بلاغة الخطاب النقدي عند العراقي خالد علي مصطفى

وأعني ببلاغة الخطاب النقدي عند خالد علي مصطفى، رحمه الله؛ ثراءه، وقوة متنه، وانسجامه المعرفي، وهو ينتمي إلى لغة واصفة تابعت ثلاثة من شعراء جيله في العراق: سامي مهدي، وفاضل العزاوي، وفوزي كريم، فهي لغة إنتاج نقد أدبي، والنقد كما عرفناه خطابٌ لغوي يشتمل على رؤية ما، ويعمل بآليات منهجية، ومقتربات تحليل، وتأويل، وهذا ما عهدته في متن كتابه «شعراء البيان الشعري» الذي صدر عن دار ميزوبوتاميا بغداد 2015، والمقالة هنا معنية بملاحقة بلاغة خطابه بوصفها نتاج تضافر الفكر واللغة، وهما ينتميان إلى مرجعيات مختلفة تكشفها القراءة المتأنية للخطاب كله.
تقترن لغة الكتاب بالمجاز؛ وهو درجة أعلى في انزياح اللغة بعيدا عن الحقائق نحو (هذا الحلم الأدبي كان يعلو صامتا على الضجيج الذي وصل في بعض مراحله إلى درجة العنف) فالحلم يعلو على الضجيج، وهو صامت، في إشارة إلى نوع من المفارقة التي تَسِمُ الواقع الأدبي في الستينيات، وهو ما ظهر أيضا في النص الذي وصف فيه زمن جيله: جيل ما بعد السياب (الذي أخذت فيه الخطى تزحف وئيدة، أو حثيثة إلى حافة المقطع الأخير من الزمن المكتوب) فالخطى تزحف مثل كائن حي، وللمقطع حافة، وكان الزمنُ في السياق مكتوبا، فاللغة تخرج ضمن الخطاب النقدي إلى طبيعة جمالية تفارق السمة الإبلاغية المحضة المبنية على الإعلام، وتقرير الرؤى إلى أداء ينهل من مصادر عذبة، عالقة في فضاءات أخرى، كان الناقد يرغب بها شعرا فتطاوعه نثرا مع عنايته بالكتابة الجديدة لتشكل في ما أرى (حالة شعر) في الخطاب.
وتجد في متن الكتاب الكناية بوصفها نمطا من المجاز المعني بتقديم لازم المعنى لا المعنى نفسه، واضحة في سياق يتحدث فيه الناقد عن جيله الستيني: (ثم أصبحنا من بعد نحرثُ في حقل واحد) فالحراثة في حقل واحد كناية عن موصوف: مزاولة الأدب بعد الدراسة الجامعية، وقد مارسه الناقد مع زملاء الأمس، ولك أن تقرأ (أما إذا ضاق الحبل على الرقبة، فسرعان ما تجد اليد سبيلها إلى القلم والورق) لتتأكد من حضور الكناية أيضا، وهي تريد التعبير عن موصوف آخر: انحسار العمر، وبلوغ المرحلة النهائية منه.. لا شك في أن ظهور الكناية في لغة النص النقدي ملمح بلاغي منح النقد لوازم المعاني الثواني، وهي تعلن عن تجاورها بعيدا عن سلطة المباشرة والتوضيح، مضيفة شعرية ظاهرة إلى لغة الكتاب.
وفي متن الكتاب تشكيلٌ تشبيهي لافت لنظر المتلقي، ينتمي إلى مرجعية بلاغية أيضا؛ هو (التشبيه البليغ الإضافي) الذي يذهب فيه خيال المبدع بعيدا، حين يجعل المشبه به مضافا إلى المشبه، ويقلب قاعدة التشبيه، مستعيضا عن أداة التشبيه، ووجه الشبه نحو(حرفة الأدب) التي أصلها الأدب كالحرفة و(حصار الكتابة) التي تأويلها أن الكتابة مثل الحصار و(منخل الذاكرة) التي شبه فيها الذاكرة بالمنخل و(جمرة الإبداع) التي وصف فيها الإبداع مثل الجمرة.
وتحتفي لغة الكتاب بالقرآن الكريم في سياقاتها الواصفة، فهو مرجعية لا يمكن إنكارها، أدت أثرا بالغا في كتابات الناقد، وكان لها سمتها الأسلوبي في متنه، ففي نصه الذي يخص به الشعراء المعتزلين عن قول الشعر الذي يقول فيه (حتى إذا تذكر أنه كان في يوم ما شاعرا، حاول أن يسترجع ما فقده، ليوحي لنفسه أنه ما تزال في رأسه نار يسمع لها حسيسا، لكن من دون أن تكون هذه النار متأججة) تتداخل لغته والآية الكريمة: (لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ۖ وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ) «الأنبياء: 102» فضلا عن التداخل الأول: (في رأسه نار) الذي يشير بقوة إلى بيت شهير للخنساء رثت به أخاها صخرا:
وَإِن صَخراً لَتَأتَم الهُداةُ بِهِ
كَأَنهُ عَلَمٌ في رَأسِهِ نارُ

