لندن- “القدس العربي”: ناقش مايك أبراموفيتش مدير مركز “فريدم هاوس” ونيت شينكان، مدير البحث في المنظمة والمؤلف المشارك في تقرير “بعيدا عن العين لكن ليس بعيد المنال”، عن مسألة ملاحقة الأنظمة الديكتاتورية للمعارضين لها بمقال تحت عنوان “الذراع الطويلة للدولة الشمولية: مدى قمع الديكتاتوريين” وذلك بمقال طويل نشرته صحيفة “واشنطن بوست”.
وقالا فيه إن الهروب للمنفى لم يعد خيارا آمنا لمعارضي الأنظمة الديكتاتورية. وأشارا إلى حالة المعارض الإيراني روح الله زم الذي اختطفه الحرس الثوري من العراق في تشرين الأول/أكتوبر 2019 الذي سافر إليه من منفاه في فرنسا وبعد محاكمة سريعة في كانون الأول/ديسمبر العام الماضي، أعدم بتهمة “نشر الفساد في الارض”.
وبنفس السياق قتل في تموز/ يوليو 2020 ماميكان عمروف المعارض الشيشاني في العاصمة النمساوية، فيينا والذي كان ناقدا للرئيس الشيشاني رمضان قديروف، هو ثالث شيشاني يقتل في أوروبا في عام.
وقامت حكومة رواندا في آب/ أغسطس 2020 باختطاف بول راسيسبنغينا، الحائز على أوسكار لفيلمه “فندق رواندا” عن مذابح الإبادة في بلاده أثناء فترة التسعينات من القرن الماضي، من دولة الإمارات العربية المتحدة. ومن يتابع الشؤون الروسية والإيرانية والرواندية يعرف هذه الحالات. وكذا محاولات الصين المستمرة لملاحقة المعارضين الإيغور والتيبتيين التي كانت محلا للكثير من تقارير منظمات حقوق الإنسان وتلك التي نشرت في المجلات والصحف.
الهروب للمنفى لم يعد خيارا آمنا لمعارضي الأنظمة الديكتاتورية مثل حالة الصحافي السعودي جمال خاشقجيي المغتال في اسطنبول والمعارض الإيراني روح الله زم الذي اختطفه الحرس الثوري من العراق
ويعرف المطلعون أيضا بجريمة قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في إسطنبول عام 2018. وتمثل هذه الحوادث أشكالا مما يطلق عليه “الاضطهاد العابر” للحدود أو الإكراه الذي ترتكبه الدول في الخارج ضد مواطنيها. فالهاربين من قمع بلادهم كانوا يأملون بالحرية في أرض أجنبية لكنهم اكتشفوا أن القمع يلاحقهم في المنفى. فدولهم تتحرش بهم وتصدر التهديدات الجسدية لهم وتزرع الفيروسات الخبيثة في هواتفهم لرصد حركاتهم ومنعهم من ممارسة حقوقهم حتى في الدول الديمقراطية.
وأصبح اليوم الإكراه عبر الحدود أمرا عاديا، ففي كانون الثاني/يناير اعتقلت السلطات الأوكرانية مواطنين تركيين ورحلتهما بدون إجراءات ترحيل مناسبة. وهذه الحادثة هي الأخيرة من حالة ترحيل قسري إلى تركيا بعد محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016.
وفي تقرير “فريدم هاوس” “بعيد عن العين وليس بعيد المنال” وثقت المنظمة 608 حالة ترحيل قسري وملاحقات وقتل ومحاولات اغتيال وتحرش خارج الحدود قامت بها أنظمة ديكتاتورية منذ 2014 وهذه الحوادث هي طرف كرة الجليد. وتؤدي كل عملية اغتيال أو تهديد أو ترحيل قسري هزات داخل مجتمع المنفيين وتؤدي في النهاية لإسكات أكثر من الهدف.
وهناك بالإضافة للتهديد الجسدي، التحرش والملاحقة، تهديدات عبر العالم الافتراضي، بما في ذلك الفيروسات الخبيثة والإكراه عبر جماعات وكيلة واعتقال عائلات المعارضين الذين هربوا إلى الخارج. وتترك هذه الأعمال ومحاولات الملاحقة والتحرش أثرها على المنفيين الذين وصفوا في شهاداتهم للمنظمة حالة من الخوف والتعب الدائم. وتركت هذه المحاولات أثرها على الناشطين الذين تركوا النشاط أو ابتعدوا عن الأضواء، مع أن الكثير منهم لم تفت الملاحقات من عزمهم. وقال معارض من رواندا في المنفى “يقتلونك حتى لو يقتلوك جسديا” و”يقتلون روحك”.
وجاء في التقرير أن وقف الملاحقات العابرة للحدود ليس فقط واجبا أخلاقيا ولكن مصلحة للولايات المتحدة من أجل حماية مواطنيها.
