بعيدا عن سيرتها الخاصة… مي زيادة والوعي النقدي

■  اجتمعت في فراشة الأدب مي زيادة – المرأة الجميلة، المتعلمة المتحضرة، المشبعة بالثقافة الغربية، المتفتحة على الأمم الأجنبية – صفاتٌ روحية ميّزتها عن بقية نساء عصرها، وأثارت أنظار الرأي العام والمثقفين إليها، لاسيما بعد فتحها صالونا أدبيا عام 1912، عُرف باسم «صالون الآنسة مي»، يعقد يوم الثلاثاء، فيحضره كبار الأدباء، وعمالقة المفكرين، ورواد السياسة، وأعيان البلد، ومشاهير العلماء. وقد جمعت مي زيادة وكثير من هؤلاء علاقةٌ حميمة تردد الحديث عنها على ألسنة الجماهير، وفي كبريات الصحف.
واليوم بعد ما يناهز ثمانين سنة على رحيلها، ما زال اسم مي زيادة يقرن بصالونها، وعلاقاتها الشخصية، ومأساة العصفورية، و»نظرية المؤامرة»، ونهايتها الدرامية. وفي المقابل، لا نكاد نعثرعلى شيء يذكر عن دورها الإعلامي وإسهاماتها الأدبية والنقدية، لشدّة التركيز على حياتها الخاصة، ونقص الأبحاث في إبداعاتها الأدبية.

أسلوب شاعري قوي

من سمات كتابات مي زيادة اللغة الشعرية واللغة المجازية، فضلا عن اللغة الخيالية الجميلة الممتعة. ولا يخلو أسلوبها من السخرية أحيانا على منوال: «طالما وقع نظري على هذه الكلمات مع أنني ألِفْتُها، فهي تضحكني كل مرة؛ لأنها تذكرني بذلك اللبناني الذي أضاع زوجته في شوارع نيويورك، ومضى يسأل عنها بلغة زعمها إنكليزية حين قال: ‘يا مستر وين راحت ها لمستيرة’!»

الإعلامية البارعة

لم تكن مي زيادة روائية وشاعرة ومترجمة متعددة اللغات وحسب، بل أيضا كاتبة صحافية. وقد أخذ نجمها يتألق عندما شرعت في كتابة المقال الاجتماعي والنقدي في كبريات الصحف والمجلات المصرية كـ»الأهرام» و»الزهور» و»الهلال»، و»المقتطف». ولعلّ ما ساعدها على النجاح في حقل الإعلام قوة شخصيتها، وصلابة إرادتها، وشدة جرأتها، فضلا عن شغفها بالمطالعة، وإبحارها في العلوم والمعارف، وإتقانها لغات أجنبية، وأسفارها إلى الدول الغربية، واهتمامها بمتابعة الأحداث الجارية في الدول الأخرى، ما أكسبها ثقافة واسعة وقدرة فائقة على إقامة الحجة والإقناع والتأثير.

الناقدة اللغوية

يتضح اهتمام مي بالنقد اللغوي في كتاب «المد والجزر» حيث نراها تنتقد نزعة المجتمع إلى استخدام كلمات أجنبية في العربية في غير محلها: «إنَّ استعارة (فلان وقرينته) تقوم بكل لياقة مقام (فلان ومدامته)، أو (فلان ومستيرته)، أو (فلان وسنيورته)، وإذا ذكر الرجل تلك القرينة، فخير أن يقول: زوجتي أو امرأتي وليس مدامتي. هذا مع الاعتراف بأنّ (مدام فلان الفلاني) على بطاقة الزيارة هي أنسب وأحكم من اللفظة العربية، وإذا كُتب للزوجين كتاب مشترك فيستحسن العنوان باسم (فلان وقرينته)، لأنَّ كلمة زوجة ليس لها الصبغة الرسمية المقتضاة في الاسم العلني المكتوب». (مقال: ﻓﻼن وﻣﺪاﻣﺘﻪُ)

مي زيادة لم تهتم بالأدب واللغة والفن وحسب، بل أيضا بالشؤون السياسية التي كانت تتابعها، وكان لها معرفة واسعة عنها. نرى ذلك جليا في مقالات مثل «حديث عن الشرق الأقصى» وحديثها عن السياسة في الهند، وإطلاق سراح غاندي.

