهادي ما يزال ممكناً ومتوفراً. الدستور يمنح حق الاستقالة لرؤساء المؤسسات الثلاث، ويمكن بسهولة افتراض الحل التالي القريب من مطالب الحراك: يستقيل مثلاً رئيس المجلس الدستوري الحالي ولا يعوض بنائبه، كما حدث عندما استقال بلعيز، ولكن بشخصية وطنية تحوز رضى الحراك عموماً. ليكن مثلاً السيد كريم طابو أو بوشوشي. ثم يستقيل رئيس الدولة، ولا أعتقد أن السيد بن صالح سعيد بمنصب أتى به دستور منهك ومنتهك. يقدم استقالته لرئيس المجلس الدستوري، ويتم تعيين شخصية وطنية عليها إجماع، بخبرة سياسية كبيرة، وليكن السيد أحمد الإبراهيمي، الذي يعين بدوره رئيساً للحكومة من الذين رفعهم الحراك عالياً، مثلا ابن بيتور، خلفاً لبدوي الذي يكون قد قدم استقالته لرئيس الدولة. سيكون الرجال الثلاثة بخبرتهم السياسية، هم الذين يشرفون على المرحلة الانتقالية ويحضرون للانتخابات. ويكون الحل الدستوري قد احترم كلياً في روحه، وسمح بتحريك الأزمة السياسية التي تتخبط فيها البلاد وتعرضها للمزيد من المخاطر والأزمات الاقتصادية الحادة. طبعاً، الأسماء ليست إلا اقتراحات افتراضية توضيحية، لأن في الجزائر المئات ممن يستطيعون الاضطلاع بهذه المهمة، بعد أن كسرت المؤسسة السلطوية أجيالاً فعالة من الشباب ومن أجيال سابقة التي امتلكت الثقافة والحنكة السياسية ميدانياً. بناء على ذلك يتم التحضير للانتخابات الرئاسية، وليس شرطاً أن تحصر في تسعة أشهر أو ما تبقى منها، إذ يمكن تمديدها للضرورة.
الدولة إذا بقيت بالأجهزة الرئاسية والتنفيذية الحالية لن تخفف شيئاً من الأزمة، ولن تكون الرئاسيات حدثاً كارثياً فحسب، بل ستحول رمزية يوم عيد الاستقلال (5 يوليو) إلى رمزية للفشل والإخفاق وربما حتى الاصطدام بنزول أكثر من عشرين إلى الشوارع لمنع انتخابات تسرق نضال الشعب وحريته ومطالبه، وتعود البلاد إلى النقطة الصفر وتتعقد الوضعية السياسية أكثر، وتكون فرصة لكل المغامرين السياسيين الذين خسروا مصالحهم للزج بالجزائر نحو نار الفتنة والتمزق والعنف، ولن يبقى أمام الجيش سوى إعلان حالة الطوارئ الخطيرة، والتفكير في أحسن الأحوال في الحل السياسي بكل ما يحمل من مخاطر، وتلك مسألة أخرى.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول مرداسي لزهر:

    القناة الدستورية صلبة حتى الآن, القناة السياسية هشة وفيها عيوب
    تجعلك حاضرًا لكنها لا توصلك, السياسة هي عيبنا الكبير, سياسة كل شيء

  2. يقول خليد المغرب:

    تحية الاستاد واسيني
    الحراك فعل المستحيل عىى جميع الاصعدة والاهم حافظ على الوحدة والزخم الشيء الذي لايمكن ان نجده في بلد عربي اخر هذا دليل على أن الشعب الجزائري في درجة عالية من الوعي…لكن تبقى المؤسسة العسكرية هي التي تمتلك مفاتيح الحل للذهاب بالحراك المبارك في بر الامان…نتمنى ان تعي المؤسسة العسكرية بتطلعات الشعب ولاتكترث بتوجهات القوى الخارجية الخبيتة.
    النصر والحرية انشاء الله

  3. يقول علي:

    هناك رءوس أخرى ، لكن يصعب تطهيرها . أعني المثقفين الفرانكفون الذين تخلوا عن عروبتهم والإسلام، أو حزب فرنسا الذين أيدوا العصابة الحاكمة ونطقوا بصوتها في العداء للدين والشعب، والولاء لفرنسا وقيمها الاستعمارية العنصرية. يسقط حزب فرنسا.