فدول القمع الحديثة مثل روسيا والصين لم تعد تختبئ خلف ستارة حديدية ولكن حياتها اليومية تتجادل مع الديمقراطيات الغربية عبر التجارة والسفر والسياحة واللقاءات الشخصية. ومع هذه تحاول الدول الشمولية توسيع السيطرة من داخلها إلى الدول الديمقراطية. وإذا لم نكن قادرين على حماية المنفيين والشتات الذين بحثوا عن حرية وحماية في مجتمعاتنا الحرة فكيف سنكون قادرين على حماية مواطنينا؟
ومع أن ملاحقة المعارضين إلى الخارج ليست جديدة، فقد لاحق ستالين السياسي الروسي ليو تروتسكي إلى المكسيك وأرسل إليه عميلا إلى هناك قتله عام 1940. ولكن الحالات في تزايد مستمر، ذلك أن النظام الديكتاتوري لا يطلب الولاء للدولة ولكن للحزب. ولأنه غير قادر على تحقيق الشرعية عبر الإجماع فإنه يلجأ لملاحقة معارضيه في الخارج. ففي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي شن الزعيم الليبي معمر القذافي حملة ضد معارضيه الذين أطلق عليهم “الكلاب الضالة”.
وشنت إيران حملة ضد معارضيها في أوروبا وبنفس الفترة. وشن نظام بول كاغامي في رواندا حملة ضد معارضيه بعد حرب الإبادة في 1994 أولا في الداخل ثم لاحقهم إلى الخارج. وبدأت الموجة تتصاعد بعد تسميم المعارض الروسي ألكسندر ليتفيننكو في بريطانيا. وسافر عملاء روس إلى لندن للقاء المعارض وتسميمه بمادة “إيسوتوب” المشعة والقاتلة في نفس الوقت، وذلك في محاولة لإسكاته بعد تعامل مع الغرب.
وكرر النظام الروسي العمل بسبب الرد غير الفعال من بريطانيا والغرب حيث حاول تسميم العميل المزدوج سيرغي سكريبال بمدينة سالزبري في 2018 وقتل زليمخان خانقوشيفلي في برلين عام 2019. وعادة ما يهتم الإعلام وبشكل واسع في الحالات التي فيها قتل ومحاولات اغتيال لكن هناك عمليات أعمق لملاحقة المنفيين وعبر عدة طرق مع عدم استعداد للرد من الدول المضيفة لهم.
ولعل أهم عامل في ملاحقة الأنظمة لمعارضيها كان تطور التكنولوجيا، فقد أزعج روح الله زم في قناته الإخبارية “أماد نيوز” على تطبيق تلغرام السلطات. وكذا عمروف في أشرطة الفيديو التي نشرها على يوتيوب.
ومع زيادة المتابعين لقنوات المعارضين على الإنترنت الرخيصة الكلفة، فقد زادت قدرات الأنظمة على الملاحقة والتحرش والمضايقة وبكلفة أقل. فالبرامج الكفيلة بإسكات المعارضين متوفرة لمن يدفع في السوق الدولي. فتطبيق بيغاسوس الذي أنتجته شركة “أن أس أو غروب” الإسرائيلية الذي استخدمته السعودية لاختراق هواتف أصدقاء خاشقجي في الخارج مثال معروف، إلا أن بحث “فريدم هاوس” وجد أن الدول التي حاولت تصفية مواطنيها في الخارج اعتمدت أيضا على التكنولوجيا لإسكاتهم. والأمثلة الواضحة هي الصين وروسيا وإيران والسعودية، لكن هناك إثيوبيا وكمبوديا وفيتنام وأوزبكستان ومصر.
وتستخدم الصين وسيلة قوية وهي “ويتشات” التطبيق الذي يجمع ما بين المنصة الاجتماعية والمراسلة ودفع الفواتير والتسوق والسفر وطلب وجبات الطعام وغير ذلك. والتطبيق مرتبط بالصين وأيضا بالشتات الذين يعيشون خارجها. فاستخدامه مرتبط بسياسةGreat Firewall أو “جدار الحماية العظيم” الذي يمنع المنافسين الآخرين ويجبر المواطنين على استخدام ويتشات حتى من يعيشون في الشتات والراغبين للتواصل مع أهلهم. فالسيطرة على التطبيق من الإنتاج للتوزيع إلى الاستخدام يسمح للحكومة الصينية مراقبة استخدامه ووضع قيود على الإعلام غير الصيني، بالإضافة لجمع المعلومات عن المستخدمين ومواقفهم السياسية بدون خوف.
ومع أن حملات التشهير والمضايقة عبر منصات التواصل الاجتماعي سهلة إلا أنها قد تدفع الناشطين لخفض أصواتهم او قطع صلاتهم مع شبكات المعارضة. وفي تعليق صريح لقديروف للتلفزيون عام 2016 عن حملته الموجهة للمعارضين “هذا العالم الحديث والتكنولوجيا يسمح لنا بمعرفة كل شيء ونعرف مكانكم”.
