رغم أنها ليست المرة الأولى التي يبكي فيها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، على الهواء مباشرة، إلا أن بكاءه الأخير، خلال لقائه قادة القوات المسلحة المصرية، بمقر القيادة الاستراتيجية، أصبح حديث الشارع المصري، وتفاعل مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصاً أن البكاء جاء هذه المرة مقترناً بالحديث عن الموت والحياة الآخرة قائلاً: (هما يومين في الدنيا، وبعد كده ها نموت، ها نموت تحت، مشيراً إلى الأرض، يارب يقبلني، مؤكداً على أن الإنسان يعيش على وجه الأرض فترة قصيرة، مجسداً نفسه مع النبي قائلاً: عندما جاءت السيدة فاطمة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم أثناء وفاته قالت له: واكرباه، فرد عليها الرسول وهو ينتقل إلى الرفيق الأعلى: لا كرب بعد اليوم على أبيك).
وقد جاء تفاعل الشارع المصري في معظمه ساخراً مما يراه (حركات السيسي وتمثيله) بعد ما استنفد كل وعود الماضي، ودعواته إلى الصبر على الفقر والضنك عدة أسابيع، أو عدة شهور، أو حتى عاماً واحداً أو عامين، إلا أن النتيجة النهائية كانت المزيد من الفقر والضنك فيما يتعلق بالشعب، والاستدانة وبيع الأصول فيما يتعلق بالدولة، وقد حانت الآن فقرة البكاء، في مشهد جديد من مشاهد الرئيس المصري، الذي بدأها مع بداية حكمه بقوله: (انتم نور عنينا، اصبروا وستروا، الجن سوف يحتار فينا، مصر ها تبقى أد الدنيا، مصر ها تبقى في حتة تانية خالص) إلى غير ذلك من وعود أضحت سراباً.
المثير في الأمر، هو أنه لم يمض أكثر من 72 ساعة على المشهد، إلا وخرجت الأنباء تُبشر بقرار محكمة الجنايات، رفع أسماء 716 شخصاً من قوائم الإرهاب، بتوجيهات من السيسي، رغم أن قرار الرفع، يجب أن يكون قضائياً خالصاً، دون توجيهات سياسية، في أي دولة يحكمها القانون، إلا أن الإخراج الإعلامي للنظام المصري في مثل هذه الحالات، يتجاهل في العادة الشكل العام، وهو إجراء في حد ذاته كان جديراً بإثارة حالة واسعة من الجدل، ارتبطت في نهاية الأمر بعملية البكاء، بما اعتبره البعض تعبيرا عن حالة من التوبة، أو محاولة لرد المظالم، وما شابه ذلك.
إننا أمام تحولات تستدعي التفكير بطرق مختلفة في التعامل، محلياً ودولياً، مع الواقع، الذي لا يتغير أبداً بالدموع، التي لم نشهدها تذرف على مقدرات الوطن المباعة، أو على أطفال غزة الشهداء
تجدر الإشارة، إلى أن أسباب الإدراج على قوائم الإرهاب، كما جاءت في المادة (1) من القانون رقم (8) لسنة 2015، الصادر في عهد السيسي: (يتم إدراج الشخص الطبيعي على قوائم الإرهاب، في حال ارتكب أو شرع في ارتكاب أو حرض أو هدد أو خطط لجريمة إرهابية، بأي وسيلة كانت، سواء بشكل منفرد أو في إطار مشروع إجرامي مشترك)، ما يمنح الدولة حق القبض عليهم، أو وضع أسمائهم على قوائم ترقب الوصول إن كانوا خارج مصر، ومصادرة ممتلكاتهم، وتجميد أرصدتهم في البنوك، استناداً للتحريات الأمنية فقط، دون ثبوت التهمة عليهم، ومعنى صدور قرار برفع أسمائهم الآن، هو أن هؤلاء الأشخاص الـ716 توقفوا عن نشاطهم الإرهابي. وقد اعتاد المصريون عبر تاريخهم الحديث، على أن قوائم الإرهاب، أو الممنوعين من السفر وغيرها، كانت في معظمها ذات صبغة سياسية، لإرهاب المعارضين، لا ينطبق عليهم ما جاء في نص القانون، ذلك أن الأسماء المدونة، كما جرت العادة، ما بين أساتذة جامعات، علماء دين، سياسيين، مثقفين، صحافيين، رجال أعمال، يراهم النظام مناوئين لسياساته، يقضون حياتهم ما بين المحاكم والنيابات ومكاتب التظلم، ما يحقق الهدف من عملية الإدراج، وهو القهر والكبت والانشغال عن الحياة السياسية، إلى الشأن الخاص، ويحد من تفاعلهم مع المجتمع، في حالة ما إذا كانوا خارج السجن، أو ليسوا رهن الاعتقال. وقد أثار القرار المشار إليه، تكهنات عديدة، بإمكانية صدور مزيد من قرارات مشابهة على المدى القريب، في محاولة على الأقل لإنهاء حالة الانقسام في البلاد، نظراً للظروف الاقتصادية والسياسية الراهنة، ذلك أن الأرقام تتحدث عما يزيد على أربعة آلاف شخص مدرجين ضمن هذه القوائم، معظمهم من الهاربين خارج مصر، أو داخل السجون، وتكهنات بقرارات أخرى تتعلق بالإفراج عن عدد كبير من السجناء والمعتقلين، الذين يقدر عددهم، حسب بعض المنظمات الحقوقية، بما يزيد على 60 ألفاً، بينما تردد الدولة أن الرقم أقل من ذلك، إلا أنها ترفض ذكر الرقم الحقيقي، وتكهنات ثالثة، بإمكانية حدوث انفراجة سياسية، تتعلق بحرية الرأي والديمقراطية وغيرها، وهو أمر مستبعد إلى حد كبير، ذلك أن النظام يخشى من هؤلاء وأولئك أيما خشية، خصوصاً أن الأمر يتعلق بدماء غزيرة سالت، وثأر مع أموات، لا يملك الأحياء التنازل عنه.
