بلاغة الغياب

حجم الخط
10

من لا يتكلّم ليس بالضرورة أخرس. ومن لا يرى ليس بالضرورة أعمى وبالقياس هل الغائب عن حضرتك هو غائب فعلا؟
ما الدليل على أنّك حاضر؟ هل تساءلت يوما عن دليل الحضور؟ هل يكفي أن تكون حاضرا بجسد منتصب متحرّك يمشي في المدينة في لفيف من مئات أو آلاف تمشي؟ ليس هذا كافيا فحتى يكون الجسد حاضرا ينبغي أن تقع عليه عين لا بالصدفة، بل بالاختيار وتتابعه من قريب حتى يغيب أو من بعيد حتى يدنو. أنت لستَ دليلَك على أنّك حاضرٌ؛ إن كنت دليلَ نفسك على الحضور، وكنت الآن وحيدا فلا بدّ أن تكون في حضرة من يعترف بأنّك موجود. الحضور شهادة يدلي بها الآخرون على أنّك حاضر، لكن ليس للغياب دليل: الغياب من نفسه دليل على أنّك لست حاضرا في الفضاء.
في الدراسات اللغوية القديمة والحديثة اهتمام فائق بالحضور، وتقليل من فكرة الغياب، فالحضور مقولة أساسية مثلا في النحو، وليس الغياب إلاّ مقولة متفرعة عنه. خذ على سبيل المثال حديث النحاة من عرب أو غيرهم عن الضمائر، وكيف أن الأصل فيها هو ضمائر المتكلم والمخاطب، هي بعبارة لسانيّة ضمائر مقاميّة أي هي تتحدد بالمقام الحضوريّ؛ لكنّ ضمائر الغيبة هي ضمائر لا مقامية. إلاّ أن اللغة المنتصرة بضمائرها على الحضور يمكن أن تسمح لك بأن تغيّب حاضرا فتسند إليه ضمير الغيبة.
بلاغة الغياب هنا أنّك تنفي من هو بحضرتك عيانا وشهادة وتحيله على اللاوجود. إن كنت لا تطيق حضور حاضر فليس عليك إلاّ أن تستعمل له في حضرته ضمير الغياب، فأنت تقول لمن هو في حضرتك موبّخا على تكاسل: (أنا أتعب وأشقى وهو لا يهمّه من تعبي وشقائي شيء!) يكفي أن تقول هذه الجملة لمن هو بحضرتك حتى تنفيه. نحن نصنع بالضمائر منفانا ومنفى غيرنا، ونتوارى عن الأنظار ونحن الحضور لنتحصّن بالغياب.
في بعض الأحيان يكون الغياب قسرا ككلّ منفى إجباريّ؛ استمع معي إلى هذا المقطع المألوف من أغنية الموسيقار محمد عبد الوهاب (أنا من ضيّع في الأوهام عمره!) وهي من كلمات الشاعر علي محمود طه: يكفي أن تستعمل الموصول (مَنْ) حتّى تنتقل قسرا من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب واللغة هي التي تجبرك على ذلك لأنّ الأصل أن تشير إلى نفسك بالغيبة بعد الموصول كان طه ملتزما بالقاعدة التي تمرّد عليها شاعر آخر شهير هو أبو الطيب المتنبّي حين قال: (أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي) فتمسك بالحضور في (أدبي) وكان الواجب والجبر أن يقول (إلى أدبه). ليس في قول المتنبي اضطرار شعري ففي (أدبي) ما في (أدبه) من الكفاية المقطعيّة. في قوله تمرّد على المنفى القسريّ للغة الذي كان سيسلب منه حضوره في مقام يستوجب تضخيم أناه تضخيما يصبح معه الأعمى مبصرا والغائب حاضرا.
أسمع إلى أغنية فيروز بأذن معجب لم ينسَ أصله النحويّ (يا من يحنّ إليكِ فؤادي) وأتذكّر كيف صار كسرُ القاعدة أصلا وأقارن بين ما ينبغي أن يقال (يا من يحنّ إليها فؤادي) وما قيل. يبدو أن الجملة النظاميّة لا تلبّي الحاجة في بناء الشوق. إن سرعة الالتفات في اللغة من الغائب إلى الحاضر كسرعة التفات راحِلٍ يكاد لا يترك وجهه يمضي في سبيله فيظلّ يلتفت إليها حتى لا تغيب. لكن لماذا نغيب حتّى نحنّ ونظلّ نلتفت إلى من غبنا عنه: بلاغة الغياب في قدريّته أنّه عليك أن تغيب لكي تحضر فيك كلّ الكيانات الغائبة في الكون، تحضر في كيانك فلا تفارقه.
أبدع البلاغيّون حين أطلقوا اسم الالتفات على هذا التنقّل من ضمير إلى ضمير عندما يكون المُحال عليه واحدا. جمال هذه التسمية من أنّها مسكوكة من التجربة البصريّة التي تجعل العين تتنقّل بين هذا المرئيّ من الأمام والمرئيّ من الخلف. الغياب هو أن تترك شيئا وراءك يغيب، والتذكّر هو أن تلتفت إليه. كم نلتفت لنرى من تركنا في الغياب لكنه يغيب عن عيوننا في الزحام، بالعين يمكن أن تلتفت ولا ترى ما تريد أن تراه حتى لو كان ثابتا. لكنّ اللغة تمكّنك من أن ترى ما غاب وكأنّه لم يغب.