الناقدة الاجتماعية

وامتد نقدها إلى الفنون، حيث نراها تُجري مقارنة بين الموسيقى الشرقية والغربية: «من أنفع ما يستوحيه ملحنونا الشرقيون هو هذه الحفلات الموسيقية، تعزف فيها ألحان الغربيين الذين بين أرواحهم والروح الشرقية قرابة». (مقالة: في عالم الألحان). ولم تغب قضايا المرأة عن كتاباتها، حيث نراها تندد بالأوضاع البائسة التي كانت تعيشها المرأة العربية، منتقدة في سياق ذلك، الحجاب الذي يفرضه الرجل على المرأة: «هذا الحجاب الوهمي انبذنه بعيداً فهو لا يحجب وجوهاً… إنما يحجب عقولاً راجحة، ونشاطاً فتياً ونفوساً وثابة إلى العلا». وانتقدت العدالة المقصّرة في حق النساء ضحايا جرائم الشرف: «هيئة القضاء في الغالب تنظر الى هذا النوع من الجرائم بغير العين التي ترى فيها جرائم القتل الأخرى. والعقوبة التي توقعها عادة بهؤلاء الجناة عقوبة غير شديدة… لا يسعني إلا أن أتساءل كيف يمضي دم إنساني هدرا». لكنّ مي زيادة لم تدعُ إلى المساواة بين الرجل والمرأة، ولم تخض في الدين خشية أن يثور عليها المجتمع المحافظ.

التأثير اللغوي الأجنبي

عُرفت مي بجرأتها وصراحتها، فلم تتردد في انتقاد كبار الكتاب والإعلاميين في عصرها من أمثال محمد أفندي صادق عبد الرحمن، الكاتب والإعلامي محرر مجلة «النهضة النسائية» الذي كتب في صحيفته يوما مقترحا تغيير أسماء أعجمية مستعملة في مصر بألفاظ عربية، حيث ردت عليه مدافعة عن كلمات أعجمية مثل «آبلا» التركية بمعنى «أختي الكبرى» مؤكدة: «إذا جاز استعمال هذه اللفظة وسواها مما لا مقابل له في العربية (وهذا لا ينقص من شأن اللغة على الإطلاق)، فلا مسوغ لاستعمال الكلمات التي عندنا ما هو في معناها خير منها وأوضح». (مقالة: أجوبة الامتحان) واستماتت أيضا في الدفاع عن ألفاظ مثل «تنت» المشتقة من الكلمة الفرنسية tante بمعنى خالة أو عمة، وكلمة «الفاميليا» بمعنى العائلة، فضلاً عن عبارات إنكليزية مثل «هاو آريو» بمعنى كيف حالك.
وهي لم تدافع عن كل ما هو من الغرب، وإنما ما كانت تراه يعود بالخير والفائدة على الشرق، وهي القائلة: «ليس كل سارٍ في الغرب جديرًا بالاقتباس في الشرق بدون مراعاة الحاجة المباشرة». (مقالة: رسالة وحاشية) فلا عجب أننا نراها في موضع آخر تنقد استخدام أسماء أعجمية في مصر: «لا أفهم لماذا يطلق اسم ملك أجنبي على شارع أو رصيف مصري، ولا أدري ما هي علاقة عميد أسرة هبسبورغ أو كبير أسرة سافويا بأماكن شرقية عمومية أو خصوصية» (مقالة: إمبراطور يصير ملكا).

نقد الإعلام العربي

انتقدت مي زيادة الإعلام العربي المقصِّر في حق النشاط الأدبي والفكري: «كيف يمكنني، أنا الجمهور، أن أطلع على حركة التأليف والترجمة في البلاد، في مختلف الموضوعات الفلسفية والعلمية والاجتماعية والتمثيلية والأدبية، إلخ؟ كيف يمكنني أن أعلم بصدور ما يهمني من الكتب، سواء كان اهتمامي بها اضطرارا للعمل وكسب الرزق، أم للفائدة الفكرية؟» فهي تثير التساؤل عن الغاية من وجود هذا الإعلام: «فإن لم تنقل تلك الصحف ما وجدت لنقله ونقل نظائره، فمن ذا يكون الرسول بين المؤلف الذي كتب للجمهور، وبيني أنا الجمهور الذي أتطلع إلى ما ينشر لي مؤلفي؟!»
ومن خلال هذه الرسالة، تعبّر عن هموم المؤلف ومعاناته وهو يسعى لإيصال كتاباته وأفكاره إلى الجماهير في ذلك العصر الذي كانت تهيمن فيه الصحف، قبل نشأة وسائل التواصل الاجتماعي التي كسرت تلك القيود وأتاحت فرصة مدّ الجسور بين المبدع والجماهير في البلاد العربية.

