قد يكون حازم القرطاجني أثّر في العمل البلاغي على نحو خاص، إلّا أنَّ مقرّرات بحثه البلاغي المدهش لم تسلم من أثر النزعة المنطقية، ولعلّ أوضح الأدلة على هذا الاتجاه منهجه القائم على التقسيم والتفريع، والمدعوم بالمنطق والفلسفة.
بيد أننا نتبيّن توجُّهه نحو وضع القواعد والأصول في إطار «العلم الكُلّي» لمعرفة تناسب المسموعات والمفهومات من جهة، ثم تمييز التخييل والتصديق من جهة أخرى.
هذا ما سوف يتبلور بوضوح عند عالِميْن يُحسبان على المدرسة المغربية، هما السجلماسي وابن البنّاء العددي، وإن كان قد بدأ، قبل ذلك، مع أبي طاهر البغدادي، ليس داخل علم البلاغة بحدّ ذاته، وإنما ما يهمُّ تحديدا بلاغة الإيقاع.
«قانون» أبي طاهر
يتّجه أبو طاهر البغدادي (ت517هـ) في «قانون البلاغة في نقد النثر والشعر»، نحو تقنين البلاغة وتقويمها بوصفها صِناعة، وليس «فنّا» تتنازعه الأذواق والأهواء. وإذا كان أبو طاهر يظهر في «قانونه» مستثمرا جهود سابقيه الذين ارتقوا بالبلاغة إلى مستوى أن تكون «علما» ناظما لقضايا الكلام العربي شعره ونثره، فإنَّه يسعى إلى أن يكرّس قواعديّة هذا العلم، ويكشف سبله لمن «يخرجون عن طريق البلاغة ومنهاج الكتابة» من جهة الألفاظ والمعاني، وهو يُعرِّف البلاغة بأنَّها: «ليست ألفاظا فقط، ولا معاني فحسب، بل هي ألفاظٌ يُعبَّر بها عن معانٍ، ولكن ليس كما اتّفق، ولا كيفما وقع».
إنَّ هذا المسعى يبرّره أبو طاهر بما وجده من الحشو والاستكراه والتعبيريّة الفجّة والتنميق، التي بدأت تطال وجوه البلاغة وتموّهها في عصره؛ فيريد أن يعود بالبلاغة إلى أصلها في أن يُعبَّر عن المعنى الدالّ على الألفاظ بأقلّ منها، وأن تكون صناعة «لها ما لكُلِّ صناعةٍ من المبادئ والموضوعات والأدوات». وهذه البلاغة لن تهمّ الشعر وحده، بل النثر الذي صار يُضاهيه في اختبار أشكال التعبير الفني والبلاغي؛ وبالتالي، فمقاييس البلاغة النثرية والشعرية واحدة، وتتطابق تطابقا يكاد يكون تامّا في أكثر ما يعتمده الشعراء والناثرون من جوانب الصناعات اللفظية والمعنوية. وعلى هذا الأساس، فالنثر لا يُفرّقه عن الشعر غير الوزن العروضي، أما في غير ذلك فهما سيّان في مضمار الكتابة.
وفي هذا السياق، يكشف مجموع تلك الوجوه التي تتحقّق بها بلاغة الشِّعر وبلاغة النَّثْر معا، ويركِّز على مبدأين: توخّي الانتظام والرصف، وإصابة المقدار. وهما لا يُحيلان على معيار الجودة والرداءة الذي يؤكّد عليه، فحسب، بل يعنيان كذلك ما فيهما من درجات التناسب والمواءمة، وما يَشِيان به من ممكنات الإيقاع وطاقاته البديعيّة (الموازنة، والترصيع، والتسميط، والتصريع، ورد العجز إلى الصدر).
من وجوه البلاغة في المعنى إلى وجوهها في اللفظ، التي عالجها منفصلة عن بعضها بعضا، ثُمّ ما فرّع عنها نحو خمسين نوعا من «فنون» البديع التي بدَتْ شاردة بلا داعٍ، فإنّ «قانون» أبي طاهر لم يسلم من المعيارية المسكونة بمنطق التقسيم إلى أجزاء، وبالتالي فشل في ما أراد تقويمه والتقعيد له، وقد ألهم هذا القانون قوانين في البلاغة تالية؛ مثل «مفتاح» السكاكي (ت626هـ)، و«إيضاح» القزويني (ت733هـ)، اللذين سارا في اتّجاه تكريس البعد التداولي للبلاغة، وجعل وجوه البديع تابعة ومقولاته فرعيّة ومتجاورة.