الحضور يقهره الغياب لأنّه يبيّن كيف أنّه لا يكون إلاّ آنا بين زمانين: بين زمن الغائب وزمن المستقبل. لقد كان الغائب مستقبلا ثمّ صار راهنا ثمّ بات غائبا ماضيا.. الغياب يجعل الزمن يستقرّ في بؤرة من الاستقرار، بعد أن ظنّ الواهمون أنّه بلا قرار.

في تجربتنا البصريّة ما يفيدنا كثيرا في تفسير الالتفات، لأنّ التفكير في أن الانتقال بين الضمائر في اللغة هو كتنقيل العيون، ليس المراد منه التجوّز في التعبير، بل يراد منه قياس تجربة بصرية على تجرية لغوية، أو قل قياس تجربة علامية بصرية على تجربة لغوية. يقول أبو الطيب المتنبّي (رميتهم ببحر من حديد / له في البر خلفهم عبابُ) فيخاطب ممدوحه بضمير المخاطبة، لكنّه ما يفتأ أن يلتفت فيغيّبه ليقول (فمسّاهم وبسطهم حرير// وصبّحهم وبسطهم تراب). تنقلت عينا الممدوح من مراقبة المخاطب إلى الالتفات إلى غيره من الحضور ليخاطبهم عنه. أن تخاطب شخصا تراه ثمّ تُزيغ عينيك لتبتعد عنه بعيدا، يعني أن عينيك لم تقاوما سطوة حضوره. العين عضو يعرف كيف ينسحب ومتى ينسحب متى يواجه ومتى يلتفت. معروف عن الأشخاص من ذوي الحضور القاهر أن العيون لا تستطيع أن تراقبهم، دون أن تغيب، هذا معروف في مواضع الخجل لكنّه معروف أيضا في مواضع الخوف من عينين تكشفان عينيك. بلاغة الغياب في الالتفات أن حديث المادح إلى ممدوحه لن يضيف شيئا إن افترضنا أنّه يحدّثه عن بطولاته، لكنّ حديثه عن بطولاته إلى غيره يكون أشدّ وقعا لأنّ الحديث عندئذ سيترك المركز لينتشر في المحيط لا قيمة لخبر مميز عنك إلاّ إذا انتشر.
ضمير الغيبة ينسجم معه الحديث عن أثر المحاربة، بما هي نتيجة ما فعله بهم فمرّ الشاعر من ضمير للخطاب يبني المقام الحربيّ، إلى ضمير للغيبة يحكي ويؤرّخ لذلك الفعل. ضمير الغياب هو ضمير التأريخ المفضّل. وضمير الغياب هو غياب مطلق من أجل الحضور في التاريخ حضورا أبديا. فعلى حدّ عبارة الكاتب الإسباني بلتزار غراسيان إي مورالاس (1601-1658)Baltasar Gracian y Morales، فإنّ الحضور يقلّل من شأن السمعة والغياب يعلي فيها.
الحضور يقهره الغياب لأنّه يبيّن كيف أنّه لا يكون إلاّ آنا بين زمانين: بين زمن الغائب وزمن المستقبل. لقد كان الغائب مستقبلا ثمّ صار راهنا ثمّ بات غائبا ماضيا.. الغياب يجعل الزمن يستقرّ في بؤرة من الاستقرار، بعد أن ظنّ الواهمون أنّه بلا قرار. الغياب يكسر الحضور بنزوعه إلى أن يكون مستمرّا في الحُلْكة الماضية كالسرمد.
في الحضور تستطيع أن تراني وأراك، تلمسني وألمسك وتستطيع أن تراني وأنت لا تريد أن تراني وألمسك ولا تريد أن ألمسك والعكس صحيح طبعا. يمكن أن تشتهي عيناك حاضرا لكن يزول في الغياب يزول كلّ ذلك المنع إلى الأبد.. في الغياب أستطيع أن أراك وألمسك وأقبلك وأبكي في حضرتك وأهمس وأصيح وأصرخ وألعن حتى إن كنت لا تريدني في سطوة الحضور أن أفعل ذلك.. أستطيع وأنا في الغياب أن أبني بالخيال التصويري ما أريد. أن ترى في الحضور فأنت تستخدم حاسّة مبصرة لا ترى كلّ شيء.. وأن ترى في الغياب يعني عند العرفانيّين أن تتصرّف بملكة عندك بشرية هي التصويرية.. هي ملكة تجعلك تبني كلّ المتصورات حتى تلك التي لا تستطيع أن تبنيها عيناك التاريخية الآن وهنا. الأشياء لا تكون إلاّ على هيئات معلومة والوقائع لا تحدث إلاّ كما وقعت لكنّ قدرتنا على التصويرية تجعلنا نبني ما حدث بآلاف الأشكال؛ إذ تتيح اللغة لنا ذلك لأنّ اللغة لها نبع أبعد من الحنجرة.. لها نبع عميق في أعتى القدرات البشرية حضورا وغيابا.. في الذهن.

أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سيف كرار... السودان:

    انظر الي قصة الاصمعي مع الخليفه ابي جعفر المنصور حول قصيده…. صوت صفير البلبل.. اشجي قلبي الثمل..أي نوع من الحضور والتكرار..

  2. يقول صديق الحقيقة:

    مقال متمييز.

  3. يقول S.S.Abdullah:

    لأن اللغة في الذهن، كان عنوان (بلاغة الغياب) وفق رؤية أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية، ونشرته له جريدة القدس العربي، البريطانية في مقال، وأضيف سؤال، ما بين خيال الفلسفة، وحكمة الواقع، كيف يجب أن تكون إدارة وحوكمة الآلة، في مستقبل الحكومة الإليكترونية، إذن؟!

    لأن في نفس الجريدة نشرت عنوان (فوكس: حتى الذكاء الاصطناعي “إسلاموفوبي” ومتحيز ضد المسلمين)، لأن الحقيقة، ليس فقط الإسلام، بل أي مؤمن بأي شيء، على أرض الواقع سيعاني من الإحساس (بالظلم)،

    والدليل ما حصل في الصين (الدولة بنظامين، في قسم الديمقراطية (هونغ كونغ)) يوم 1/7/2019، أو في عاصمة أمريكا (واشنطن) يوم 6/1/2021،

    ذكرت ذلك ليس دفاعاً عن فكر (سيد قطب)، أو غيره، لأن هناك بديهية من الذي فهمته من الإسلام، أي فتوى من أي جهة أو إتحاد أو إنسان في لغة القرآن وإسلام الشهادتين، مخصصة، لموضوع وإنسان صاحب علاقة،

  4. يقول S.S.Abdullah:

    ولذلك ما حصل في مؤتمر الشيشان خطأ شرعي، كما قال (أحمد الطيب): الأزهر بريء من مؤتمر الشيشان.. والسلفيون من أهل السنة والجماعة،

    بخصوص رأيي فيما ورد تحت عنوان (“علماء المسلمين”: “تنظيم الدولة” والقاعدة ليسا من الإسلام وهما من صنع المخابرات الدولية)، والأهم هو لماذا، وما دليلي على ذلك؟!

    مشكلة قولبة (الإرهابيين) في صورة أو نمط أو تيار فكري، من دين ما، ليس الطريقة الصحيحة،

    لأن من وجهة نظري بدون رفع الظلم، وتجارة نشر الظلم من خلال (شركات الأمن/العسكر/السلاح) التجارية،

    لن تحل المشاكل الاقتصادية، حتى في أفغانستان، في عصر كورونا (إقتصاد الحياة (عن بُعد))،

    السؤال بالنسبة لي، عقلية (اللويا چرگا)، التي تكلم عنها رئيس تونس بالذات، ذكرها قبل أن يقوم بتجميد عناصر وأدوات فوضى (الديمقراطية)، فهل سيستفيد منها (علماء المسلمين) بعد ذلك، أم لا؟!

