هزت احتجاجات عنيفة مناوئة للمهاجرين والمسلمين، واحدة من أكثر الديمقراطيات تنوعا وشمولاً وعدلا وانفتاحا في العالم: بريطانيا التي يحيا على ترابها بشر من كل الخلفيات، وتتعايش فيها كل الديانات. أضرم المحتجون النار في سيارات الشرطة والفنادق والمساكن التي تؤوي طالبي اللجوء، واعتدوا على مكاتب جمعيات خيرية ومساجد، وأصابوا عددا من رجال الأمن.
اعتبرها أنصار اليمين المتطرف «احتجاجات» ونعتها بعضهم بـ»الثورة» بينما أدانها كثيرون من جملتهم كتاب وفنانون. وصفها الكاتب الإنكليزي دوغلاس موراي، مؤلف سبعة كتب في قائمة الكتب الأكثر مبيعا، ومنها كتاب «الحرب على الغرب» بالأحداث المُروعة. وذهب آخرون إلى حد وصفها بالأعمال الإرهابية. من هؤلاء الروائية البريطانية جي كي رولينغ، مؤلفة سلسلة روايات هاري بوتر الشهيرة، التي قالت في تغريدة: «محاولة إضرام النار بفندق يؤوي طالبي لجوء ليست احتجاجاً، ولا هدم مسجد. إنه تعصب جلي لا يخفى على أحد. هذه الاحتجاجات هي أعمال شغب تعتمد على بث الرعب، وحتى الإرهاب أحيانا».
الأحداث العنصرية هذه تعرض صورة مناقضة لصورة بريطانيا المعروفة عالميا بأنها أحد أفضل نماذج التنوع والتساهل والتعايش في العالم، ما يدعونا إلى التساؤل: ما سرّ استياء البريطانيين من أقليات تحيا بينهم منذ عهد طويل ومن مهاجرين؟ وهل هي سحابة ماطرة عابرة، أم أنها عميقة الأثر، تؤسس لعهد جديد يبنى على أنقاض مشروع التعدد الثقافي البريطاني، وتمهّد لمستقبل يحكمه التعصب للهوية والنزعة القومية والنعرات العرقية؟
تأثير الأخبار الزائفة في الاضطرابات المدنية
في زمن الرقمنة، تنتشر الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة كالنار في الهشيم، عبر شبكة جسور عابرة للحدود، قليلة الرقابة: منصات التواصل الاجتماعي. النتيجة؟ انتشار خطاب الكراهية وتفشي الفوضى والتفرقة بأشكال مرعبة. آخر ضحية تمثلت في بريطانيا، حيث ساهمت هذه الظاهرة في اندلاع أعمال شغب وانتشارها السريع في أنحاء البلاد. وقع ذلك بعد حادث طعن مأساوي تعرضت له ثلاث فتيات في ساوثبورت على الساحل الشمالي الغربي لإنكلترا، على بعد نحو 20 ميلاً شمال ليفربول، في يوم 29 يوليو/تموز. بعد الحادث مباشرة، انتشرت ادعاءات كاذبة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى وجه الخصوص منصة «إكس» مؤكدة أن المشتبه فيه البالغ من العمر 17 سنة طالب لجوء مُسْلم وصل مؤخرا إلى المملكة المتحدة، ما أدّى إلى عواقب فوضوية. فقد اندلعت أعمال الشغب في مدن في أنحاء إنكلترا وإيرلندا الشمالية، قام فيها المتظاهرون بالاعتداء على المساجد وإحراق سيارات الشرطة ومهاجمة رجال الأمن وإلحاق أضرار بالممتلكات. وحتى بعد كشف هوية المشتبه فيه ويدعى روداكوبانا، وهو شاب بريطاني المولد لا صلة له بالإسلام ولا بالهجرة، استمرت الجماعات المتطرفة في تأجيج نار الخطاب المناهض للمهاجرين والمسلمين، ما أثار مزيدا من الاحتجاجات والعنف من شمال المملكة إلى جنوبها.
دور السوشيال ميديا في نشر خطاب الكراهية
وقد استغل اليمين المتطرف تذمر المواطنين بعد مقتل الفتيات لإلهاب المشاعر القومية وزرع الضغينة والبلبلة والتفرقة بين أبناء المجتمع الواحد، من خلال معلومات لا أساس لها من الصحة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وذهب اليمين إلى حد تضخيم الحدث مثلما ذكرت صحيفة «واشنطن بوست» «وقد أعطى المنشور على منصة إكس اسما للمشتبه فيه، وقالت الشرطة إنه كان غير صحيح. وقامت مجموعة من الشخصيات اليمينية المتطرفة بتضخيم هذا المنشور على وسائل التواصل الاجتماعي، سواء داخل بريطانيا أو خارجها».
