د. سعيد الشهابي
من التساؤلات التي قد لا تحصل على جواب حاسم استفسار واحد عما اذا كانت لدى بريطانيا نية للعودة للانتشار شرقي السويس. فبعد خمسين عاما من قرار قادة الامبراطورية العجوز بـ «الانسحاب» من كافة المناطق الواقعة «شرقي السويس» ثمة مؤشرات لتوجه معاكس.
من تلك المؤشرات ما يلي: اولا تصريح وزير الخارجية البريطاني السابق، فيليب هاموند في 2014 أن أمريكا قررت سحب قواتها من الشرق الاوسط لتعيد تموضعها في جنوب شرق آسيا وبحر الصين الجنوبي، وان بريطانيا وحلفاءها الاوروبيين سيتحملون مسؤولية امن المنطقة. الثاني: قرار بريطانيا الانسحاب من الاتحاد الاوروبي بعد ان وجدت نفسها غير قادرة على مستلزمات البقاء ضمن منظومة الاتحاد، وعدم قدرتها على منافسة المانيا وفرنسا في الزعامة. الثالث: الانفاق العسكري الهائل على التسلح ونشر قطع بحرية في مناطق نائية من العالم وبناء القواعد العسكرية الجديدة. الرابع: اعادة تشكيل التحالفات في الشرق الاوسط بما يتلاءم مع دور بريطاني جديد يختلف عما كان عليه خلال نصف القرن الاخير. الخامس: الموقف البريطاني المعارض بشدة لاية تغييرات سياسية في المنظومة السياسية العربية خصوصا في دول الخليج، وموقفها، منذ الايام الاولى لانطلاق ثورات الربيع العربي، بالتصدي لمحاولات تغيير الوضع الراهن، وتقديم المساعدات الأمنية والمعلوماتية واللوجستية لدعم ذلك التوجه.
هذه المؤشرات، برغم عدم القطع بدلالاتها المذكورة، فان لها مصاديقها من جهة، وتبعاتها غير القليلة من جهة ثانية. ومن يسعى للتغيير في المنطقة مطالب بأخذ هذه الحقائق بعين الاعتبار. ومن العوامل التي تساهم في اخفاء هذه التوجهات وعدم ظهورها إلى السطح انها ليست خيارات حكومية بحتة، بل قرارات تتخذها «المؤسسة الحاكمة» التي لا تشكل الحكومات المنتخبة والبرلمان الا جزءا يسيرا منها. ولكي يمكن استيضاح حقيقة هذه الفرضية (العودة البريطانية للمسرح الدولي خصوصا في الشرق الاوسط) يجدر متابعة تصريحات القادة العسكريين من جهة، وتحركات القوات العسكرية خصوصا البحرية من جهة ثانية، وتوجه العلاقات البريطانية مع القوى الاقليمية من جهة ثالثة. ولكل من المؤشرات المذكورة ظروفه ودلالاته.
المؤشر الاول ما قاله وزير الخارجية السابق فيليب هاموند، في كلمته امام مؤتمر «حوار المنامة» في كانون الأول/ديسمبر 2014: وذلك بعد اربعة اعوام من اندلاع ثورات الربيع العربي» حيث ان الولايات المتحدة اصبحت تركز جهودها بشكل اكبر على منطقة آسيا والمحيط الهادئ، يتوقع ان تلعب بريطانيا وحليفاتها الاوروبيات نصيبا اكبر من العناء في الخليج والشرق الأدنى وشمال افريقيا». وفي تقرير خاص نشره معهد الدراسات الدفاعية في لندن RUSI عام 2013 تحت عنوان: «بريطانيا تعيد انتشارها العسكري في الخليج: عودة إلى شرق السويس؟» طرحت تساؤلات ومؤشرات حول هذا العنوان. وجاء في البحث: «يبدو اننا نشاهد تحولا بطيئا في السياسة العسكرية البريطانية باتجاه عودة لاستراتيجية ما قبل 1971 بتعميق الوجود البريطاني في جنوب الخليج عبر اتفاقات مع حلفائها التقليديين في ابوظبي ودبي مع وجود ثابت في البحرين وعمان، وعلاقات سياسية واقتصادية مع المملكة العربية والكويت يمكن تطويرها إلى مستوى عسكري لو اقتضى الامر».
