أيام كورونا هي أيام أزمة الأمن القومي والعالمي، بالمفهوم الواسع للكلمة. للأزمة آثار على الأمن الجسدي للجمهور، ولخطوات الدفاع آثار على الأمن الاقتصادي وعلى الحرية المدنية للسكان. في الخطاب الجماهيري في إسرائيل والعالم قد نشخص استراتيجيتين لمواجهة الأزمة. الأولى هي “المسافة الاجتماعية”، والثانية “التسليم”.
استراتيجية “المسافة الاجتماعية” (Social Distancing) – تتضمن سلماً من خطوات إبقاء مسافة اجتماعية وفقاً لخطورة الوضع، بدءاً بحجر المرضى عبر تقييد المسافة بين الناس، وتعطيل جهاز التعليم، وتعطيل جزء من الاقتصاد وحتى الإغلاق التام. والهدف هو عزل الفيروس غير القادر على العيش لزمن طويل خارج جسد الإنسان الذي يخزنه، وتقليص قدراته على السكن في شخص آخر. وهذه تستهدف صد الوباء أو على الأقل إبطاء تفشيه. ويفترض بالدولة أن تعالج المرضى بالتدريج وكسب الوقت، بحيث يتاح استعداد جهاز الصحة لمواجهة المرض الجماعي (زيادة الفحوصات، الأسرة وأجهزة التنفس)، وكذا ملاءمة الأدوية مع المرض وتطوير لقاح. تتضمن هذه الاستراتيجية الكثير من الفحوصات والخروج المدروس من الأزمة، حيث يكون السكان الأكثر حساسية للمرض هم آخر من يتحرر من القيود.
لقد كانت الصين هي الأولى في تطبيق هذه الاستراتيجية، وحالياً بنجاح. دول عديدة أخرى، بينها إسرائيل، تحاول السير في أعقابها. وتحدثت الصحافة عن أن اتخاذ القرارات في إسرائيل حول الارتفاع في سلم خطوات المسافة الاجتماعية تقوم على أساس نموذج رياضي، يستند إلى فرضيات إكلينيكية أساسية. ويتضمن النموذج أربعة سيناريوهات، تتميز فيما بينها بوتيرة العدوى في حالة عدم اتخاذ خطوات المسافة الاجتماعية. السيناريو الخطير يفترض وتيرة عدوى للحامل للفيروس الواحد، بينما السيناريو الخفيف يفترض وتيرة 1.2 مصاب لحامل الفيروس. الوفيات في السيناريو البسيط سيكون أدنى بكثير، ولكن مدة الوباء ستكون أطول. هدف الاستراتيجية هو تخفيض وتيرة العدوى إلى دون 1، بحيث يتراجع الوباء بسرعة ويكون عدد الموتى والمرضى في الحد الأدنى.
وفقاً لحسابات وزارة الصحة، يبلغ عدد المصابين عملياً في إسرائيل نحو 10 آلاف. ومن هنا توجد أهمية حرجة لتشخيصهم الدقيق. الفحوصات ووسائل تحديد الموقع خلوياً أمر مهم، سواء لتركيز العلاج أم كوسيلة استخبارية لإدارة الأزمة، بما في ذلك اتخاذ قرارات مدروسة في خطوات المسافة الاجتماعية، التي يرتفع ثمنها الاقتصادي بشدة. لقد علم أنه في 22 آذار بلغت وتيرة الفحوصات المخبرية في إسرائيل إلى أكثر من 2000 في اليوم، والنية هي الوصول إلى ضعفين وثلاثة أضعاف هذا العدد. في هذا الموضوع تحاول إسرائيل تطبيق دروس إيجابية من دول أخرى، ولا سيما سنغافورة، وتايوان، وهونغ كونغ، وكوريا الجنوبية وآيسلندا.
ومع ذلك، فإن الصعوبة الأساسية التي ترافق هذه الاستراتيجية هي أن الخطوات للمسافة الاجتماعية تعظم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في العالم وكذا في إسرائيل، حيث بات أكثر من نصف مليون عاطل جديد عن العمل. إسرائيل ليست بعيدة عن الإغلاق التام، وقسم كبير من الاقتصاد معطل ومسموح الخروج للعمل ولشراء الغذاء والأدوية. الوضع في إسرائيل يشبه الوضع في ألمانيا، ولكنه أفضل مما هو في إيطاليا وإسبانيا، القريبتين جداً من الإغلاق التام. الأزمة الاقتصادية أشد بالنسبة للدول التي يتعلق اقتصادها بقدر كبير بالاقتصاد العالمي، بينها إسرائيل، لأنها مكشوفة جداً أيضاً لآثار الضرر في الاقتصاد العالمي. فالتصدير الإسرائيلي مثلاً شكل 29 في المئة من الناتج في العام 2019، وقسم كبير من رأسمال البحث والتطوير في إسرائيل مصدره الاستثمارات من الخارج. وضع الاقتصاد العالمي في المستقبل سيكون له آثار أيضاً على موعد انتهاء الأزمة الاقتصادية في إسرائيل.