ولم يكن نشر هذه الأنباء الزائفة عفويا ولا عن سوء فهم، وإنما كانت عملا مقصودا وهو ما استخلصه أندرو تشادويك، أستاذ الاتصال السياسي في جامعة لوفبورو وخبير في نشر المعلومات المضللة عبر الإنترنت، حيث قال لصحيفة «واشنطن بوست» «يبدو أن التغريدة تمت فبركتها عمدا لإثارة العداء تجاه الأقليات العرقية والمهاجرين، ويحتمل أن تكون جزءاً من الحملة الدعائية المعادية للإسلام».
ردود أفعال المؤسسات المسؤولة على منصات التواصل الاجتماعي بدت متباينة مثلما أشارت إليه صحيفة «واشنطن بوست» على الرغم من أن بعض المنصات مثل ميتا وغوغل وتيك توك، استجابت بسرعة بإزالة المعلومات المضللة والمنشورات التي بدت موجهة للتحريض على العنف، إلا أن شركة إكس التي يملكها الملياردير التكنولوجي اليميني المتطرف إيلون ماسك، دخلت في صراع واضح مع حكومة ستارمر.
صحيفة «الغارديان» من جهتها أشارت إلى دور مالك منصة إكس في إثارة أعمال الشغب هذه في مقال بعنوان «إيلون ماسك ينشر أخبارا كاذبة حول إرسال مثيري الشغب في إنكلترا إلى جزر فوكلاند». وذكرت «الغارديان» أنّ «ماسك لم يعتذر عن نشر التقرير المزيف، واستمر في نشر مواد تنتقد الحكومة البريطانية وسلطات إنفاذ القانون في التعامل مع أعمال الشغب». وأضافت الصحيفة البريطانية أنها اتصلت بمنصة إكس لالتماس تعليق، لكنها لم تلق ردا يذكر. وقد توالت ردود الأفعال على مواقف ماسك، حيث سارعت بعض المؤسسات إلى وقف الإشهار على المنصة وانسحب بعضها منها كلية مثل مؤسسة مستشفى العظام الوطني الملكي التابعة لهيئة الخدمات الصحية البريطانية، التي قالت في منشور إنها أغلقت حسابها على منصة إكس بعد 13 عاما، لأن المنصة لم تعد متوافقة مع قيم المؤسسة، مثلما جاء في تقرير «الغارديان».
استياءً عميق الجذور من الأقليات
لقد كانت أعمال الشغب هذه تحديا صعبا للحكومة البريطانية الجديدة برئاسة كير ستارمر، لكن هذا الأخير استفاد من خبرته الطويلة في القضاء، وهو من كان مديرا للنيابة العامة من عام 2008 إلى عام 2013 ليسيطر على الوضع، من خلال إجراءات صارمة تضمنت تعبئة عاجلة للفرق الأمنية بلغت 6000 ضابطا متخصصا وتدابير لحماية الأماكن المستهدفة ومنها المساجد، وأحكاما قضائية سريعة وشديدة في حق المعتدين. بلغ عدد الموقوفين 1000 شخص، أصغرهم لا يتجاوز 12 عاما، وأكبرهم 69 عاما، وبلغت حدّ الحكم بالسجن لمدة ثلاث سنوات على متظاهر لكَمَ شرطيا. لكنّ إخماد فتيل الشغب، تضميد للجرح دون علاجه، فسيتم الحكم على ستارمر وفقا لطريقة معالجته الأسباب الجذرية لأعمال الشغب، وفي مقدمتها ملف اللاجئين والمسائل الاجتماعية والاقتصادية. فالأنشطة اليمينية تنبع من الفجوات الاجتماعية والأزمة الاقتصادية الخانقة، وعقود من القلق من الأجانب مع ارتفاع حاد في معدلات الهجرة، وما يرافق ذلك من مخاوف في ما يخص الهوية الثقافية والأمن الوظيفي وتوفر السكن والسلامة العامة والتماسك الاجتماعي. يضاف إلى ذلك خطاب الحكومة المناهض للمهاجرين المتكرر، وإسراف وسائل الإعلام في تناول هذا الملف، ما يساهم في نمو مشاعر القومية والانغلاق والاستيلاء من الأقليات والأجانب.