  4. يقول أحمد. علي:

    يبدو أن البعض اختلت عنده الموازين، فالدستور هو مجرد آلية لخدمة الشعب وليس صنما يعبد! فإذا عارض الدستور الإرادة الشعبية يفقد مشروعيته، اختلاق الأعذار الواهية للإلتفاف على مطالب الشعب تحت ذريعة احترام الدستور مناورة أكل عليها الدهر وشرب، المطلب الشعبي كان واضحا وصريحا: التخلص من رموز النظام القائم وتشكيل هيئة وطنية مستقلة تشرف على المرحلة الإنتقالية، وكأن الجزائر لم تلد رموزا وطنية شريفة يعهد إليها قيادة الإنتقال السلمي لنظام ديموقراطي!؟

  5. يقول مراد. بجاية:

    استقلالية القضاء غير وارد في ظل ركود الوضع السياسي وتحكم أركان النظام المنبوذ في دواليب الحكم في البلاد، لذلك فشباب الحراك الجماهيري لا يؤمنون بمحاكمات عادلة تكشف كافة الحقائق، بل هي محاولة لكتم أنفاس بعض أقطاب النظام والإسراع بالتخلص منهم لتفادي إفشائهم لأسرار الدوائر النافذة طوال العقدين الماضيين.

  6. يقول خالد الزناتي:

    شباب الحراك الشعبي خالفوا الموعد عندما راهنوا على عفوية الإحتجاجات ولم ينتقلوا إلى مرحلة فرز نواة قوية تنطق باسم الحراك وتعمل على تفادي بث الفرقة بين صفوفه أو فتوره، التجربة السودانية اختارت من ينطق باسمها وحسمت الموقف لمجابهة تعنت بقايا النظام على المستوى الداخلي وكذا لإحباط مؤامرات جهات أجنبية متآمرة.
    أما في الجزائر فلازال التوجس والحذر من سطوة قادة الجيش حاضرا بقوة في مخيلة الحراك الشعبي لذلك لم يقدم هذا الأخير على خطوات حاسمة لتبديد مناورات رئيس أركان الجيش ومعاونيه.

  7. يقول سوري:

    ان نجاح الثورة الجزائرية المجيدة هو نجاح لمسار الديمقراطية في الوطن العربي ككل لأنها ستكون سندا لتونس رائدة الثورات العربية والنظام الديمقراطي وستكون نبراسا لكل شعوب العرب المتطلعة للحرية واسقاط عصابات الخيانة والخنوع والركوع والفساد
    تحيا الثورة الجزائرية العظيمة، نحن بالانتظار على جمر أن تسقط كل عصابة الفساد وتسير الجزائر العظيمة في ركب الدول الديمقراطية، عاش شعب الجزائر الرائع وعاشت ثورته المجيدة

  8. يقول حسام عبد النور:

    السيناريو الذي رسمه قادة العسكر بدأت تتضح معالمه يوم أصروا على تثبيت رجل النظام الحاكم بن صالح في موقع رئيس مؤقت للبلد والتخطيط لتنظيم انتخابات رئاسية تحت رعاية بيادق النظام الحاكم وتجاوز مطالب الشارع بتشكيل هيئة منبثقة عن توافق شعبي لترتيب المرحلة الإنتقالية، ستكتمل فصول المسرحية حتما بإعلان قادة العسكر حالة الطوارئ رغم تشبث الحراك بسلمية الإحتجاج، سيبرر العسكر تدخلهم بالشأن السياسي بوجوب الحفاظ على أمن واستقرار الوطن وحمايته من مؤامرات خارجية وبقية المعزوفة يعرفها الجميع.