ورغم ذلك، فإن مثل هذه الإجراءات، قد لا تكون كافية من وجهة نظر غالبية الشعب، أو المهتمين بالمشهد السياسي بشكل خاص، خصوصاً إذا كان الأمر يتعلق بصفحة جديدة، يفتحها الرئيس المصري مع الشعب، ومع القوى المناوئة، من خلال بكائه ودموعه، ومادام الأمر يتعلق بالتوبة، التي تتطلب بالدرجة الأولى رد المظالم، وهو أمر لا يجدي معه رفع أسماء عدة مئات من قوائم الإرهاب، أو الإفراج عن عدة مئات آخرين من السجون، مادام هناك عشرات الآلاف لا يزالون خلف القضبان ظلماً، أو خارج البلاد قسراً، ناهيك عمن تم قتلهم في مجازر عديدة، قد لا يستوعب المجال سردها، ومن سُرقت ممتلكاتهم، وصودرت سياراتهم، وفقدوا أعمالهم، إلى غير ذلك كثير من أوجه الظلم.
وإذا أضفنا إلى الوضع الداخلي، أن مثل هذه المبادرات، الممزوجة بالدموع، تتزامن مع حالة الغليان في الشارع المصري، نتيجة الموقف الرسمي المتخاذل، تجاه حرب الإبادة على الأشقاء الفلسطينيين في قطاع غزة، فإن النظام في مصر يجد نفسه أمام موقف صعب، خصوصاً في ضوء إغلاق معبر رفح أمام المساعدات الموجهة للقطاع، وفي ضوء السماح للكيان الصهيوني باحتلال محور صلاح الدين أو (فيلادلفيا)، رغم الاتفاقيات التي تمنع ذلك، وفي ضوء السماح لعشرات الشركات المصرية بمد الكيان بالسلع المختلفة، الغذائية وغيرها، وأيضاً ما شاهدناه من مرور سفن حربية للكيان بقناة السويس، أو ما تردد عن تفريغ شحنات سلاح بميناء الإسكندرية البحري في طريقها للكيان.
كل الشواهد تؤكد أن المنطقة مقبلة على مرحلة، ربما هي الأخطر في تاريخها، منذ اتفاقية سايكس بيكو، حيث التقسيم والشرذمة في بدايات القرن الماضي، وكل الشواهد أيضاً تؤكد أن مصر في قلب الأحداث من الاتجاهات الأربعة، حيث قضية النيل في الجنوب، وغاز المتوسط في الشمال، والتوتر الليبي في الغرب، وقبل هذا وذاك السرطان الصهيوني في الشرق، ناهيك عن الأزمات الداخلية، الاقتصادية والسياسية، وهو ما يتطلب مصالحة شاملة وحقيقية مع طوائف الشعب المختلفة، حتى إن اصطدمت بنظامين صديقين في المنطقة يعارضان ذلك التوجه لأسباب تتعلق بأوضاعهما الداخلية، ذلك أن المسكنات لا تجدي نفعاً في مثل هذه الحالات، كما أن المسرحيات المبرمجة سلفاً، بهدف امتصاص الغضب، أو المزيد من التغييب، أصبحت هي الأخرى غير مقنعة.
وإذا كان بعض المراقبين يرون أن ممارسات السيسي الأخيرة، نتاج ضغوط خارجية، من منظمات دولية وحقوقية، أو حتى استباقاً للإدارة الأمريكية الجديدة، برئاسة دونالد ترامب، الذي حجب عن مصر جزءاً من المعونة العسكرية، خلال فترة رئاسته السابقة، بزعم انتهاك الحريات وحقوق الإنسان وما شابه ذلك، فإننا في كل الأحوال أمام تحولات جديدة، تستدعي التفكير بطرق مختلفة في التعامل، محلياً ودولياً، مع الواقع، الذي لا يتغير أبداً بالدموع، التي لم نشهدها تذرف على مقدرات الوطن المباعة، أو على أطفال غزة الشهداء، وإلا فإن البكاء في المستقبل سوف يكون حقيقياً من خلف القضبان، وليس مشهداً تلفزيونياً.
كاتب مصري