بكاء وغناء

حجم الخط
0

عندما نستحضر ثقافة التراسل، في الأدب، نكون على مقربة من العتاقة الأدبية. لأن الرسالة مرتبطة، في المتخيل، بالأشياء الماضوية، وإن حافظ على ديْدنها بعض الكتاب الحداثيين، وجعلوا منها الجسر الوحيد، الذي يعبـُرون من خلاله إلى إيقاع الذات في ملء طروس الكتابة. وفي هذا الإطار، فالرسالة تعبر عن الكينونة، بل تكون كردة فعل عن واقع ميـْسمه الجحود والتنكر والممانعة. غير أنها باتت شيئا أساسيّا في إبراز المقاصد والمنتهيات، التي تطمح إليها من زاوية أنها عبارة عن إخبار وإقناع ومواقفَ.
وبهذا فإن الرسالة الأدبية تعتبر وثيقة تاريخية شاهدة على النزال الثقافي والنقدي والسجالي، الذي دار في حقبة زمنية مرتبطة براهنية اللحظة، التي عاشها كاتبها. وفي هذا المنعطف هناك من يتوسل بالمتخيل من أجل التحجج بمختلف تفاصيله، كي يكسب الرهان ويطمح إلى التفوق، وقهر الخصوم. فإن المنطلق الأساس يمر عبر الواقع ليصعد إلى المتخيل، ومن ثـَمَّ يعود إلى الواقع في دورة حلزونية ودائرية ولولبية. فهل أدب التراسل هو هروب من الواقع إلى المتخيل؟ أم هو صورة تعبر الذات من خلاله عن انفصال واتصال، في الوقت ذاته، مع الآخر؟
في تاريخ الأدب العربي نجد «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعري شاهدة على هذا الضرب من التراسل. إن هذه الرسالة كان سياقها الفكري والثقافي حجاجيّا، وما يتطلب ذلك من براهينَ وأدلةٍ، تمكن أبا العلاء المعري من الظفر بالنصر على الخصوم والممانعين، وبالتالي اعتلاء منصب الريادة في الفكر واللغة والفقه الإسلامي. كان الرد على ابن القارح، على عهد أبي العلاء المعري، أحد رموز الفكر والثقافة، سبيلا للشكوى والأنين والألم الذي تخزن في طروس الأيام. فضلا عن ذلك، عاش أبو العلاء بين الغناء والبكاء، فعرف بنظرته التشاؤمية لعمق المأساة التي اعتلاها المعري. فالمرثية التي سير بها تاريخ الشعر العربي، وأصبحت على طرف كل لسان، نافذة تطل على عوالمِ أبي العلاء، والمتمثلة أساسا في تجربة العمى الذي مرّ به الشاعر؛ فأصبح ضريرا.

عودتنا إلى «رسالة الغفران» للمعري نلاحظ أن هناك تشابها كبيرا، حسب محمد غنيمي هلال، بينها وبين «الكوميديا الإلهية» لدانتي؛ إن السفر المستحيل الذي وظف فيه مختلف الأجناس الأدبية من حوار ووصف ومسرح، بهدف التأثير في السامع أو القارئ.