بدأت بريطانيا عمليا بممارسة ذلك الدور بنشر بعض قطعها البحرية للقيام بأدوار شتى. فطوال الشهور الستة الماضية قامت الفرقاطة «اج ام اس مونت روز» بجولة حول العالم لإثبات الحضور البحري البريطاني كأمر واقع
المؤشر الثاني: قرار الانسحاب البريطاني من الاتحاد الاوروبي لم يكن عاديا، بل تمت تهيئة الاجواء لتمريره عبر الاستفتاء الذي دعا له رئيس الوزراء السابق، ديفيد كاميرون. يومها لم تكن هناك اجواء تشير لرغبة شعبية في الانسحاب من اوروبا، الامر الذي اقنع الكثيرين بان الاستفتاء لن يقر الخروج من اوروبا. التفسير البسيط ان ديفيد كاميرون اراد ان يفي بوعده الانتخابي فاجرى الاستفتاء. ولكن المؤكد انه كان يعتقد انه لن ينجح، ولذلك اقدم على مغامرة خاسرة وخسر معها منصبه وخرج من العالم السياسي بقدرة قادر. لقد استدرج لذلك الاستفتاء ولو علم انه سيحدد مستقبله السياسي لما قام به. التحقت بريطانيا باوروبا في العام 1973، بعد انسحابها من شرقي السويس، وكانت تطمح ان تكون القوة الاولى في الاتحاد. ولكنها سرعان ما ادركت ان وجود كل من المانيا وفرنسا لن يتيح لها ذلك. ومع تصاعد القوة الاقتصادية والسياسية لألمانيا وفرنسا ادركت بريطانيا ان حظوظها في قيادة اوروبا ضئيلة جدا. ونظرا لاوضاعها الاقتصادية المتداعية التي ادت بها لأن تكون الدولة الثانية من حيث الديون (بعد الولايات المتحدة الأمريكية) فقد اصبح وجودها في اوروبا يمثل للمؤسسة خيارا فاشلا لن يحقق لها الدور القيادي الذي تبحث عنه، وسيكلفها كثيرا من ناحية الالتزامات المالية.
يضاف إلى ذلك ان عضوية الاتحاد يفرض عليها قوانين وآليات لا تتناسب مع توجهات قادتها، خصوصا في مجال حقوق الانسان والحريات العامة. هذه القضايا لم تطرح ضمن الدعاية التي تزامنت مع الاستفتاء، بل اثيرت مسألة اللجوء وتم اقناع الرأي العام الذي سوف يصوت في الاستفتاء بان تلك القضية هي الاساس لقرار الانسحاب. انها قضية ليست حقيقية، وان التحسس البريطاني والغربي ليس مرتبطا بالهجرة الداخلية بين دول اوروبا بل الهجرة من افريقيا والشرق الاوسط. ان خروج بريطانيا من اوروبا يشير على الاقل إلى توجه بريطاني للقيام بدور دولي واسع يتأسس على التركة السياسية التاريخية التي توقفت قبل خمسين عاما.
المؤشر الثالث: الانفاق الهائل على التسلح وبناء قطع عسكرية جديدة ضمن المشروع العسكري البريطاني. ففيما تدعو سياسة الاتحاد الاوروبي إلى زيادة الانفاق العسكري بمعدل 2 بالمائة سنويا، تصر الجهات المرتبطة بالمؤسسة البريطانية على ان تكون الزيادة بمعدل 3 بالمائة.
