هل كان يحرسُ نومَ وردتهِ؟
أم كانَ، في عينينِ باردتينِ، يأسِرُ ليلهُ؟
الليلُ.. بغدادَ الثمانينات.. نَصْلُ البرق من أقصى الجنوبِ.. يشقّها.. طولاً.. وعرضاً.. والعراقيّونَ من عربٍ وسريانٍ وأكرادٍ… يعيشونَ الحياةَ بطولِها وبعرضها..
وكأنّ شيئا لم يقعْ..
ـ هلْ أنتَ حقّا أنتَ؟ إذ تُبْلى السرائرُ؟
ـ لا تخفْ.. هذي شواظٌ من نحاسٍ.. كانَ يرسلُها الشعوبيّ الأخيرُ..
ـ وهذه؟
ـ طُرُقٌ تقودُ إلى بساتين المحلّةِ..
ـ ما تبقّى من دِياراتِ العراقِ؟
ـ وما الذي منها تبقّى؟ الأرضُ في بغداد تنْشِفُ ماءَها.. من أيّ وجهٍ جئتها.. من أيّ باب.. لا ترى إلاّ المزاراتِ المدافنَ.. جئتَها من بابِها الشرقيِّ.. من بابِ المعظّم.. من علي بَابَا.. من السعدون.. رأسِ الحواش.. بابِ الشيخِ.. من عِقْدِ النصارى.. ساحةِ الفردوسِ.. أو من ساحةِ التحريرِ..
ـ و»الكَارْدِينِيَا»؟
ـ سقْفٌ سماويٌّ لأهلِيهَا.. لهمْ أزهارُه بيضاءَ.. أو أوراقُهُ خضراءَ..
ـ لكنْ أين سِتّينيُّهَا؟
ـ مَنْ؟ أيّهمْ؟
ـ أنا لا أسمِّي منهمُ أحداً.. شيوعيّينَ.. بعثيّينَ.. قوميّينَ.. أو حتّى بُوهِيميّينَ..
كُلّهمُ أحبَّ عراقهُ.. له وحدهُ..
بغدادهُ.. ظلاّ لهُ..
كلٌّ لهُ من حزنِ سمعانٍ، جنونُ الديكِ.. أو قدّاسُهُ..
لا شيءَ من ضحكاتهمْ..
للشعرِ.. عاليةً.. لغيفارا بقبّعةٍ.. وسيكارٍ.. ومن أصواتهمْ سوداءَ.. أو بيضاءَ..
آنَ شجارهمْ..
ـ واليومَ؟
ـ رَسْمٌ دارسٌ.. خمّارةُ العهدِ القديمِ..
ـ النهرُ؟
ـ أسودُ.. راجعٌ في قيئه.. أسماكُهُ.. القططُ.. الكلابُ.. الريشُ.. أحذيةُ العساكرِ.. والخراطيشُ..الصديدُ.. النهرُ غيرُ النهرِ.. لا قمرٌ لهُ.. مِن أمّهِ «كَلَخُو»..
سوى هذا النحاسيِّ الذي ما زال يَصْحَبُهُ إلى أنْ يلتقي والشمسَ في بغدادَ.. بعد دوامِهَا..
قمرٌ ولا عينٌ له.. فضيّةٌ.. كانت تنيرُ لنا..هنا.. وَلَهُ.. صحيفةَ وجههِ..
لا زُمّجُ الماءِ، الضحوكُ.. مُلاعباً أنثاه.. في غيمِ الصباحِ.. ولا الصبايا عندهُ..
لا الماءُ يجري ها هنا في مائهِ..
ـ الشعراءُ؟
ـ في عرباتِ ريحٍ.. لا طريقَ لها.. وأجسادٌ تُطلُّ بلا عيونٍ.. من مُشبّكِها..
بمَاذا يحلمونَ؟ الحلمُ حيناً..ماءُ ذاكرةٍ.. وحينًا سَلْحُها..
والشعرُ مثل الألزهايْمرِ.. أنت تعرفُ كيف يبدأُ يا ابنَ سيفُو؟
حين يغدو الحلمُ واقعةً.. وذكرَى..
حيثُ كلّ قصيدةٍ.. مِنّا.. مُسوَّدَةٌ لأخرَى.. لا تجيءُ..
***
هلْ كانَ يحرسُ نومَ وردتهِ؟
أمْ كان يطبخُ حزنهُ في قِدْرِ جدّتِهِ؟
وله جنائنُهُ معلقةً على كَتفَيْهِ..
