تقع بلدة الجاهلية في قضاء الشوف في جبل لبنان وتبعد عن بيروت حوالي 38 كلم. يوجد في البلدة العديد من المعالم الأثرية ومن أهمها جسرها القديم، ومطحنتها التراثية، وكهفها المميز الذي يعود تاريخه إلى أكثر من 400 سنة. ويعتبر نهر الجاهلية من المعالم المميزة على الخريطة السياحية في لبنان، فهو نهر صخري طبيعي من دون رمال ويمتد لمسافة 3 كلم، وتنتشر على ضفافه المقاهي والمنتزهات، والتي أصبحت الواجهة المفضلة للسياحة الداخلية في لبنان.
وفي بلدة الجاهلية، تتناسق الطبيعة نهراً ووادياً وإنساناً ونبوغاً لامعاً، ومعالم البلدة رحلة حميمة في غياهب المجهول من التاريخ ومطاوي الغموض من دفاتر الطبيعة على مسرح الأرض، في جبل فخر الدين ولامارتين وصوامع العباد وخلوات الزهاد وأديرة النسك والآذان في الجوامع، تلطفها عرائس الشعر وخواطر الجهابذة ولمحات العبقرية، ونسيت البلدة نفسها كفتاة لا تكبر رغم السنين وكر الأيام وتبقى في مشوارها اليومي المعتاد على الجسر الذي يجمع صدر الوادي الناهد جبلين يسقسق النهر بينهما متخفياً بين الأشجار بهدوء، كي لا يضبطه القمر بجرم مشهود، وجرمه الأكبر أن يحرن يوماً ما عن الجريان. ومناخها معتدل في مختلف فصول السنة، لا تشتد فيها البرودة شتاء ولا تتساقط فيها الثلوج إلا نادراً.
أحضان الطبيعة
والجاهلية، هي بلدة مثل كلّ بلدات قضاء الشوف العريق في جبل لبنان، تتميّز بوجود العديد من الأنهار والبرك المائية العذبة، تقصد سنوياً من قبل آلاف العائلات والشباب خلال رحلات السير والنزهات في أحضان الطبيعة، لا يمكنك زيارتها من دون تذوّق ألذ الأطعمة والمونة اللبنانية من أيدي سيدات البلدة. هي ملاذ كل إنسان يسعى للشعور بالراحة والطمأنينة بعيداً عن ضجيج المدينة.
ترتفع الجاهلية عن سطح البحر حوالي 450 متراً. ويبلغ عدد سكانها حوالي خمسة آلاف نسمة.
تقع في الطرف الجنوبي الغربي من مناصف ـ الشوف من قضاء الشوف، وتحدها من الشمال قرية بنويتي، ومن الجنوب الغربي داريا، ومن الجنوب الشرقي بلدة غريفة، ومن الشرق بعقلين ومن الغرب الدّبية وعين الحور، يمكن للقادم ان يصلها عن الطريق الرئيسي للدامور-الشوف، ومن منعطف يقع إلى الجهة اليمنى قبل بلدة دميت مروراً بالقرى التالية: سرجبال ووادي الدير وبنويتي والجاهلية، وكان هذا الطريق المعبر الوحيد للوصول إلى القرية. فمنذ ثلاثين سنة شقّ طريق جديد ربط القرية ببلدة بعقلين المجاورة، ومنذ حوالي ثماني سنوات تقريباً شقّ طريق آخر ربط بلدة الجاهلية ببلدة كفرحيم عبر طريق ديردوريت.
لا أحد من أبنائها يعرف لماذا أطلق عليها «الجاهلية» وتكثر الأقاويل وتتعدد الأسباب وفق مصادرها المختلفة، ويقال إن أرض بلدة الجاهلية كانت وعرة تكثر فيها الذئاب، وقد قصدها أحد الرعاة وقتل في أنحائها عددا من الذئاب، فلقّب بأبي ذياب وبنى فيها بيتاً ثمّ تزوّج وأنجب، وقد حمل أولاده كنية أبو ذياب، وهذه العائلة لا تزال إلى يومنا تقطن في الجاهلية التي أطلق عليها الراعي هذا الاسم لأنّها كانت قبله غير معروفة أي «مجهولة».