الخطر الكبير الكامن في هذه الاستراتيجية هو أن حلقات ضعيفة في الاقتصاد، وكثيرة في الجمهور، ستجد صعوبة في اجتياز الأزمة الاقتصادية حتى قبل أن يستكمل علاج الفيروس. ومن أجل إدارة هذا الخطر، تفترض خطوات في سلم المسافة الاجتماعية مساعدة حكومية. وبالفعل، فإن حكومات عديدة في العالم تقدم رزم دعم للأعمال التجارية وللعاملين، وبنوك مركزية تعمل على تحسين السيولة النقدية في السوق المالية.
“استراتيجية التسليم” – هذه هي الاستراتيجية المفضلة على من يعتقدون بأنه لا يجب اتخاذ الحجر الاجتماعي بقدر يخرج كثيراً عن الإنفلونزا الشديدة. بعضهم يعتقد بأن الجمهور سيصاب على أي حال بالعدوى ويجدر التصدي للظاهرة بأسرع قدر ممكن. ويقدر بأن الشافين سيكونون على مناعة من المرض (مناعة طبيعية) بحيث إنه سيزداد عددهم مع زيادة العدوى. وبين أولئك الذين تبنوا هذه الاستراتيجية كانت بريطانيا، ولكنها تراجعت عنها في 17 آذار. بين مؤيديها في إسرائيل كان معارضو سياسة وزارة الصحة، الذين بعضهم خبراء معروفون في مجال الطب، وكذا اقتصاديون. وحسب نهجمهم، فإن خطوات إسرائيل متطرفة جداً، هكذا اعتقدوا منذ أن أمرت الحكومة بوقف الرحلات الجوية إلى البلاد وحجر العائدين من الخارج. ومؤخراً، هناك من يدعون إلى فحص إمكانية تطبيق هذه الاستراتيجية على السكان، مع استبعاد الجماعات الحساسة للمرض، مثل كبار السن ممن سيكونون في ظروف عزل متشددة.
إن النقيصة الأكبر لاستراتيجية “التسليم”، على الأقل في مرحلة يكون فيها الوباء غير خاضع للتحكم والجهاز الصحي لم يصل إلى الجاهزية الكافية، هي أنها ستؤدي إلى انهيار الجهاز الصحي وستمس بالطواقم الطبية، مثلما حصل في إيطاليا. وإضافة إلى ذلك، فإن الاستراتيجية غير قابلة للفرض حقاً، وفي حالة العدوى الجماهيرية، دون صلة بتعليمات الحكومة، سيعطل الجمهور نفسه الاقتصاد. إضافة إلى ذلك، سيقلص تبني هذه الاستراتيجية القدرة على اتخاذ التجربة والخطأ وعزل الخطوات، ثم سيصعب التراجع عنها نحو استراتيجية المسافة الاجتماعية.
وختاماً
يبدو أن المجتمع الإسرائيلي اختار حتى الآن استراتيجية صحيحة، بل وبعدة خطوات، سبق دولاً في الغرب تتخذها هي أيضاً. ومع ذلك، تدخل إسرائيل إلى أزمة مع بنية تحتية طبية مادية ناقصة جداً، بحيث مطلوب سد هذه الثغرات.
توصيات تتناسب مع الوضع:
1- إدارة الحدث بشكل منظوماتي من خلال “كابينت”، مع إشراك مندوبين عن المعارضة. وفي إطار ذلك أن تقر على عجل في الكنيست ميزانية انتقالية تسمح بتوجيه المقدرات لمعالجة الأزمة.
2- تفعيل قيادة إعلامية خبيرة، والامتناع عن البلاغات للجمهور عن تغيير السياسة بوتيرة أعلى مما يجب، وتأجيل النقاش المحتدم في تقرير مراقب الدولة إلى اليوم التالي للأزمة.