وللتدليل على قوة المؤسسة العسكرية، ذكرت صحيفة «ميل اون صانداي» في 24 حزيران/يونيو الماضي ان وزير الدفاع، جافين ويليامسون، وجه تهديدا لرئيسة الوزراء، تريزا ماي بـ «انهاء قيادة تريزا ماي اذا لم توفر زيادة اكبر (للانفاق العسكري)». ومع ان بريطانيا امتلكت في السابق حاملات طائرات عملاقة الا ان طموحاتها العسكرية دفعتها لزيادة الانفاق بمعدلات خيالية ففي العام الماضي تم تدشين حاملة الطائرات «الملكة ايزابيث» بتكلفة بلغت 6.2 مليار جنيه استرليني (قرابة عشرة مليارات دولار) وهي قادرة على استيعاب 34 طائرة من احدث الطائرات الأمريكية F35. وفي العام المقبل سيتم تدشين حاملة طائرات اخرى تحت اسم «برينس اوف ويلز» بالمواصفات نفسها وتكلفة يتوقع ان تتجاوز ما انفق على الاولى. هذا في الوقت الذي تتصاعد فيه ديون الدولة البريطانية من جهة ويتم فيه خفض موازنات الوزارات الخدمية الاخرى. الاولوية، كما هو واضح، لمؤسسات الدفاع والامن. وعندما «تبرع» حاكم البحرين قبل خمس سنوات ببناء قاعدة بحرية لبريطانيا في بلاده بتكلفة تجاوزت 40 مليون دولار طرحت تساؤلات كثيرة عن مغزى ذلك القرار وما اذا كانت بريطانيا بحاجة لتلك القاعدة اساسا. يومها لم تطرح سياسة الانتشار في المناطق الواقعة شرقي السويس علنا. وقد بدأت بريطانيا عمليا بممارسة ذلك الدور بنشر بعض قطعها البحرية للقيام بادوار شتى. فطوال الشهور الستة الماضية قامت الفرقاطة «اج ام اس مونت روز» بجولة حول العالم لاثبات الحضور البحري البريطاني كأمر واقع. قامت الفرقاطة بالابحار عبر المحيط الاطلسي وقناة بنما إلى المحيط الهادئ ثم إلى سنغافورة واليابان وقامت بمطاردة مهربي المخدرات في البحر الكاريبي، ثم امخرت في بحر الصين الجنوبي. وسوف تستقر هذه الفرقاطة في القاعدة البريطانية في البحرين بشكل دائم. الهدف كان اعلان العودة البريطانية للقيام بدور دولي بعد خمسين عاما من الانكفاء. ويلاحظ ان ارتباط بريطانيا باوروبا في العام 1973 جاء بعد ذلك. واليوم تسعى لاستعادة ذلك الدور بعد الانفصال عن اوروبا.
المؤشر الرابع: في السنوات الاخيرة دخلت بريطانيا في اتفاقات مع بعض دول الخليج، منها «اتفاقية الدفاع المشترك» مع سلطنة عمان في اكتوبر الماضي بعد الانتهاء من اكبر المناورات العسكرية بين البلدين تحت اسم «السيف السريع 3». وقال وزير الدفاع البريطاني بعد توقيع الاتفاق: ان امن الخليج هو امننا، ومن الضروري ان نوسع آفاقنا لتصبح بريطانيا قوة عالمية حقا بعد خروجنا من الاتحاد الاوروبي.
لقد اصبحت بريطانيا بين امرين: استعادة إرثها الاستعماري او دعم مشاريع الاصلاح السياسية، ويبدو ان المؤسسة البريطانية حسمت امرها لصالح الخيار الاول.
كاتب بحريني
في كل الأزمنة تجنح الدول الكبرى نحو مصالحها ، و تُعطي، “من طرف اللسان حلاوة” القضايا الأخرى ، قل حقوق الإنسان أو مشاريع الإصلاح السياسي
لذا علينا نحن شعوباً و حكومات إدراك ذلك ، و التعامل بحكمة (مع شديد الأسف لعشرات السنين فشلنا في ذلك ) و الإبتعاد عن الطائفية و التجهيل بإسم الدين _ فذاك بالنهاية يصب في صالح من نرغب بمواجهتهم