  9. يقول لونيسي عبير / عنابة الجزائر:

    لن يتغير شيء ستبقى الافلان والراندو في الحكم وبعض الاحزاب الطفيلية ، المال الحرام والجهل يتحكمان في الجزائر وباختصار شديد … الحراك الوطني ضعيف جدا …. تركنا لهذا النظام البائس الجرثومي الشيطاني السرطاني الجهنمي – من يوم السبت الى يوم الخميس … 06 ايام ليفعل ما يريد ونريده ان يتنحى هذا مستحيل ومن مليار المستحيلات ان يتنحنى بهذا الاسلوب الضعيف …. يجب ان نتوقف عن كل شيء حتى يعرف هذا النظام الخبيث حجمه الحقيقي واجزم لكم لو طبقنا هذه النظرية يعني الاعتصامات فلن يزيد هذا النظام النتن الاسبوع الواحد ….. هذا النظام عبارة عن بيوت خلاء متنقلة عافاكم الله لن يستسلم بهذه الطريقة الضعيفة .

  10. يقول عبد الوهاب عليوات:

    بارك الله فيك سيد واسيني على مقالك الواعي والموضوعي والمتزن بعيدا عن كل شعبوية وانتهازية سياسية وخارج نعيق الغربان التي تريد ركوب الحراك من أجل الوصول الى السلطة وفرض أجندتها العميلة..
    غربان دأبت على تبخيس كل نصر للحراك وبث الشكوك في كل خطوة تتقدم به نحو تحقيق مطالبه.. غربان تريد دفع الشعب لمواجهة الجيش وتعطيل كل حل دستوري لنشر الفرضى الخلاقة إرضاء لمساخدميهم.
    الدستور لم يكن يوما مجرد آلية كما يقول بعض المغيبين.. الدستور هو وثيقة قانونية يعبر عن العقد الاجتماعي الذي خطه تلشعب بإرادته الحرة ولا يمكن تجاوزه بغير استفتاء شعبي حر..
    الدستور هو الضامن لعدم انهيار الدولة خلال للانتقال الديمقراطي.
    كان من الممكن تجاوزه لو أن الحراك أفرز ممثلين حقيقيين عنه استنادا لمبدأ الشرعية الثورية ولكن ولكن والحال غير ذلك صار تجاوز الدستور مخاطرة كبرى لانه سيسلم السلطة لأشخاص غير موثوقين لا يحكمهم قانون ولا أجهزة أمنية.
    تجاوز الاطر الدستورية كان ماكرون هو أول من نادى به ثم تبعه أبواقه وأذنابه المنبوذين من طرف الشعب من الذين شنوا حملة ضد مؤسسة الجيش لأنها منعتهم من الوصول الى السلطة.

    1. يقول هيثم:

      أتفق مع الأستاذ واسيني في المقترحات التي ضمنها بالمقال على أساس التوافق حول بعض الشخصيات المعروفة بنزاهتها و سمعتها الجدية لدى الشعب خاصة وأن الجزائر الشقيقة تحفل بالعشرات والمئات والآلاف منها وعلى سبيل المثال الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي. وذلك رغم أن النظام البوتفليقي أحكم قبضته على الدولة والمجتمع بتعيين أفراد العصابة في المراكز الأساسية للدولة. الغريب أن السيد عليوات يتغنى بتطبيق الدستور الذي يتشبت به قائد الجيش في إطار الوضع الحالي ( الرئيس المؤقت ورئيس الحكومة المرفوضين ) مع مطاردة الساحرات عبر اعتقال بعض أفراد العصابة.ما الذي منع من تطبيق الدستور على علاته منذ سنة 2013 حينما ظهر للجميع العجز الصحي للرئيس بوتفليقة وعدم القدرة على تحمل مسؤولية رئاسة الدولة. وهكذا فالرجل يومن ببعض الكتاب و لا يومن بالبعض الآخر حسب أهواء النفس وميولها . ومتى كان القايد صالح منسجما مع طموحات الحراك ؟ ألم يكن من أنصار العهدات كلها؟ من المؤكد أن العصابة الحاكمة تتميز بقدر هائل من الغباء حجب عن الغضب الشعبي المتواتر منذ مهازل الرئيس العاجز عن الحركة والكلام وما أثاره التبجح بالعهدة الخامسة كتحدي لكرامة الشعب الجزائري الشقيق.

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية