بلا عنوان!

ها قد جاء اليوم الذي بتنا نتجنب فيه عنونة منشوراتنا الرقمية ومقالاتنا وحتى خواطرنا بعناوينها المباشرة والصريحة، ليس خوفاً من مدارس الرقابة التقليدية التي عشناها في طفولتنا، ولا من أجهزة التعقب التي تابعت آنذاك تفاصيل الحروف والمكالمات واللقاءات والنشاطات والمراسلات بصورة باتت من الماضي، بل تجنباً لظاهرة تتصاعد وقيود تتزاي،. فعهد الحريات الموعودة والصحافة الإلكترونية المتحررة وحواجز الرقابة المندثرة بات مهدداً اليوم، في عصر سبق لي شخصياً وكل من استبشر بشبكات الإعلام الاجتماعي، أن أهّل ورحب به فرحاً بولادته وانطلاقه وسواده.
فتماماً كما غيري من ملايين البشر، كتبنا للتعبير عن فرحنا بثورة المعلوماتية وشجعنا الجميع على الكتابة والتواصل، واستبشرنا مجتمعين بسرعة النشر دونما حواجب ولا موانع لمساحة الانتشار، ودونما ضوابط لما قد ينشر من آراء ومواقف حرة، واحتفينا بانعدام مقصات الرقباء، مع تحذيرنا الدائم من الوجه الآخر لهذا الأمر خاصة فيما يتعلق بتجارة الجنس والجريمة والإسقاط الأمني وغيرها من تحديات العالم الرقمي.
أسعدنا التطبيب والتعلم عن بعد، والتجارة والحكومة الإلكترونية، وهللنا فرحاً بالجيل الأول وحتى الخامس من الاتصالات، مررونا بكامل الخدمات الإلكترونية التي عرفناها.
وقد شكل ازدهار عالمي الاتصالات والمعلوماتية فرصة للنمو المتسارع للشركات، وزيادة قيمها السوقية، وتطور تطبيقات الهواتف المحمولة، واتساع فرص التشغيل والريادة والتطور. وعشنا مع كل لحظة أطلقت فيها خدمة هنا وتقنية هناك، أوقاتاً سعيدة من الفرح.

أقولها اليوم، وبكل ألم، بأن الرهان على الحرية الموعودة لشبكات الإعلام الاجتماعي لم يكن في محله

ولعل تعزيز فرص التطور البشري الهائل ونمو اقتصاد المعرفة، قد شكلا مجتمعين فرحة لا توصف بعد فرحة البشرية بالكهرباء والتلفاز والهاتف الثابت والفاكس والهاتف المحمول وما بينها من تقنيات مختلفة.
ومع هذه النشوة، شعرنا جميعاً بأن قطار التكنولوجيا قد غادر المحطة حتماً، وأننا قد وصلنا نقطة اللاعودة، وأن سباق الشعوب سينتقل من عوالم التسلح والقتل والحروب والاحتلالات، إلى عوالم التقدم والانفتاح وتبادل العلم وتمازج الحضارات والثقافات والبحوث النوعية والعمل المشترك، وسيتحول العالم أيضاً من الانغلاق إلى الانفتاح، ومن التفرد إلى العمل الجماعي، وصولاً إلى ولادة العمل الجماعي والنتاجات الفكرية المشتركة وولادة العملة الرقمية وتوسع دوائر الخدمات الإلكترونية النوعية وصولاً إلى تعدد منصات الإعلام الاجتماعي وتنافسها، حتى اتهم البعض منها بدوره في قلب أنظمة الحكم وتأثيره الذي وصل إلى عتبات منازلنا العربية مع ما سمي بالربيع العربي.
لكنني اليوم ومع اتساع مساحات التضييق الرقمي الذي باتت تنتهجه منصات محددة عبر الإزالة المباشرة لبعض منشورات الرأي والفكر الحر، وحجب المستخدمين لأيام وأشهر، أو إغلاق حسابات شخصية أو رسمية، أو الحد من وصول أكبر عدد من رواد تلك المنصات إلى بعض المنشورات أو الصفحات المقيدة، لأشعر بحجم الغبن الذي تعيشه البشرية قاطبة وحجم الرضوخ للوبيات الضغط السياسي أو المالي أو الأمني.
هذه المنصات التي لطالما تغنت بحرية الرأي ذات يوم إلى أن انتقلت إلى القمع الرقمي اليوم، إنما أصبحت عنواناً واضحاً للتضييق والتقيد والحجب والقرصنة. فلو أن منشوراً ما يخص حساباً خاضعاً للتقييد قد حمل مفردات مفتاحية مثل: ثورة، انتفاضة، القدس، شهيد، أسير، مقاومة… إلخ فإنه حتماً سيخضع للتقييد غير المعلن عبر الحد من وصول الأصدقاء إليه، أو الحجب الكامل أو تعطيل أو حتى إغلاق للحساب لفترة معينة أو دائمة.
ولعل هذا الحال يبرر سبب كتابة هذا المقال بلا عنوان، لأن أيا من العناوين التي تتقاطع ومحتوى هذا المقال لن تمر أبداً بل ربما يخضع المقال برمته لسياسة الحجب أو التعطيل أو الإزالة الكاملة. لذلك أقولها اليوم وبكل ألم بأن الرهان على الحرية الموعودة لشبكات الإعلام الاجتماعي، لم يكن في محله، بل ربما أصبح صادماً للبعض إلى حد الجنون.
لكن الناس لم ولن تنطلي عليها محاولات القص والحجب والتقليم والحد من حرية الرأي، فقد قرر البعض الواسع منها صد هذا الهجوم اللاأخلاقي بالعزوف عن تلك المنصات مما دفع إحداها هذا الأسبوع إلى تسجيل تراجع حاد في مدخولاتها وتناقص ملموس لأعداد المنتسبين إليها وهو ما قد تسبب في خسارة مالية فادحة لثروة مالكها المؤسس.
وبهذا سنكون حتماً مع جيل جديد من البشر الذين سيعرفون كيف يردون الصاع صاعين على كل من تسلح بمقص الرقيب تماماً كما ثار أسلافهم على من امتلك مقصاً مشابهاً إبان استخدام وسائل التقانة التقليدية يوماً ما!
كاتب فلسطيني
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ابو محمد من الشابورة:

    لا اشك انه مقال جيد يشكر عليه الدكتور صيدم

  2. يقول زياد صيدم:

    مقال فى الصميم عانينا جميعا وعن تجربة شخصية فقد تم حظرى ثلاث مرات فى كل مرة شهرا كاملا تعسفا وبلا معنى ..لمجرد معارضة تلميع للتطبيع دون جرح أو تشهير !! انهم يمعنون القيود وعلى حسب اهوائهم ومصالحهم يتحكمون فى منتجاتهم ونحن كمستهلكين فقط نتلقى العقوبات والتحجيم والمنع وتقييد الحريات فى التعبير والراى..ان دولة بحجم الصين قفزت عليهم باختراع منصة باتت الأشهر فهل للعرب هنا جولة ؟؟!!تحايا عطرة ابن العم د. ابا جواد والى الامام..

إشترك في قائمتنا البريدية