لقد بينا في مقالة منذ أسبوعين مظاهر هجمة شرسة لإبعاد شباب وشابات الأمة عن السياسة، ثم بينا في مقالة الأسبوع الماضي أسباب الأهمية القصوى لممارسة السياسة، التي من دونها تدخل المجتمعات والدول في كل أنواع التيه والفوضى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
يبقى أن نجيب على التساؤل الذي يطرح نفسه في الحال: عن أي نوع من الممارسة السياسية نتحدث؟ هنا يجب أن نعود إلى مرجعية فلسفة السياسة، التي أرادت أن تكون فكراً وممارسة عقلانية وقيمية وأخلاقية، بدلاً من ضبابية وجموح الممارسة العاطفية أو الانحيازات والولاءات والطاعات الوهمية العمياء.
لكن الفلاسفة لم ينجحوا نجاحاً تاماً في فصل العقلاني عن العاطفي والولائي الأعمى. أفضل تأكيد لهذه الظاهرة نراه مثلاً في المشهد اللبناني، هناك تخرج المظاهرات الجماهيرية الصاخبة ضد كل الممارسات الخاطئة والفاسدة في الحياة السياسية، لكن القسم الأكبر من تلك الجموع تنسى كل ذلك وتصوت في كل انتخابات برلمانية على أسس دينية أو مذهبية أو مناطقية أو شخصانية، من دون أي اعتبار للبرامج والسياسات المطروحة، ومن دون أي تقييم لتاريخ وإنجازات وفضائح الذين يعيدون انتخابهم المرة تلو المرة. العقلانية أثناء الهياج والاحتجاج، والعاطفة والتعّود الكسول أثناء الانتخابات. ثم هناك حاجة لأن يعّود الشباب والشابات أنفسهم على استعمال منطق وعقلانية الفلسفة السياسية في تقييم دوري لانتماءاتهم السياسية ولعضويتهم في المؤسسات السياسية، وذلك على ضوء دروس التاريخ والحقائق والمستجدات. وكنتيجة لذلك فقط ينتقلون لارتباطات الحب والولاءات والثقة في انتماءاتهم وأحزابهم وجمعياتهم، أو ينتقلون إلى انتماءات أو مؤسسات سياسية جديدة. هذه الممارسة الفكرية النقدية العقلانية والمراجعة العاطفية المتزنة الناضجة هي الضمان لتنقية الحياة السياسية العربية مما علق بها من عادات خاطئة وممارسات طفولية وانفجارات مجنونة سابقة، وإلا فإن الحياة السياسية تنتهي ببقائها في جمود وركود ممل وعاجز ومكرّه للانخراط المسؤول في السياسة. فكم من حزب نادى بالديمقراطية وهو غير ديمقراطي، وكم من قائد نادى بتبادل السلطة في الحكم وهو مؤبد في رئاسة وإدارة حزبه. لكن دعنا نذكر أن هناك فرقاً كبيراً بين ما ندعو له هنا من مراجعات، والردات السياسية الانتهازية الطفولية الشخصية التي يمارسها بعض المثقفين العرب بين الحين والآخر، إما لتعبهم من النضال، وإما لدخولهم في حياة الزبونية المدفوعة الأجر من بعض قوى الخارج أو الداخل، والأمثلة على ذلك كثيرة في السنوات الأخيرة مع الأسف.
على الشباب اتباع منطق وعقلانية الفلسفة السياسية في تقييم دوري لانتماءاتهم ولعضويتهم في المؤسسات السياسية، على ضوء دروس التاريخ والحقائق والمستجدات
وأخيراً يحتاج القادة الشباب الجدد أن يعوا بعمق أن الأسس التي تقوم عليها ممارسة السياسة مليئة بالغموض، وأحياناً بالتناقضات. دعنا نذكّر بإشكالية الغاية والوسيلة في العمل السياسي، فالمدارس البراغماتية والنفعية، ومنها النيوليبرالية الجديدة، وفي جوهرها المبادئ المكيافيلية الشهيرة، لا يهمها إلا النتيجة (أي الوصول إلى الغاية) حتى لو كانت وسائل الوصول إلى ذلك مليئة بالخروج على القيم والأخلاق. يتمثل طرح هذا الموضوع في أيامنا الحالية في مقارنة نجاح نظام الحزب الواحد في الصين في إخراج سبعمئة مليون صيني من الفقر، وفشل نظام التعددية الحزبية في الغرب الديمقراطي في القضاء على الفقر في مجتمعاتها. موضوع أسس الحكم في الحياة السياسية عاد للأخذ والرد من جديد. الأمر نفسه ينطبق على إشكالية الحرية والمساواة، كلاهما مهمان للغاية في الفكر السياسي لكن المساواة المطلوبة، خصوصاً في موضوع التوزيع العادل للثروة وحقوق الطبقة العاملة وضبط جموح تراكم الثروات في أيادي القلة، لا يمكن أن نصل إليها من دون ضبط جموح الحرية بالقوانين وأجهزة القضاء العادل. الأسئلة في هذا الموضوع لا حصر لها.
نخلص من كل ذلك بالأهمية القصوى لأن تكون للشابات والشباب العرب الراغبين في الانخراط في العمل السياسي، وعلى الأخص قياداتهم، أن تكون لديهم خلفية تعي بعمق كل إشكاليات والتزامات العمل السياسي، فلسفة وتاريخاً وممارسة وتناقضات، حتى نتجنب الكثير من الأخطاء والخطايا التي ارتكبت خلال القرن الماضي برمته وأوصلتنا، نحن العرب، إلى ما وصلنا إليه.
كاتب بحريني
تحية طيبة ورمضان مبارك كريم الدكتور محمد على فخرو.
ان العمل السياسي الحقيقي، بمعنى غير الانتهازي الوصولي من أرقى وأنبل واقدس الاعمال.
من خلال تجربتي الشخصية، فقد دخلت العمل السياسي النضالي مبكرا ايام المراهقة،وبالضبط في مرحلة الثانوية بتاسيس والانخراط في الحركة التلاميدية وتاسيس المجلة الحائطية ذات التوجه التقدمي،منتميا للحركة التقدمية المغربية،وكان يقابلنا التيار الاسلامي بفصاءله وانشطته الثقافية.
فانخراطى كان بدافع وقوة اليوتوبيا،والتي نفتقدها اليوم.
في غياب المحفز والدافع يجعل شباب اليوم ، ينخرط في العمل السياسي بنية صادقة بعيدا عن الانتهازية والوصولية.