أما العامل الثاني في قدرة الأنظمة الديكتاتورية على ملاحقة معارضيها في الخارج، فهي سياسة معاداة المهاجرين حتى من لديهم أسباب حقيقية للهجرة. ويمكن لهذه الأنظمة اللجوء إلى مزاعم كاذبة لاعتقال معارضيها وترحيلهم. فقد قضى الروسي اليكسي خاريس 15 شهرا في مركز فرض الهجرة والجمارك بالولايات المتحدة بناء على إشعار زائف أرسل للإنتربول. ويتعلق بالموضوع هي سياسة القتل المستهدف والاختطاف التي مارستها الولايات المتحدة في مرحلة ما بعد 9/11 والحرب على الإرهاب. وفي كل أنحاء العالم تستخدم الدول ذريعة “الإرهاب” لملاحقة مواطنيها وتتعلل بما تفعله أمريكا وإسرائيل اللتان تمارسان القتل المستهدف. فقد وجد تحقيق “فريدم هاوس” أن نسبة 58% من الحالات التي حقق بها تعللت فيها الدول بـ “الإرهاب” وكسبب للملاحقة. وبحسب التقرير فـ 90 عملية ترحيل قسري و10 حالات قتل لإفراد منذ عام 2014 كان المبرر هو “الإرهاب” حيث دخلت لغة الحرب على الإرهاب إلى المفردات التي تستخدمها الدول في ملاحقة معارضيها.
المسلمون هم الأكثر عرضة للملاحقة فـ 78% من الحالات التي حقق بها “فريدم هاوس” لأشخاص جاءوا من دول إسلامية، مما يعكس النسبة العالية للدول ذات الغالبية المسلمة المنخرطة في هذه الملاحقات مع الدول التي تلاحق الأقليات المسلمة
والمسلمون ضمن هذه اللغة هم الأكثر عرضة للملاحقة فـ 78% من الحالات التي حقق بها “فريدم هاوس” لأشخاص جاءوا من دول إسلامية، مما يعكس النسبة العالية للدول ذات الغالبية المسلمة المنخرطة في هذه الملاحقات مع الدول التي تلاحق الأقليات المسلمة. كل هذا في وقت يتم فيه التحذير من الإرهاب الإسلامي. والنتيجة هو قبول الدول الديمقراطية بالهجمات على المنفيين من الحلفاء والأعداء.
وبعد مقتل جمال خاشقجي قام دونالد ترامب بوضع الموضوع تحت الطاولة وضد رغبة الكونغرس الذي طالب بمحاسبة المسؤولين عن الجريمة، بل وزاد صفقات السلاح إلى السعودية.
وتوصلت مجموعة العمل في الأمم المتحدة حول الاختفاء القسري وغير الطوعي أن حملة تركيا ضد معارضيها هي “عمل منظمة تدعمه الدولة للاختطاف والترحيل القسري”، لكن الموضوع لم يطرح إلا نادرا من حلفاء تركيا في الناتو. وبنفس السياق قامت روسيا بعمليات اغتيال صارخة في أوروبا وربما أمريكا. وكان راسيساباغينا يعيش في الولايات المتحدة عندما اختط لكن لم تحرك الخارجية الأمريكية ساكنا.
والحل لوقف ملاحقة المعارضين هو نظر الديمقراطيات الغربية في نفسها واللجوء إلى قوانين اللجوء والحماية والحقوق الأساسية لمن يطلبون الحماية. وممارسة الضغوط الدبلوماسية التي تلجأ إلى أعمال كهذه. بالإضافة لإصلاح الشرطة الدولية، الإنتربول حتى لا تستخدم كوسيلة للقمع. ومنع بيع وتصدير برامج التجسس التي تساعد على القمع.
وإجراءات كهذه كفيلة بمنع الدول الديكتاتورية من ملاحقة المنفيين. وفي النهاية يظل القمع العابر للحدود مشكلة تلخص حضورها هناك وهنا، وتحدث عنها الرئيس جوزيف بايدن في خطاب له عام 2018 رابطا بين صعود الديكتاتوريات والعداء للأجانب ولليبرالية في داخل المجتمعات الديمقراطية.
وقد اتخذت إدارته عدة خطوات للابتعاد عن سياسات ترامب العدوانية ضد الهجرة والقيود على الحدود بشكل يجعل من الصعوبة على الدول القمعية ملاحقة مواطنيها. كما وجمد ترامب صفقات الأسلحة للسعودية. ووعدت أفريل هينز مديرة الاستخبارات الوطنية بنشر تقرير سي آي إيه عن مقتل خاشقجي. كل هذا ليس استراتيجية لوقع الملاحقة العابرة للحدود ومضايقة وقتل المعارضين ولكنها خطوة في الطريق الصحيح.
.