«منزع» السجلماسي
لم يكن مشروع أبي محمد القاسم السجلماسي، في «المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع»، بعيدا عن ذلك الجدال الذي كان يتمُّ، في فتراتٍ متقطّعة، بين «مسموع القول» و«مفهوم القول»، ولا سيما في بُعدَيْهِ المنطقي والرياضي، وهو ما سار ابن البنّاء فيه شَوْطا ثانيا، بدون أن يتقيد بنظريّة النسبة والتناسب في خواصّها المائزة.
يطرح السجلماسي، من داخل تصوُّرٍ نظريٍّ ـ نسقيّ، رؤية جديدة تسعى إلى إعادة الاعتبار للعمل البديعي، وتنظيم صناعته في إطار علم البيان أو فلسفة أبنية الكلام ودلالاته اللفظية والمعنوية. ذلك ما تصفح عنه، بشكْلٍ واضحٍ، شبكة المصطلحات ذات الطبيعة الفلسفية والبلاغية في جانبها اللغوي ـ الصناعي واستعمالها الجمهوري. يضع السجلماسي قضايا الكتاب في شكْلٍ هرميٍّ يُمثّل قمّتَه عنوان المنزع، بينما تُمثّل قاعدته تلك الأجناس العشرة، مُتتبِّعا كلَّ جنْسٍ بمفاهيمه وتفريعاته الاصطلاحية نظريّا وتطبيقيّا. فهو يجعل مجموع المحسِّنات البديعية في أجناسٍ عُلْيا عَشْرةٍ تتفرّع عنها أجناسٌ متوسِّطة. داخل هذه الأجناس، يُركَز السجلماسي على المقوِّم الصوتي ـ الإيقاعي على نحو يكشف تمكُّنه من علم الأوزان ويبرز شخصيّته المستقلّة في مناقشته لقضايا الشعر والعروض في مواضع من كتابه، في ما هو يُقارب علاقات التناسب الصوتي والدلالي.
ظهر ذلك منسجما مع تعريفه للشعر الذي ثمّن فيه قيمة الوزن والإيقاع داخل رؤيته للتناسب ومستوياته، وهو يقول: «إذا كان الشّعر هو الكلام المخيّل المؤلَّف من أقوال موزونة متساوية، وعند العرب مُقفّاة: فمعنى كونها موزونة: أن يكون لها عددٌ إيقاعيٌّ. ومعنى كونها متساوية هو: أن يكون كلُّ قوْلٍ منها مؤلَّفا من أقوالٍ إيقاعيّةٍ، فإنَّ عدد زمانه مُساوٍ لعدد زمان الآخر، ومعنى كونها مُقفّاة هو أن تكون الحروف التي يختتم بها كلُّ قوْلٍ منها واحدة».
فهو، مثل صنع سابقيه من الفلاسفة، يجعل الشعر مُخيّلا، متوتِّرا بين الوزن والمحاكاة، إلَّا أنّه يُقدِّم أبلغ الصياغات البلاغية لمفهوم التناسب الّذي تُحقِّقه بنية التكرار في الكلام الشعري، وهو يتناول ـ تنظيرا وتطبيقا ـ صيغ المشاكلة (البناء، التجنيس بأنواعه، المعادلة بما فيها من تصريع وموازنة)، والمناسبة والمناظرة (التصدير، الترديد). ولم يفصل السجلماسي بين الصّوْت والدلالة في مناقشته للتناسبي، أو الملائمي بتعبيره، بل جعل التناسب الصوتي الذي يتحقّق بعناصر وزنية وتقفوية وانتظاميّة قسيما للتناسب في المعاني الذي يتحقّق عبر مُقابلاتٍ دلاليّة.
إنَّ التناسب، كما يتحدد من قول السجلماسي بعبارات المشاكلة والمعادلة والمناسبة، هو علاقة تماثُلٍ أو تعادُلٍ بين طرفين أو أكثر، ويحوز جملة من سمات التوازي الصوتي ـ الدلالي الذي يبدأ من الإحساس بالقيمة التعبيرية للأصوات ومراعاة نسق الصوائت ما الصوامت في الألفاظ، ليتعدّاهُ إلى فهم التشكيل الفنّي الذي يقترن بعلاقات مجازية بسيطة ومركّبة تقتضيها طبيعة الكلام الشعري. وهكذا فإنّ فاعليّة الإيقاع تنشأ من التناسب الصوتي الذي يتمُّ عن طريق توزيع الألفاظ في الجمل المتّصلة ببعضها، أو المترتّبة على بعضها عن طريق الترادف أو التضادّ في المعنى. لا ندّعي أن السجلماسي قارب الإيقاع رأسا، ولكنّه أضاء مجال القول الذي يتحرّك فيه ممكن الإيقاع، وهو يُعيد تأويل المقوّمات البديعية والموازنات الصوتية في القول الشعري.