وهناك أحاديث أخرى تروى، مفادها أن أراضي القرية لم تكن مجهولة، ولكن ما كان مجهولاً هو النهر الذي يجري في أسفل الوادي، وهذا ما اكتشفه الراعي بواسطة كلبه، وبعد اكتشاف النهر، كان من الطبيعي أن يلحق السكان الماء، كونه العنصر الأساسي في قيام التجمعات السكانية، فهبطوا إلى هذا النهر وقامت مع الوقت قرية جديدة أخذت اسم الجاهلية.
وترجَّح مصادر تاريخية أخرى أنّ اسم البلدة يعود إلى كلمة المجاهل التي تعني المغاور والكهوف، ينطبق هذا الأمر على الجاهلية لأنّها تحتوي على الكثير من الكهوف والمغاور القريبة من أنهارها وينابيعها الغزيرة.
المعالم الأثرية
الآثار في بلدة الجاهلية قليلة لكنّها غنية وذات قيمة مهمة، ومن أهم المعالم الأثرية البيوت التراثية التي يتعدّى عمرها 200 عام وتتميّز بالعقود والأحجار القديمة.
أما جسر الجاهلية الذي يعدّ من أبرز المعالم وأقدمها فيعود إلى الحقبة العثمانية المملوكية.
كما يمكن إيجاد مطحنة الجاهلية الأثرية والمعصرة وكانتا من أهم الأمور في البلدة من أجل عصر العنب وطحن الحبوب والقمح.
ومن أبرز معالم بلدة الجاهلية التاريخية جسرٌ يعرف بالجسر الروماني أو جسر عين الضيعة، بقنطرته، المجهول تاريخ بنائه، لكنه كان جسر العبور بين الشوف والساحل اللبناني وخاصة صيدا، وهو الممر الرئيسي لوصول مزارعي البلدة إلى أراضيهم.
واشتهرت بنهرها الذي يجري في أسفل الوادي يرفد نهر الدامور، تجري مياهه في أملاك عامة في البلدة ولمسافة 3 كلم تقريباً، وهو ينبع من نبع الحمام ونبع النهري في أسفل منطقة جبلية، تحيطها بلدات المطلة وعانوت وغريفة، ويحفل مجراه ببرك جميلة، نذكر منها: بركة عين الياسمين، بركة حمد، بركة تياب السبع، بركة الطربوش وغيرها…. يبلغ عمق بعضها أكثر من عشرين متراً، وهي صالحة للسباحة. ويمتاز النهر بغزارة مياهه في الشتاء، وبدوامه حيث مياهه تبقى جارية طوال العام، ويشكل مقصداً للمتنزهين والسياح وخاصة في ضواحي بيروت، ومن جميع أقطار العالم. ويعتبر هذا النهر ركيزة الحياة الزراعية في القرية، لأن مياهه تروي معظم أراضيها وتجعلها صالحة لزراعة مختلف أنواع الخضار والأشجار المثمرة.
وتمتاز الجاهلية بالألفة والمحبة وطيبة أهل القرية، والروابط العائلية المتينة والمبنية على التعاون والانفتاح. والحديث عن جمال ومعالم بلدة الجاهلية، يبعث في النفس الأمل، فيشد إلى الطبيعة العروس التي تتبرج بالجداول وتتحلى بالغابات والثمار وتتزين بالبرك والعصافير وتتشح بالضباب. سكان الجاهلية معظمهم يعمل في قطاع الزراعة، ويعتمد على المواسم كمصدر رزق لهم، وأهم هذه المزروعات الأشجار المثمرة كالزيتون، والخضر والفواكه كالفاصوليا، والجنارك. وهناك الكثير من شبابها يعتمدون المهن الحرة، ويشغلون وظائف عديدة في العاصمة بيروت وضواحيها.