3- إدارة المخاطر بشكل منهاجي في كل مرحلة. مثلاً، تنفيذ تسعيرة للخطوات في سلم المسافة الاجتماعية، في ظل فحص الكلفة مقابل المنافع المتوقعة منها. يجب إعطاء أولوية واضحة لخطوات ذات قيمة استراتيجية عالية وكلفة محدودة نسبياً، مثل زيادة عدد الفحوصات (إلى 10 آلاف في اليوم) وتبني الفحوصات السريعة قدر الإمكان.
4- تنفيذ رقابة. فالانطباع في الأسابيع الأخيرة هو أن اعتبارات الإدارة الصحية تملي إدارة الأزمة من دون جدال ورقابة، وربما من دون آلية توازنات وكوابح كافية. يجب أن يوضع قيد الاختبار والرقابة النموذج الرياضي في وزارة الصحة، وبناء نماذج بديلة أيضاً، وبناء نموذج متداخل يأخذ بالاعتبار أضرار خطوات المسافة الاجتماعية في مجالي المجتمع والاقتصاد.
5- الاهتمام بالبحث واستخلاص الدروس بشكل جارٍ في صالح إدارة الأزمة والخروج منها، ولكن تأجيل الاهتمام بالنقد على الجهاز الصحي، ثم دعم البحث والتطوير وبحوث استراتيجية ذات صلة، وتسهل إدارة الأزمة، وإقامة مركز معلومات مؤقت يركز كل المعلومات والمعارف لهيئات الدولة. ويجب تنفيذ بحوث مقارنة سريعة حول الوضع وطرق العمل في دول معينة.
6- توجيه الطواقم الطبية المختصة في مجالات أخرى وتأهيلها في مجال كورونا (حتى من خلال منظومة الاحتياط). ومزيد من الحماية لأشخاص أساسيين في الاقتصاد من مغبة العدوى، وتعيين رقم 2 و 3 لكل مدير. حماية أفراد الطاقم الطبي حتى خارج ساعات العمل في المستشفيات.
7- بناء خطة لمشاركة الجيش في الأزمة، تأخذ بالحسبان قدراته اللوجستية الفائقة وتمنع انتقال العدوى إلى الجيش. ورغم إحساس الهبوط في التهديد الأمني، على جهاز الأمن نفسه أن يفترض بأن إسرائيل لا توجد بالضرورة في مهلة استراتيجية حيال أعدائها.
8- دعم قدرة الجمهور على إقامة مواقع عمل بيتية تسمح بالعمل والتعليم والعلاقات الاجتماعية عن بعد، وذلك عن طريق تخفيض ضريبة القيمة المضافة والجمارك على العتاد والبرامج، وتجنيد مرشدين لمساعدة السكان كبار السن.
9- تشكيل لجان استثنائية تسمح بنشاط المشاريع الإنتاجية وخلق الظروف لإعادة العمال إلى المرافق الاقتصادية مع وسائل التحصين.
10 التشديد في العقاب على ناشري الأنباء الملفقة وإنفاذ الرقابة على أسعار المنتجات التي ارتفعت تحت غطاء الأزمة، وتحذير الموردين من استغلال الوضع لرفع الأسعار وتحذير أرباب العمل من استغلال الوضع لإقالات غير مبررة.
11- تسريع التعاون العالمي بين الدول ولا سيما في مجالات العلم، والدروس والوسائل المتعلقة بالأزمة، وكذا لتنسيق المواصلات والتجارة في أيام الأزمة وعند الخروج منها.
12- تحسين قدرة صمود السكان. مثل زيادة رزم المساعدة للأعمال التجارية وللعالمين والمواطنين، في ظل تبني الخطوات التي اتخذت في دول أخرى، مثل تأجيل دفعات قروض السكن بل وربما إعطاء مساعدة في إيجار الشقة للعائلات الفقيرة.
13- تحديد شرائح ضريبية إضافية ورفع سقف دفعات التأمين الوطني لأصحاب الأجر العالي، ولكن دون رفع ضريبة القيمة المضافة.
14- الإبقاء على تعويم للشيكل تحت الرقابة لتحسين قدرة منافسة التصدير وعدم إضاعة شريحة من السوق في الخارج. وتخفيض الفائدة.
15- إعداد هيئة الأمن القومي والوزارات الحكومية للخطط من اليوم الذي تبدأ فيه الأزمة الصحية بالانطفاء، التي يستخلص منها خطوات حالية أيضاً للحفاظ على القدرات.
بقلم: شموئيل ايفن
نظرة عليا 26/3/2020