لقد بدا «منزع» السجلماسي، عبر صياغاته المقولية المنطقية الظاهرة وطبيعة ترتيبها الدقيق لها، تتويجا لعملٍ معرفيٍّ بُذِل خلال فتراتٍ متلاحقة، في مباحث وحقول متنوّعة ومتفاعلة: عروضية، بلاغية ـ نقدية، إعجازية وفلسفية. كما بدا أنّ أهمَّ ما يميّزه، نتيجة لكلِّ ذلك، نزعته التركيبيّة التي تستقصي عناصر البحث، وتُحلّل وقائعه وملفوظاته، وتعيد تجميعها وتوجيهها في نسقٍ نظريٍّ كُلّي لا يخلو من تجريدٍ وتجرُّد في آن.
قَوْلبة ابن البنّاء
تتأكّد هذه النزعة في مشروع ابن البناء المرّاكشي (ت721هـ) كما يتجلّى من كتابه «الروض المريع في صناعة البديع»، الذي حاول فيه أن يضع كلّياتٍ لعلم البديع (البلاغة) ويحصرها في جملة قوانين تضبط أنماط الخطاب، فيما هي تنضبط بها الجزئيات المندرجة تحتها وتتفرع عن تصوُّره للعلم الذي فهمه «من جهة الاستدلال بالألفاظ على معانيها».
بموجب هذه الكُلّيات، التي ترجع إليها كيفيّة العبارة في البيان، يعتقد ابن البنّاء أنَّه يتحقَّق تقريبُ البيان من الأذهان؛ فيُفهمُ كتابُ الله وسنّة نبيِّهِ، كما تُفهمُ المخاطبات البشرية كلُّها. فهو يُعيد ترتيب المباحث البلاغية، مُتجاوزا حصر البديع في المحسنات (اللفظية أو المعنوية)، إلى افتراضه صناعة ترجع إلى القول ودلالته على المعنى المقصود، ولذلك ربطه بالمقاصد وأساليب الخطاب. وهكذا، فإنّ المقوّم الصوتي ـ الإيقاعي عبر بحثه في الكلّيات يتراجع إلى الظلّ، ويخلي مكانه لصالح المقوّم الدّلالي، سواء في ما يتعلّق بسياق الأسلوب، أو بالتناسب الذي جعله بين الأشياء في التصوُّر: تنقسم الدلالة عنده إلى دلالة المنطوق ودلالة المفهوم ودلالة المعقول لا من جهة كونها أصل الارتباط بين اللفظ والمعنى فحسب، بل من جهة التخاطب كذلك.
إن بدا ابن البنّاء متأثّرا بقراءات الفلاسفة المسلمين، كما يظهر من تعريفه للشّعر، بقوله: «هو الخطاب بأقوالٍ مخيّلةٍ على سبيل المحاكاة، يحصل عنها استفزازٌ بالتوهُّمات»، وجعله الشعر جنسا من القول، وجعله الكذب أدخل في الشعر لأنه «مبنيٌّ على المحاكاة والتخيل لا على الحقائق»، إلّا أنّه سكت عن الإيقاع الذي كان مقترنا بتعريفهم للشعر بوصفه قَوْلا شعريّا. الشعر كلامٌ مُخيّل أوّلا، قبل أن يكون تأليف أقوالٍ موزونة متساوية ومقفّاة، كأن لا نظر له كمنطقيّ في شيْءٍ من خارج ذلك. لهذا لا نعتقد أنّ هناك انسجاما بين رؤية ابن البناء لعلم البلاغة ونظرية الفلاسفة المسلمين، ولا هناك تقاربا أقوى بينه وبين حازم، كما يذهب محقق الكتاب رضوان بنشقرون في مقدّمته. إنّما هناك تباينٌ في الرؤى نتيجة اختلاف المقاصد.
