كنت قد أنهيت مقالة حول “إيران والسيناريو الأفغاني” بالقول: “أمريكا لا يمكنها، الآن، محاربة عدوين: السنة (تحت عنوان داعش والقاعدة) والشيعة. إنها تستعين بالشيعة لمحاربة السنة، لتنفرد، غدا، بالشيعة. ألم تحارب بالقاعدة لهزيمة السوفييت؟ إنه السيناريو الأفغاني يتكرر، وتلك سياسة من يريد أن يبقى المهيمن في المنطقة”.
كانت مناسبة هذا الكلام إعلان الاتفاق النووي مع إيران في عهد أوباما. وفي عز الافتخار بالمنجزات الإيرانية التي سجلت وقتها بسبب هذا الاتفاق، بينت أن على الإيرانيين استغلال هذا الفرصة التاريخية من خلال اتباع خيارين لا ثالث لهما. الاستفادة من هذا التوافق لتحقيق هدفين أساسيين: رفاهية الشعب الإيراني، من جهة، والعودة، من جهة ثانية، إلى صف الدول الإسلامية الذي بات منقسما إلى شيعة وسنة، وبينهما حروب تستعيد عرقية الجاهلية، والفتنة في صدر الإسلام، والشعوبية… في نطاق احترام الخصوصيات الدينية، والتعاون من أجل مواجهة كل أصناف الإرهاب، وممارسة المصالحة الدينية والطائفية والاهتمام المشترك بتجاوز كل ما يسهم في تدمير المنطقة لأن ذلك لن يخدم سوى إسرائيل وأمريكا والغرب.
وجدتني أستعيد هذا الموقف الذي عبرت عنه في 8 آب (أغسطس) 2015، وأنا أتابع أخبار تحركات جون بولتون، مستشار الأمن القومي الأمريكي، ووزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو، والدعم الذي تسعى الإدارة الأمريكية للحصول عليه داخليا، وخارجيا من خلال الجولات الحالية والممكنة في المنطقة العربية، وما تثيره من تصريحات مباشرة حينا، وضمنية أحيانا أخرى، حول استهداف إيران، والتفكير في العمل على ضربها عسكريا عن طريق إقحام العرب في هذا الصراع وجعله التناقض الرئيسي الذي يهددهم أمنيا. ودفعني كل هذا إلى استحضار مصطلحي “الأجندة”، و”خارطة الطريق” اللذين يتواتر استعمالهما في الخطاب السياسي المعاصر، وإلى استنتاج أن من يخطط للزمان، يعرف كيف يتحرك في المكان. أما من لا يعطي قيمة للزمان فلا يمكنه إلا أن يضيع، وهو لا يحسن قراءة خرائط الجغرافيا.
منذ أن أضاع العرب والمسلمون الزمان، أضاعوا علاقتهم بالمكان. فصارت علاقتهم بهما خيالية لا حقيقية، وافتراضية لا واقعية. لذلك نجدهم في صلب زمان “الآخرين” ومكانهم، ولكنهم خارجهما. بعد الاستعمار التقليدي، تلعب أمريكا الآن دورها في إبقاء العرب والمسلمين خارج الزمان والمكان لأن ذلك هو ما يسمح لها بإدامة قوتها الأسطورية في العالم المعاصر، ويمنحها فرصة إطالة موقعها الرائد على المستوى العالمي وسط بروز التنين الأصفر الذي بات ينافسها في احتلال موقعها. وهي لا تفعل كل ذلك إلا استجابة لمطالب ناخبيها أي لمواطنيها.
حاول الديموقراطيون مع أوباما تغيير النظرة إلى أمريكا، باعتبارها عدوة الشعوب. لكن وصول الجمهوريين مع ترامب إلى البيت الأبيض أعاد إلى الواجهة أسطورة القوة الأمريكية. ومن بين أهم الإجراءات التي اتخذها إلغاء الاتفاق النووي مع إيران، فعاد التاريخ إلى مجراه القديم في العلاقة معها. وكل ما وقع في عهد أوباما الذي ساهم في إعطاء إيران فسحة للمساهمة في الحرب على الإرهاب من خلال التمدد والتدخل في العراق وسوريا واليمن، صار الآن قاب قوسين أو أدنى من الانتهاء مع اقتراب اقتلاع آخر الجيوب الداعشية في سوريا. وليس ادعاء الانسحاب العسكري الأمريكي من شمال شرق سوريا، أو البطء في تنفيذه بحجة ضمان القضاء النهائي على تنظيم “الدولة” (داعش) سوى الإعلان غير الرسمي عن “نهاية” خلق عدو، و”بداية” اصطناع التصدي لعدو قديم هو إيران.