ما يمكننا استنتاجه من موجة العنف التي اندلعت هذا الصيف، أنه نمت في أوساط المجتمع ثقافة يمينية متطرفة وهي اليوم أكثر انتشارا وقوة مما نتصور، ما يجعلنا نتساءل عما إذا كانت ستهدد وجود التنوع الثقافي في هذا المجتمع. الجواب على ذلك: إن أثبتت التجربة الأخيرة خطورة اليمين المتطرف وقدرته على استخدام أساليب الخداع والتضليل وتعبئة الجماهير ونشر الضغينة والتفرقة، إلاَّ أنّ هذه الفئة المتطرفة تبقى ضئيلة، ضعيفة وسط غالبية منفتحة في المجتمع. فقد تلا احتجاجات اليمين خروج متظاهرين مضادين أعدادهم أضعاف أعداد المحتجين المتطرفين، مؤكدين تفوق خطاب التسامح على خطاب الكراهية، والتنوع الثقافي على اليمين العنصري. حمل هؤلاء لافتات مضادة كتب عليها «مرحبا باللاجئين» و»الرحيل للعنصريين، مرحبا باللاجئين».
التنوع الثقافي البريطاني أقوى وأبقى
فضلا عن غلبة مؤيدي تيار التعدد الثقافي في المجتمع البريطاني، للتنوع الثقافي جذور تاريخية عميقة أقدم من الثقافة اليمنية الحديثة، إذ أنه يعود إلى العهد الأنكلوساكسوني في القرن الخامس، بل أبعد من ذلك، إلى عهد الإمبراطورية الرومانية. فحلول الرومان ثم قبائل الأنجيليين والساكسون والجوت وقبائل صغيرة أخرى، وضع حجر الأساس لتشييد مجتمع متعدد الأعراق والثقافات. يضاف إلى ذلك تأثير الفتح النورماندي في القرن الحادي عشر، الذي ساهم في تطور اللغة الإنكليزية، فنسبة 30% من المفردات الإنكليزية المستخدمة اليوم هي من أصل فرنسي! وساهمت الشبكات التجارية المزدهرة خلال عصر الاستكشاف في وصول أجانب من خلفيات مختلفة، ما زاد المشهد الثقافي البريطاني تنوعا وثراء. يتجلى تسامح البريطانيين تجاه اللاجئين أيضا في استقبالهم اللاجئين الهوجونوت الفارين من فرنسا في القرن السابع عشر، ويُعتقد أن وليم شكسبير أبدى تعاطفا مع هؤلاء في بعض مسرحياته كمسرحية «الملك هنري الخامس».
واليوم، تتمتع المملكة المتحدة بهوية مميزة تنبع من تراث عريق ومتنوع، مشبع بثقافات وتقاليد متعددة انصهرت عبر قرون طويلة، يطبعها إيمان راسخ بالانتماء إلى المجتمع الواحد وتقبل الآخر والتعايش مع الآخر، يجسّدها خطاب الملكة الراحلة إليزابيث الثانية في عيد ميلادها الحادي والعشرين عام 1947 حيث قالت، «الجميع جيراننا، بغض النظر عن العرق أو العقيدة أو اللون».
خطاب الكراهية اليميني لا يقل خطرا
موجة العنف التي شهدتها بريطانيا لا تستطيع أن تهز أركان مشروع التعدد الثقافي العظيم، لكنها تذكيرٌ قوي بالمخاطر التي بات اليمين المتطرف يشكلها في بريطانيا على غرار أمم غربية كثيرة ومنها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وألمانيا. يؤكد ذلك ضرورة النظر في الدوافع الأساسية والاجتهاد لمعالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية المؤدية إلى مثل هذا الاستياء والغيظ. ولا يقتضي الأمر مواجهة الأسباب الجذرية فحسب، بل أيضا السعي لمكافحة الأخبار الزائفة، ومنع استخدام منصات التواصل الاجتماعي ووسائل أخرى لنشر خطاب الكراهية والتحريض على العنف. وفي ضوء هذه التحديات والأخطار المتزايدة التي صار يشكلها التيار المحافظ القومي في عصر العولمة، ينبغي علينا أن نعيد النظر في مفهوم القومية والوطنية، ففي الواقع «القومية شكل آخر من أشكال التطرف». ولم تخطئ ج. ك. رولينغ عندما شبَّهت العنف اليميني بالإرهاب. فخطاب الكراهية والعنف الذين يمارسهما اليمين تهديد للأمن والاستقرار والسلام والثقافة المشتركة للمجتمعات. لذلك يجب التعامل معها على أنها ممارسات إرهابية، ومحاسبتها قانونياً بقدر مماثل من الشدة والصرامة، الذي يعامل بها الإرهاب الديني، أو أي صنف آخر من الإرهاب.
كاتب جزائري