أم هلْ أنّه نومٌ سُباتٌ.. قادمٌ من ليلِ «بَغْدِيدَا».. ومن أصيافهِ في نينوى
أم أنّه قمرٌ نحاسيٌّ.. سعيداً في استضافته تدلّى فوقه..
من ليلِ بغدادَ الثمانيناتِ.. حيث لَقِيتُهُ
فأضاءَني .. وأضاءَهُ..
***
والآنَ في نَاوُوسِهِ.. جسداً من الصلْصالِ.. لا نومٌ .. ولا حلُمٌ..
لهُ مَدُّ العراقِ.. وجزْرهُ..
وَلهُ وصايا الطيرِ وهي تموتُ في بستانِها..في أُورَ:
أنْ حافظْ على لغةٍ تُدوّمُ في سماءِ النهرِ.. سريانيّةٍ.. عربيّةٍ.. إنْ شئتَ..
واقرأْ لوْحَ سُومَرَ.. باسمِها..
لا مَركبٌ لِـ»أتونبشتم» في انتظاركَ.. كي تنامَ بهِ.. وَلوْ سكرانَ.. (مثل صديقنا سركون).. لا وقتٌ.. لترشقهمْ بِعظْمَتكَ الأخيرةِ..
إنّما.. يوماً.. على يَبسٍ تجيءُ سفينةُ الطوفانِ..
يومًا.. للعراقيّ الحزين.. منارةٌ في موجهِ الطامي.. تضيءُ..
*بغديدا أو بخديدا: مدينة الشاعر
شاعر وكاتب تونسي
بل أنت شاعر وكاتب عربيّ وعالميّ ؛ ياأبا زينب ؟ قلمك مداده زيت زيتون تونسيّ ؛ مضيء بالنّور ؛ ولو لم تمسسه نار.
بوركت في ألفاظك المهيبة صولجان ملوك ؛ وفي معانيك البديعة ؛ صور…وفي إحساسك الدافق بحر.وسيبقى الطائيّ : أبو تمام يرنو إليك : قمر ؛ لا يغيبّه محاق السّماء في قاطرة الشهر.
جزيل الشكر صديقي د. جمال. وعس ان اكون دائما عند حسن ظن فارئ وباحث وشاعر مثلك
من أجل هذا صلّينا من الماء إلى الماء أن تنجو وأن تبقى وأن تواصل زرع شواظ الشعر في سمائنا القاتمة. حفظك الله سي المنصف.
جزيل اشكر زميلتي العزيزة الاستاذة. امنة الروائية التي نعتز بها. انا لا ازال في المستشفى العسكري ولكني اتعافى بعد ان تاكد الاطباء اني لا احتاج الى اية عملية جراحية. اما زوجتي التي فقدتها في الحادث فلا املك لها سوى الدعاء بالر حمة ولكني ساكتب عنها ولها اذ من حقها علي ان تعيش في نصي على نحو ما افعل مع الذين احبهم مثل صديقي شاكر سيفو
ببالغ الاهتمام والتأثّر أعلم الآن بمصابك الجلل بزوجتك الراحلة ؛ رحمها الله ؛ وباصابتك يادكتور منصف.عوّضك الله خيرًا ؛ وشافاك وعافاك مما أنت فيه.هل لي بتقديم أيّة مساعدة ماديّة لحضرتك من أخ محبّ إلى أخيه الكبير؟ وفي رثاء زوجتك أقول بعضًا من أبياتي الشعريّة بمصابك في أهلـك ؛ لعلّها تخفف من وقــع المصاب : { هي الدنيا وغايتها المرازي…وشيمتها المناحـة والتعـازي }.{ تطارد خلسة منْ جــلّ قدرًا…وتفتـــك بالعبـاد بلا بــرازِ }.{ وتطعن بالأسنــة كلّ حــيّ…وتعلو الرأس بالموت الجـرازِ }.{ فنالت من ( المنصف ) منـاه…لترمي منْ تشـاء بلا احتـــرازِ }.
خالص الود د.جمال. وشكرا لكرمك ولكن الدولة تكفلت بعلاجي في المستشفى العسكري وهو الافضل عندنا
كُلّهمُ أحبَّ عراقهُ.. له وحدهُ..
أدام اللّه نورك و قلمك و فكرك، بوركت شاعرنا البهيّ