إنها دورة الزمن الأمريكي ذي الذاكرة القوية والطويلة الأمد. وفي كل دورة زمنية يتم اختيار الرجل المناسب في الوقت المناسب. وما اصطفاء جون بولتون ليجعله ترامب مستشارا للأمن القومي الأمريكي سوى استعادة لزمن القوة الأمريكية. لقد لعب هذا الرجل دورا مهما في الحرب على العراق عام 2003، وهو من القلائل حتى وسط الأمريكيين الذين يقولون إن الحرب على العراق حققت أهدافها، في الوقت الذي بات الكثيرون ممن دعوا إليها، أو شاركوا فيها يعتبرونها خطأ شنيعا. نعم الحرب على العراق حققت أهدافها بالكامل: دمرت بنيات تحتية متطورة، هجرت العراقيين، سرقت الآثار التاريخية، أعدمت العلماء، نشرت الطائفية. أعادت العراق إلى العصور الوسطى كما كان يتوقع مخططوها. وهذا الرجل نفسه، كما ساهم في دخول العراق بذريعة امتلاكه “أسلحة الدمار الشامل”، يتحدث عن تطوير إيران لـ “برنامجها النووي”، ويدعو إلى الحرب عليها، معتبرا الاتفاق النووي الذي كان معها كارثة حقيقية.
تواقت استمرار الحرب على الإرهاب الداعشي مع أحداث الربيع العربي، فاختلط الزمان بالمكان، وظلت البؤرة نفسها. فكان الهدف الضمني تدمير سوريا بعد الانتهاء من العراق، ولكل غايته في القضاء على “الإرهاب”، وقد صارت له رؤوس متعددة، وكل يدعي تحديده بطريقته ويحاربه على سجيته. فكانت النتيجة إرهابات تحارب إرهابات! ومع اختلاط الحابلين بالنابلين: عرب وفرس وترك وكرد، وروم وروس وصهاينة، تفرقت دماء العرب في العراق والشام واليمن وليبيا، وهي ما تزال تسيل إلى اليوم، وقد عاود السودانيون المطالبة بالرحيل، في الوقت الذي تخاض في تونس والمغرب إضرابات لتحقيق مطالب اجتماعية، في عز انصرام حبل الأخوة في الجزيرة العربية وقد التحقت بها أم الدنيا. هذا في الواقع الحقيقي. أما في الواقع الافتراضي فقد صار التقرب إلى الله بلعن الصحابة، وبإبراز تهافت الملات، يعمق الخلافات ويدعو إلى مزيد من الكراهية بين المسلمين.
في هذا الوقت بالذات، وقد بدأ التفاوض حول اليمن، والتلويح بقرب إنهاء الحرب على تنظيم “الدولة”، يتم الشروع في الإعلان عن الحرب على إيران بدعوى برنامجها النووي، ويُسخر العرب ليتبنوا ويسهموا في فكرة الحرب عليها باعتبارها العدو الحقيقي الذي يتهدد المنطقة. لا أحد يشك في أن المقصود ليس دول الخليج، ولكن إسرائيل تحديدا. وليس وراء دعوى الدفاع عن العرب (السنة)، من الحرب الإيرانية (الشيعة) سوى تحقيق المزيد من استنزاف خيرات المنطقة العربية لفائدة أمريكا عبر التخويف من العدو الفارسي الشيعي.
تلك هي “الأجندة”، وهذه هي “خارطة الطريق”: إبقاء العرب والمسلمين خارج الزمان والمكان. إن القضاء على كل من يقول: “لا لإسرائيل”، وإن كان يقولها مازحا أو مدعيا فقط للاستهلاك، هو الفعل الحقيقي للقوة الأمريكية في المنطقة. وليس إعلان القدس عاصمة أبدية لإسرائيل من قبل ترامب سوى تعبير أمريكي صريح على أن ليس لأمريكا من تدافع عنه وتتبنى أطروحته سوى إسرائيل، وأنها ستقلب ظهر المجن لكل من يتعرض لسياستها في المنطقة، وأن من تحميه اليوم، أو تدعي حمايته، إذا لم يشترك معها في حب إسرائيل، وتحقيق “أجندتها” معرض للزوال عاجلا أو آجلا.
من المستفيد من الصراع العربي ـ العربي؟ ومن الرابح في الصراع الإسلامي ـ الإسلامي؟ الكل يعرف أنه أمريكا وإسرائيل فقط، لا سنة ولا شيعة. لكن الخاسر الحقيقي في كل هذه الصراعات هو الشعوب العربية ـ الإسلامية. إذا كانت السياسات الأمريكية والإسرائيلية المتعاقبة، وأيا كان الحزب المنتخب، تولي كل الاعتبار لناخبيها، أي لمواطنيها، فهذا هو السبب الذي يمنحهما إمكانية امتلاك أجندة، وتدقيق خارطة طريق. أما من لا يهتم بشؤون شعبه، فلا يمكنه إلا أن يتوجس منه، ويخطب ود أعدائه. فإلى متى نظل نعيش بلا أجندة ولا خارطة طريق؟
* كاتب مغربي