وفي نص آخر يصفُ الناقدُ مقاهي الأدباء في الستينيات، التي كانت آنذاك عامرة بضجيج روادها من جميع الفئات الاجتماعية: (من شعراء وقصاصين وغيرهم، ممن يتبعهم من الغاوين) والنص محاكاة تأثير مع قوله تعإلى في سورة الشعراء – الآية 224 (وَالشعَرَاءُ يَتبِعُهُمُ الْغَاوُونَ). وقال الناقد واصفا ابتسام مرهون الصفار يوم كانت طالبة في كلية الآداب: (تتحدث مع الدكتور يوسف عز الدين في وصيد إحدى القاعات الدراسية) والوصيد: فناء الكهف، أو عتبة الباب، والمراد هنا عتبة باب القاعة الدراسية في كلية الآداب، وهو ما جاء في سورة الكهف: الآية 18 (وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ)ۚ.
كَشَفَ تأثر لغة الناقد بلغة القرآن الكريم عن تفاعلية ثقافية منحت انطباعا واضحا عن تمازجية ارتضتها لغة النقد، كما ارتضتها لغة الشعر من قبل، فهي أدخل إلى فضاء يسع المزيد من الانفتاح، الذي يتبنى علاقات تحيل على وهج (المرجعيات) التي يتمظهر في أنساقها صوت الناقد. وتحضر اللغة بنسقها الفصيح القديم في أمثلة ليست بالقليلة من نصوص الكتاب، نحو قول الناقد وهو يَعُد (البيان الشعري) وملاسنات الشعراء القديمة خارج الفضاء الشعري؛ أي في حقل التأريخ الأدبي (ذلك أن ذمة هذا التأريخ الواسعة؛ قمينة، بلم شعث ما قيل) والقمينة: الجديرة، والشعث هنا؛ المنتشر من الأقوال، فمؤدى وصفه النقدي، أن ذمة التأريخ جديرة بجمع ما قيل وقال على ألسنة الشعراء وغيرهم، ليكون الحكم في ما بعد للتأريخ فحسب، واللفظان يحيلان على استعمال فصيح فطن إليه الناقد. ويقول الناقد خالد، وهو يصف دوافع الحث على الكتابة في آخر العمر فيجد من يقف على رأسه (وفي يده منخاس ينخس به ظهرك كيلا يتأخر بك عملك) والمنخاس عودٌ يستعمل للضرب وصلنا من لغة الماضي، ويقول في نص نقدي آخر (سأمضي من فوري إلى طيتي) والطية: الجهةُ أَو الناحيةُ البعيدة، وهي من الألفاظ الفصيحة، التي تسللت مع غيرها إلى لغة الناقد كاشفة عن نسقيتها الحية في الذاكرة. ولأستاذنا الخالد في الذاكرة أن يقول: ما يهمني سوى الشعر و(أن أقطع قول كل خطيب إن ظن بعض الظن… إن الرأي في الشعر رأيٌ في الشاعر.. هذا إفك لا أرضاه لنفسي، مثلما لا أرضاه لغيري) فالقول يتواصل مع المثل العربي القديم (قَطَعَت جَهِيزَةُ قَولَ كُل خَطِيبِ) والمراد من المثل، أنه يضرب لمن يقطع على الناس ما هم فيه بحماقة يأتي بها، وللناقد أن يتحدث عن الموقف الأدبي (في حدة الصراع السياسي الذي عمّ وطم في العهد القاسمي) وعم بمعنى انتشر، وطم كَثُرَ حَتى عَظُمَ، وهما لفظان قديمان بلا شك.
وتقرأ في نص آخر من الكتاب (لقد وجد هؤلاء الأدباء الشاعر منهم، والناثر في كلية الآداب أجواء ينتابها القول والفعل كما يقول زهير بن أبي سلمى) يريد قوله:
وفيهم مقاماتٌ حسانٌ وجوهُهم
وأنديةٌ ينتابها القولُ والفعلُ
وتقرأ في متن الكتاب (لم يحل هذا الصراع دون أن نأخذ بأطراف الأحاديث بيننا، وتسير بأعناق الصداقة أيامنا، حتى خروجنا من الجامعة، وافتراق بعضنا عن بعض: كل في طريق) فهو يحيل على أبيات جميلة تنازع نسبتها بعض الشعراء، وقيل هي – في الأغلب – للشاعر كثير عزة قال فيها:
أَخَذْنَا بِأَطْرافِ الأَحَادِيثِ بَيْنَنَا
وسَالَتْ بِأَعْنَاقِ المَطِى الأَبَاطِحُ
وتنفتح لغة الناقد في قوله (مما ساعد على تنامي الوعي باللاجدوى مزاجٌ خاص من اللامبالاة التي تؤدي إلى التسويف والتأجيل، وغداة غد، وحين تجئ الغداة تصطنع لنفسها غدا آخر، وهكذا تتوإلى الغدوات يأخذ بعضها برقاب بعض) على مرجعيتين:
الأولى: إن (غداة غد) أخذها من مالك بن الريب الذي كان الناقد معجبا بقصيدته التي كان قد رثى بها نفسه منها:
غداة غد، يا لهف نفسي على غد!
إذا أدلجوا عني وخلفت ثاويا
الأخرى: تتمثل في قوله: إن الشاعر أخذ بعضها (برقاب بعض) التي تتقارب تماما مع عبد القاهر الجرجاني في مقولته الشهيرة عن النظم. وتتأثر لغة الناقد بلغة الشاعر لبيد بن ربيعة العامري، الذي كان موضوع دراسته للدكتوراه في (هل يستعيد أخي سامي مهدي وجه الشاعر الجاهلي في بعض تصوراته الطللية التي «زعزعتها الريح والامطار ولم يبق منها « غير آل وعنة وعريش») ويعني بالشاعر الجاهلي لبيد في البيت الثاني:
هلكتْ عامرٌ فلم يبق منها
برياض الاعراف إلا الديارُ
غيرُ آلٍ وعُنةٌ وعريشٌ
ذعذعتها الرياحُ والأمطـارُ
فالآل: عيدان الخيمة، والعُنةٌ: حظيرة من الخشب لحفظ أغصان الشجر، أو لتستتر بها الإبل من البرد، والعريش: سقيفة من سعف النخيل والخشب، والبيتان يشيران إلى الخراب الذي يلحق الأرض ومن عليها.