إن عمق مأساة هذه التجربة، دفعت أبي العلاء لأن يعتلي عرش التشاؤم، وأصبح مذهبا في تاريخ الشعر العربي؛ لأن الشاعر يبحث في ثناياه عن البديل، الذي يمكنه من السير قدما وفق أحاسيس وتفاعلات تعوضه الحاسة المفتقدة، ومن ثم النظر إلى الوجود نظرة مغايرة، تبغي التعويض عن النقص الذي سكن الذات ولم يبرحها. فمرثية «الفقيه الحنفي» وقد قضى نحبه، وهو في عز نضارة الشباب، الذي يقول في مطلعها:
ليس في ملتي واعتقــادي نوح باك أو ترنم شـــاد
إلى أن يقول:
خفف الوطء ما أظن أديم ال أرض إلا مـــن هذه الأجساد
فالصور البيانية التي عجت بها هذه المرثية أصلها من الطبيعة، وكانت هذه الأخيرة مصدرا ثرا لأبي العلاء المعري، كي يفرغ ما في داخله من ألم وحزن وبكاء على فراق أبي حمزة الفقيه. فالدنيا، حسب أبي العلاء، لا تحتاج منا هذا الحرص الشديد عليها؛ لأنها، في كل بساطة، فانية، وما أديم الأرض إلا من أجساد ورفات ناس قضوا نحبهم، وأكلهم الدهر. فهي رسالة موجهة لكل متكبر فان، ساع إلى الذنوب والمعاصي. فحبذا لو عدل المرء عن هذه الأعمال المشينة والمسيئة لفكره وعقله ووجوده. فالنظرة التشاؤمية، عند أبي العلاء، استوى فيها الغناء والبكاء، أو الفرح والحزن، أو الجنة والنار، وهي ثنائيات مكنت الشعر العربي من أن يطأ أراضيَ وضفافا جديدة وأثيلة، والزخرفة الفسيفسائية، التي يتغنى بها الشعراء. فبعودتنا إلى مرثية المعري نجد أن متخيلها ديني وفلسفي؛ فالديني مرتبط بالسلوك القويم الذي يجب على كل مسلم أن يتحلى به، ويتقرب من خلاله إلى الله عز وجل، بينما المتخيل الفلسفي هو القلق الوجودي المصوب تجاه الذات والطبيعة، أو تلك النظرة الميتافيزيقية الكاشفة عن بواعث التشاؤم عند أبي العلاء المعري. لا يخلو بحث عن كاشف غمة معرة النعمان دون ذكر عميد الأدب طه حسين، فعامل العمى ألّف بين العملاقين، وبين الزمنين، بل قارب بينهما إلى حد التماثل. فالعصر الذي عاشه أبو العلاء المعري كان مليئا بالفتن؛ فكان الإعراض عن ملذات الحياة رغبة لصوم الجوارح وصونها من ارتكاب معاص وموبقات. في حين، أن معارك طه حسين، التي خاضها ضد المؤسسة الموكول إليها تدبير الشأن الديني لعموم المصريين ملأت الدنيا وشغلت الناس، فجامعة الأزهر ومشايخُها رفضوا رفضا قاطعا كل ما جاء به طه حسين، بخصوص ما ألفه عن أعمدة الدولة الإسلامية على عهد الرسول، صلى الله عليه وسلم، فكان الإقبال على كتب طه حسين، طفرة قوية مكنته من سحب البساط من تحت أقدام مشايخ الأزهر، الذين احتكروا الكتابة والتأليف عن رجال حول المصطفى.
فالحوار الروحي المتخيل الذي أجراه طه حسين مع أبي العلاء المعري، كان حوارا حسيا، يبرز من خلاله أن الحس، كجارحة، أقوى من عاهة العمى ذاتها، وبهذا تكون معانقة الحياة من خلال التخيل تفوق نعمة البصر.
بعودتنا إلى «رسالة الغفران» للمعري نلاحظ أن هناك تشابها كبيرا، حسب محمد غنيمي هلال، بينها وبين «الكوميديا الإلهية» لدانتي؛ إن السفر المستحيل الذي وظف فيه مختلف الأجناس الأدبية من حوار ووصف ومسرح، بهدف التأثير في السامع أو القارئ. وبهذا فهي ـ أي رسالة الغفران ـ ليست رسالة عادية، وإنما هي بوح بعوالم متخيلة تعود إلى الحقل الديني الذي يفرض علينا تبني أفكاره وتهويماته. فالغفران مرتبط بثيمتي الجنة والنار أو الثواب والعقاب والتفكير في يوم البعث، كي لا ننغمس في ملذات هذه الدنيا الفانية. فالجسد فان والروح فانية والوجود فان والكل مآله الزوال والتلاشي. وفي ظل هذا كله تجيء الرسالة كموعظة وعبرة لمن يعتبر؛ لأن العقاب في نهاية الكون والوجود يبقى الحقيقة الوحيدة التي أرقت الإنسان منذ أن عرف للقتل معنى وللموت معنى، فهناك من الأدباء عبر تاريخهم الإبداعي يقيمون في الموت، بل يتدثرون به، كي يخلقوا جسرا نحو هذا الغياب الذي ينتظرنا جميعا. فلا أحد يدرك ماذا هناك سوى متخيل من عقيدة حفرت في وجداننا، ونحن في ميعة الصبا.

كاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية