بغداد- نازا محمد- علي محمد: قبل عام، أعلنت بغداد تحقيق النصر على تنظيم الدولة الاسلامية “داعش”، بعد حرب ضارية استمرت ثلاث سنوات، لتنهار ما أسماها زعيم التنظيم، أبو بكر البغدادي، “دولة الخلافة” على أراضٍ شاسعة في الجارتين العراق وسوريا.
خرج البغدادي إلى العلن، في يوليو/ تموز 2014، عندما اعتلى منبر جامع النوري الكبير بمدينة الموصل (شمال)، ثاني أكبر مدن العراق، ليعلن قيام “الخلافة الإسلامية” العابرة للحدود،؛ مما أثار هلعاً على الصعيدين الإقليمي والدولي.
“دولة” البغدادي كانت مترامية الأطراف، تشمل ثلث مساحة العراق ومناطق شاسعة في سوريا، وكان تنظيمه يطمع في التهام بقية دول المنطقة الواحدة تلو الأخرى، بعد أن اجتاح مناطق عراقية، صيف 2014.
ما إن استوعب الجيش العراقي صدمة الاجتياح ولملم شتاته، حتى بدأ في العام نفسه حملات مضادة لاستعادة أراضيه، بمساعدة “الحشد الشعبي” (فصائل شيعية مسلحة) و”البيشمركة” (قوات إقليم الشمال)، وبتغطية جوية من التحالف الدولي، المكون من نحو 60 دولة تقودها الولايات المتحدة الأمريكية.
كانت المعارك أشبه بحرب عالمية، لكنها تركزت في بقعة جغرافية واحدة، ويوماً بعد آخر تقدمت القوات العراقية على تنظيم الدولة، حتى أعلن رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، في 9 ديسمبر/ كانون أول 2017، تحقيق النصر واستعادة كافة الأراضي.
لكن إعلان انتهاء الحرب لم يضع نهاية للتنظيم في العراق، إذ بدأ مسلحو التنظيم الفارون من المواجهات المباشرة بإعادة تنظيم صفوفهم، وشن حرب من نوع آخر، لطالما اتقنوها قبل إعلان “دولتهم”، وهي “حرب العصابات” أو “الكر والفر”.
وبينما يحتفل ساسة العراق في بغداد بالذكرى الأولى لإعلان تحقيق النصر على تنظيم الدولة الاسلامية “داعش”، ما تزال القوات العراقية منشغلة بتمشيط المناطق النائية والصحراوية، بحثاً عن خلايا وفلول التنظيم، الذي يغير جلده.
مثلثات الموت
المعطيات تفيد بأن تنظيم الدولة “داعش” يمتلك خلايا ما تزال تستقر في مناطق ومدن عراقية مختلفة، وتشن من آن إلى آخر هجمات دموية تستهدف غالباً قوات الأمن، وهو ما يستنزف طاقتها في حرب غير نظامية.
سينصب اهتمام الحكومة العراقية مجدداً، خلال العام المقبل، على ملاحقة مسلحي “داعش” ومحاولة القضاء عليهم نهائياَ، وهو ما اعتبره الباحث والخبير في الشؤون الأمنية والجماعات المسلحة، هشام الهاشمي، “ممكناً”.
الهاشمي قال إنه “يجب التركيز في البحث عن مراكز التحكم في داعش، وليس على تسكين وتهدئة تعرضاته الإرهابية، وبذلك يمكن إجبار قيادات التنظيم وفلوله على التراجع ومغادرة العراق”.
وأعرب عن اعتقاده بأن “مراكز تحكم داعش توجد في سلسلة جبال حمرين، الممتدة بين محافظات ديالى (شرق) على حدود إيران، وكركوك وصلاح الدين (شمال)”.
كما توجد مركزه في “منطقة مطيبيجة (في صلاح الدين)، وجزيرة الحضر وصحراء البعاج (في محافظة نينوى)، ووادي حوران (غرب) على حدود سوريا”، بحسب الخبير العراقي.
وشن “داعش”، خلال الأشهر الماضية، هجمات شديدة استهدفت في الغالب قوات الأمن، عبر زرع متفجرات على الطرق داخل المدن وخارجها.
كما ينصب التنظيم حواجز أمنية مزيفة على طرق رئيسية، ويقتحم قرى وحواجز عسكرية في مناطق نائية، تحت جنح الظلام.
وشهد الطريق الرابط بين كركوك وبغداد هجمات متكررة، حتى عرفت المنطقة المستهدفة بـ”مثلث الموت” بين كركوك وديالى وصلاح الدين.
وهذه المنطقة وعرة تحيطها تلال جبال حمرين، ويمر عبرها الطريق الرئيسي بين شمالي العراق ووسطه وصولاً إلى الجنوب.