مرجعيات لغة الكتاب كانت في قسم منها تأتي عفو الخاطر، في ما تأتي مقصودة في قسم آخر، والمقصودة يشير الناقد إلى مصدرها، لكنها ـ المرجعيات – في الحالتين تحيل على تمكن الناقد، وسعة اطلاعه، وبلاغة خطابه.

وتنفتح لغة الناقد خالد علي مصطفى في كتابه على لغة النقد العربي القديم، وهو يدقق النظر في القصيدة القصيرة الخاصة بالشاعر سامي مهدي ليستعيد لغة ابن رشيق القيرواني (يهجم على ما يريده مكافحة، ويتناوله مصافحة) التي قالها وهو بصدد الحديث عن الشعراء ممن لا يجعل للشعر بسطا في النسيب، وقد تعالق مع هذه المقولة ثلاث مرات، مما يدل على تغلغلها في تفكيره النقدي، وتشظي دلالتها في متنه، وكان قد تقارب مع ابن قتيبة في لغة كتابه «الشعر والشعراء» فهو يرى أن خضوع فاضل العزاوي لبعض الشروط (خروج عن الشعر الذي أنت فيه بعبارة ابن قتيبة) وأصل العبارة كما أوردها الناقد في الهامش (أشعر الناس من أنت في شعره حتى تفرغ منه) وله تواصل مع ما ينقل عن المتنبي في كتب (من بديهيات الأشياء التي يقع الحافر فيها على الحافر من دون قصد) وهذا ما قال به ابن رشيق القيرواني (سُئل أبو الطيب عن تشابه نصين لشاعرين من عصر واحد، مع عدم سماع أحدهما بالآخر فقال: الشعر جادة، وربما وقع الحافر على موضع الحافر).
وتأخذ لغة الناقد من لغة عبد القاهر الجرجاني، فهو يرى منطق التحليل العقلي توثيقا منهجيا لـ(الأثر في الفؤاد الذي يظل قائما مهما اختلف النظر المنهجي) فقد أخذ من لغة الجرجاني الذي كان بصدد الحديث عن طبيعة شعرية انزياحية دلالية بسبب التركيب الذي يجعل الخطاب منشدا إلى جماليات مكسوة بالدلالات العابرة للمعنى الأول، من خلال الاستعمال الخاص للمفردات، وتجاورها تجاورا (يقع من المرء في فؤاده).
أخلص في ختام هذه المقالة إلى أن مرجعيات لغة الكتاب كانت في قسم منها تأتي عفو الخاطر، في ما تأتي مقصودة في قسم آخر، والمقصودة يشير الناقد إلى مصدرها، لكنها ـ المرجعيات – في الحالتين تحيل على تمكن الناقد، وسعة اطلاعه، وبلاغة خطابه، وهو ما يظهر جليا في علاقته مع القرآن الكريم، التي ترد إلى سنوات طفولته، وتعوده على قراءته، وحفظ قسم من آياته، ثم قدر له أن يكون شاعرا يشار له باليد لا بالبنان، فضلا عن أنه قارئ جاد اطلع على قسم كبير من التراث، فضلا عن الأدب المعاصر.

أكاديمي وناقد من العراق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عراقي:

    لروحة السلام، الراحل اديب فلسطيني ،لم يمنحه القانون العراقي الجنسية العراقيةاسوة بكل اخواتنا من ابناء فلسطين،لحثهم على العودة الى ديارهم السليبة

إشترك في قائمتنا البريدية