تجنب القضايا السياسية الحساسة

مي زيادة لم تهتم بالأدب واللغة والفن وحسب، بل أيضا بالشؤون السياسية التي كانت تتابعها، وكان لها معرفة واسعة عنها. نرى ذلك جليا في مقالات مثل «حديث عن الشرق الأقصى» وحديثها عن السياسة في الهند، وإطلاق سراح غاندي. ورغم جرأتها وسِعة معرفتها، فقد توخّت الحيطة والحذر والدبلوماسية في تعاملها معها، فلم تخض في القضايا السياسية الشائكة في مصر والوطن العربي. وبدلا من ذلك، نراها تدافع عن الحكومة المصرية في قولها: «اعتدنا أن نلقي جميعا المسؤولية على الحكومة، مع أن التعليم يجب أن لا تتعهده الحكومة وحدها التي يهمها منه، خصوصا تخريج الموظفين لمصالحها، بل هو عمل أهلي وطني». كذلك أثارت الاهتمام بنقدها النشيد الوطني إلاَّ أنّ نقدها أحاط بالنص الأدبي وليس السياسة: «إنه حلو كثير وينقصه شاربان، ينقصه قصف المدافع، ورنين الأجراس، وزفير اللهيب، وزغردة النساء، وهتاف الثوار، وقعقعة قيود اللذين سجنوا لأجل الحرية، وأنين الذين قتلوا في سبيلها. ينقصه مواكب النعوش الملفوفة بالألوية الحمراء، وضجيج الجماعات حولها ليحيا ذكر شهداء الحرية!».
والخلاصة أن مي زيادة المرأة المتحررة الطموحة لم تكتف بكتابة الرواية والشعر، فقد خاضت في عوالم أخرى ومنها النقد الذي دخلته وهي واعية بثقل المسؤولية. قالت عن ذلك: «أعلم، بالاختبار، أنّ النقد عمل شاق دقيق يستغرق وقتا طويلا ويتطلب معرفة واسعة، وذوقا مهذبا، وبصيرة شفافة، وإحساسا حيا، يفهم العدل كما يفهم الجمال، وكما يفهم أنظمة الحياة، فهو لذلك غير ميسور لكل من ادعى حمل لوائه». والحق أن مي زيادة أحسنت حمل هذه الراية بنصوص نقدية موضوعية، عادلة، متينة الأسلوب، جميلة الطرح، جريئة، معبرة عن قناعة شخصية، بعيدا عن فخ المجاملة والمحاباة وتصفية الحسابات الذي وقع فيه النقد العربي عبر تاريخه الطويل.

٭ كاتب جزائري بريطانيا

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبد الحفيظ بن جلولي:

    مقال أقلّ ما يقال عنه أنه أعاد بعث مي زيادة من غيابها الطويل والملفت في ثقافتنا العربية الرّاهنة، وهي التي خاضت مجالات عدّة في الثقافة متسلحة في ذلك بحسّ عالٍ من الحرية والموضوعية بعيدا عن النّمطية، وهو ما نحتاجه اليوم في راهننا الثقافي، ونحتاج أكثر إلى مثل هذه المقالات التي تحيي الذاكرة الثقافية العربية النّهضوية، لأنّه ليس بالإمكان الإنطلاق في تجربة إبداعية والمثقف العربي خاوي الوفاض من كل ارتباط بماضيه الثقافي، أي من تاريخيته الأدبية، وخصوصا إذا كان هذا الماضي ذا خصوصية منتجة لواقع أهم ما يوصف به، هو النّهضوية. وكما ذكر المقال فإنّ مي زيادة وهبت من آلامها شيئا لا يمكن وصفه سوى بما وصفها به مولود: “صفاتٌ روحية ميّزتها عن بقية نساء عصرها”.. شكرا أستاذ مولود بن زادي.

    1. يقول الكاتب مولود بن زادي:

      لا يسعني إلا أن أنحني إجلالا وإكبارا لمحبتك ولطفك وتواضعك حضرة الناقد الرائع.. كل المودة والتقدير

  2. يقول ناصر:

    أحسنت

  3. يقول عبدالنور:

    مقال ممتاز يا أستاذ.

  4. يقول هدى:

    موفق أستاذ ، صدقا ينحني القلم لجمال حروفك ..

  5. يقول سمر:

    ينحني القلم لجمال حروفك، أحسنت و أبدعت??

إشترك في قائمتنا البريدية