وقال الهاشمي إن “مثلثات الموت تمثل أرضي تمكين للتنظيم، فهي خالية من نقاط الرصد الاستخباري، وبالإمكان أن تصبح ساحة لعمليات إرهابية ولجمع المال ولعودة الأنشطة الإعلامية ولخلط الأوراق الطائفية والقومية”.
وأضاف أن “تلك المثلثات تضم فلول وشتات داعش، التي تمهد من جديد لصناعة حاضنة وإلى معسكرات ومخازن واستثمارات سرية، لتصل بعد ذلك إلى ميدان المواجهة المباشرة”.
واعتبر أن “عودة مفارز داعش والجماعات المتمردة، واختيار الزمان والمكان والهدف، عبر سيطرات (حواجز) وهمية وكمائن مخطط لها مسبقاً، يعني إعادة تجديد هياكل التنظيم”.
وشدد الهاشمي على أن “الحل لن يكون إلا بمعركة الاستخبارات والعمليات الخاصّة والقوات المناطقية”.
ثغرات بين القوات
على مدى ثلاث سنوات، كانت القوات العراقية وقوات إقليم الشمال حليفان رئيسيان في الحرب ضد “داعش”.
ثم توترت العلاقة بينهما إلى حد المواجهة المباشرة، في أكتوبر/ تشرين أول الماضي، تحت وطأة خلافات قديمة، في مقدمتها الصراع على مناطق متنازع عليها.
على إثره، انسحبت “البيشمركة” من مناطق النزاع، وخلفت بينها وبين القوات العراقية منطقة فاصلة تشبه إلى حد كبير المناطق المحرمة بين جيشين، وهو ما استغله تنظيم “داعش”، حيث يتحرك بحرية كبيرة لشن هجمات في المناطق القريبة.
وقال المستشار العسكري لوزارة “البيشمركة”، اللواء الركن بختيار محمد، إن “هجمات داعش تزايدت باستخدام الأساليب التقليدية ذاتها التي كان يتبعها قبل 2014”.
وأرجع ذلك إلى “عدم وجود تنسيق بين القوات العراقية وقوات البيشمركة، وعدم عودة بعض النازحين والمهجرين إلى مدنهم ومساكنهم”.
كما أعاد الأمر إلى “عدم وجود خطة شاملة لإعمار إعمار المناطق المنكوبة والمدمرة.. حتى الآن لم يتم دعم سكان المناطق المحررة ليكونوا مساندين للدولة بشكل أكثر فاعلية”.
ركائز تنظيم الدولة
منذ إعلان بغداد هزيمة “داعش”، يردد المسؤولون العراقيون أن التنظيم لم يعد يمتلك القوة للسيطرة من جديد على أية أراضٍ.
وتكرر وزارة الدفاع العراقية في بياناتها أنها تتبع خطط مدروسة لتمشيط المناطق النائية والصحراوية للقضاء على مسلحي التنظيم نهائياً.
وتقول السلطات الأمنية إنها تواجه ما تبقى من نشاط “داعش” عبر ضربات جوية تستهدف معاقله في المناطق النائية، مع تكثيف نشاط الاستخبارات لتفكيك الخلايا داخل المناطق الحضرية.
غير أن مستشار وزارة “البيشمركة” حدد ركائز يرى أن “داعش” ما يزال يتغذى عليها، ويحاول من خلالها ترتيب أوراقه.
وقال “بختيار محمد”: “توجد أربع ركائز مستمرة تغذي داعش، وهي: الفكر، الإعلام، الدعم المالي والقوة المسلحة”.
لعب التحالف الدولي دوراً مؤثراً في الحرب ضد “داعش”، عبر تأمين التغطية الجوية المكثفة وتدريب القوات العراقية وتسليحها، إضافة إلى تزويدها بالمعلومات الاستخباراتية.
وما يزال التحالف يقدم الإسناد الجوي للقوات العراقية، خلال حملات التمشيط بحثاً عن خلايا “داعش”، وزعيمه “البغدادي”، الذي ما يزال طليقاً يراوده حلم إعادة إحياء “الدولة”.
لكن الهاشمي قال إن “طبيعة العلاقة بين التحالف وقوات الحشد الشعبي (ترتبط بعض قيادتها بعلاقات وثيقة مع إيران) في المناطق المسيطرة عليها الأخيرة كانت لها انعكاسات لصالح داعش”.
وأوضح أن “قوات التحالف لا ترغب بتقديم المساعدة للقواطع العسكرية والأمنية التي ترابط فيها قوات الحشد الشعبي الشيعي، وخاصة في مناطق عكاشات والفوسفات والقائم القريبة من حدود سوريا في محافظة الأنبار (غرب)”. (الأناضول)