وربّما أملى على ابن البناء ذلك النظر، هو استراتيجية تأليف الكتاب الذي أَوْقفه على معرفة التفاضل في البلاغة والفصاحة لفهم أنماط الخطاب، والقرآني تحديدا، «ولم يَشُذَّ منه ـ كما يقول هو نفسه ـ إلّا ما هو من موضوع صناعة العَروض وصناعة القوافي وبعض ما يخْتصُّ بالشعر من حيث هو شعر». وحتّى في حديثه عن التجنيس الذي جعله من أنواع المشاركة وأسهب فيه اشتقاقا وتفريعا، فهو يتناوله خارج شرطي الوزن والقافية الذي بهما تتحقّق الموازنات الصوتية في الشعر. لكن تأثُّره بنظريّة التناسب الرياضي بدا للعيان، وهو يحلّل جملة القوانين ويُركّبها ويستبدل عنصرا بآخر من عناصرها بشكْلٍ جعلها مُسْتغرَقة أكثر في أقيسة المنطق. عدا أنّ كثيرا ممّا ورد من أنواع التجنيس واصطلاحاته يتقاطع مع ما ورد عند معاصره السجلماسي. فنحن نلمس تقاربا بين عمليهما من حيث أفقهما النظري، وهو تقارب يفسره عباس أرحيلة كالآتي: «وأعتقد أن سبب التشابه بينهما يرجع إلى رغبة كل منهما في وضع كليات للبلاغة: فالسجلماسي حصر الكليات في عشرة أجناس.. وابن البناء حصر الكليات في سبعة مباحث ضبطتها قوانين الأساليب. فمشروع كل منهما يهدف إلى إحصاء القوانين الكلية وتجريدها من المواد الجزئية» (الأثر الأرسطي في النقد والبلاغة العربيين)، فيما يرى علال الغازي أن «الروض المريع لابن البناء كنص ينتمي إلى التيار الفلسفي الذي قاده حازم بمنهاجه والسجلماسي بمنزعه، ولم يبلغ هذا الرياضي مستواهما لانشغاله بحقول عملية أخرى» (مناهج النقد الأدبي في المغرب)، وفي المقابل، يتغاضى ابن خلدون عن بلاغة المغاربة خلال القرنين السابع والثامن للهجرة، ويتحامل عليهم بقوله إن أهل المغرب اختصوا بعلم البديع، «وفرّعوا له ألقابا وعدّدوا أبوابا ونوَّعوا أنواعا، وزعموا أنهم أحصوها من لسان العرب وصعُبتْ عليهم مآخذ البلاغة والبيان لدقة أنظارهما، فتجافَوا عنها» (المقدمة).
من نافلة القول أن نثبت، هنا، أنّ رؤية السجلماسي وابن البنّاء معا، واستراتيجية عملهما المركِّب، كان مما أملاه عليهما زمَنُهما المتأخِّر، بعد أن تفشّتْ في فضاء الثقافة العربية العالمة آليّات النقل والاجترار والتلخيص، وغنمت كتبُ المُقلّدين، في علومٍ شتّى، صمت العقل وروحه المبدعة، وبعد أن تفشّتْ في مباحث الدراسة البلاغيّة، والبديعيّة تحديدا، نزعة التجزيء التي إن أولت اهتمامها للعنصر الصوتي، فقد عالجت تشكُّلاته بطريقة غير ناجعة، ففقدَتْ كلَّ صِلةٍ بأُطُر القصيدة ونسقيّتها وإيقاعها.
لقد أخذت هذه المباحث تشقّق الأبواب وتكثِّرها وتُردّد صورها منفصلة عن بعضها بعضا، ووجدت في كلِّ صيغةٍ فيها شيئا من الغرابة مُحسِّنا بديعيّا، وأطلقت عليه اسما من الأسماء، ما أحال الكلام في البديع ومحسّناته إلى صورةٍ غثّة أفقدَتْه حيويّته. وهكذا درس متأخِّرو البلاغة وجوه الأدب الفنّية خارج ما ابْتُكِرت من أجله عند سابقيهم؛ فكان ذلك إيذانا بنهاية مرحلة خصيبة من ابتكار العقل العارف والمخيِّلة المُلْهمة، وتجفيفا لمنابع الإيقاع وتشهّياته الثَّرة، وعطبا بالغا لإمكان قراءته وتأويله. وهل الإيقاع غير ذلك الخيط الرفيع، العابر واللامرئيّ والمتعدّد، الذي كان يشدُّ العروضَ والمحسِّنات الصوتية ووجوه البديع بعضها ببعض، بقدر ما كان يُطلق المعاني والصور في نسيج الكتابة.
٭ شاعر مغربي