  5. يقول S.S.Abdullah:

    هو أول ما خطر لي عند قراءة عنوان (وفد من طالبان يزور “علماء المسلمين” لاستلهام الأفكار حول بناء الدولة الأفغانية)، والأهم هو لماذا، وما دليلي على ذلك؟!

    بعد 2008، الصين ومن أجل المساهمة في إنقاذ الاقتصاد العالمي، طرحت أسلوبين:

    – المقايضة بدل النقد، لإتمام التعاملات التجارية،
    – مبادرة طرق وحزام الحرير، في أتمتة إقتصاد الدولة، بداية من عمود الكهرباء في الشارع، لربط أي دولة مع إقتصاد العولمة،

    فأصبحت الإدارة والحوكمة والتقييم، الاجتماعي والاخلاقي وحتى الولاء للنظام، بواسطة الآلة التي بيدك،

    فحصلت الفوضى في قسم الديمقراطية من دولة بنظامين، وتم استيلاء ممثلي الفوضى على مجلس ممثلي الشعب في هونغ كونغ، فضاعت (هيبة الدولة)،

    كما سيطر ممثلي الفوضى في العاصمة الأمريكية يوم 6/1/2021، على مجلس الشعب، فضاعت (هيبة الدولة)،

    كما ضاعت (هيبة قسم الولاء) في مصر بعد 3/7/2013 عندما إنقلاب (وزير الدفاع والداخلية وممثلي الأديان والقضاء والأحزاب) في بث حي ومباشر، دون أن تتحرك آلة العسكر والأمن في الدولة،

  6. يقول S.S.Abdullah:

    بينما في تركيا ضاعت (هيبة آلة العسكر والأمن) عندما فشل إنقلاب 15/7/2016، على أرض الواقع في النظام البيروقراطي بشكل عام،

    بعد (لغة) رمي الحذاء، على (ممثلي الديمقراطية)، بواسطة (منتظر الزيدي) من مهد تدوين لغة حضارة الإنسان، في بث حي ومباشر في عام 2008.

    لغة القرآن وإسلام الشهادتين، ليس فيها علم ظاهر، وعلم باطن، لا يمكن أن يصل له إنسان، دون أن يكون من آل البيت أو شعب الرّب المُختار، والدليل طالبان أفغانستان،

    أي ليس هناك شيء اسمه (رجال دين) تحتاج أن تدفع لهم مال، مقابل خدماتهم، كما هو حال بقية الأديان حول العالم،

  7. يقول S.S.Abdullah:

    وأحسن من استطاع شرح ما حصل بعد (المقاطعة الاقتصادية) ضد كل من وقف مع الكيان الصهيوني بعد حرب عام 1973، وبداية عصر (إقتصاد البترودولار) كان الأمير (تركي الفيصل)، كما في الرابط التالي

    https://youtu.be/YVQ2iffcu90

    من وجهة نظري، هذا الحوار، يمثل نموذج رائع، لمعنى المناورة في المبارزة الفكرية، بين فلسفة المرأة، وحكمة الرجل، تجاه أي موضوع يمثل الأسرة الانسانية،

    وكيفية إدارة وحوكمة العلاقة بين الفلسفة والحكمة على أرض الواقع.??
    ??????

    1. يقول ن:

      قال الشاعر … نعمة النظر إلى النفس من خلال المدى ينقصها حياة
      الغروب رجلٌ يتدفّق بعينين تستغرقان الكواكب تحت شمعدانات النخيل
      فهل يمتنع القياس في امتناع المسافة….. لا
      ولا الوجود في امتناع تفاصيل الكيان
      كل مكانٍ افتقدتك فيه أنت فيه حقاً
      ولكن بالخروج على المشاهدة
      كأنّك هلال يُقمر على مدرجة الأفول
      بل كأنّك لسان محو يقول …….

    2. يقول S.S.Abdullah:

      أحسنت

  8. يقول الناقد الثقافي:

    ((في الغياب أستطيع أن أراك وألمسك وأقبلك وأبكي في حضرتك وأهمس وأصيح وأصرخ وألعن حتى إن كنت لا تريدني في سطوة الحضور أن أفعل ذلك.. ))……
    مقطع ساخن أو شبهرساخن يوحي، بشكل غير مباشر، برومانسية مثلية ذكرية مستترة، وقد تكرر مثل هذا الإيحاء من قبل !!!؟

إشترك في قائمتنا البريدية