وسجلت الجاهلية عبر التاريخ أروع المواقف الوطنية والمواجهات مع الاحتلال الفرنسي، وبعض من رجال القرية شارك في الثورة السورية الكبرى عام 1925عندما انطلقت شرارتها من جبل العرب في سوريا ضد الانتداب الفرنسي، كما شاركوا في ثورة العام 1936 في فلسطين وبقية الانتفاضات لمواجهة الانتداب البريطاني والعصابات الصهيونية آنذاك.
متحف كهف الفنون
منذ ثلاثين سنة بدأ الفنان غاندي بو ذياب، بتجميع أدوات الزراعة القديمة وقام بنحت ورسم الكثير من الروائع بمواد طبيعية مثل شمع العسل والتبن والتراب والبرونز وغيرها من المواد أيضاً، جمعها في متحف كهف الفنون في بلدة الجاهلية.
وبتلقائية وسجية وجد بو ذياب نفسه يستكشف مغاور وكهوفاً وأقبية ضائعة في باطن الأرض ووسط الجبال، وأخذت يداه تجمعان كلّ ما يمتّ للتراث بصلة لا بل كل ما يرمز إلى رائحة الأرض والطبيعة على مدى سنين وسنين، حتى تكوّنت لديه «ثروة» من القطع الحرفية والأثرية النادرة، زاد عليها الكثير من «شغل بنات أفكاره» من لوحات وفسيفساء وقصائد شعرية على ورق البردي المصقول.
كما أراد الفنّان غاندي من خلال التماثيل والموزاييك واللوحات تجسيد مشاهد القرية التراثية التي طبعت في ذاكرته منذ الصغر حتى يومنا هذا. هدف هذه القرية هو أن يستطيع الزائر أن يقضي يوماً كاملاً بدايةً مع تذوق الصاج في الطبيعة، زيارة الكهف والتعرف على مكنوناته، تعلّم فنون النحت والرسم بالمواد الطبيعية، السير في الطبيعة وهايكنغ ومن ثم الذهاب إلى منطقة التخييم ليلاً وإشعال النار والاستماع إلى الأمسيات الشعرية.
ومتحف كهف الفنون في بلدة الجاهلية، عبارة عن أقبية من العقد يعود تاريخ بناءها إلى العهد العثماني، وألحق فيه أجنحة خاصة بالفسيفساء وبعض الأجنحة تضم أسقفا من الوزال، وجدرانا من لبن وتراب، وحديقة بيئية تراثية.
مقتنيات الكهف، هي قناديل، وبسط، ومحادل، وأجران، وبعض هذه الأدوات تم الحصول عليها من أهالي البلدة. وفي كهف الفنون تمت المحافظة على هذه المقتنيات وصيانتها، نظرا لأهميتها التاريخية والتراثية، ونظرا لأهمية المكان الذي وضعت فيه، والذي تم بناؤه في الحقبة العثمانية أي قبل أكثر من أربعمئة عام، وكان الكهف يستخدم لعقد اجتماعات سرية بين المتصرفية ووجهاء المنطقة.
تضم أقبية المتحف، رسومات زيتية لأهل القرية وطرائق عيشهم البسيط وتعلقهم بالأرض والجذور والتاريخ – متحف كهف الفنون مؤلف من طابقين وحديقة تراثية تضم جذوعا وأحجارا وطاولات صخرية ونباتات وأشجارا فريدة مميزة وطبيعة خلابة إضافة إلى الأغصان اليابسة التي شكلتها الطبيعة بلمسة سحرية.
ينظم كهف الفنون أنشطة ثقافية وفنية وبيئية ورياضية وفكرية، ونشاطات غذائية تراثية وإبداعات قروية، كذلك داخل الكهف، تنظم ورش للنحت وصناعة الهياكل والمجسمات من الطين.
وأدرجت وزارة السياحة اللبنانية متحف كهف الفنون على الخريطة السياحية، وأيضا وزارة التربية اللبنانية عممت على المدارس والجامعات زيارة هذا المعلم التراثي والأثري.
قرار تحويل هذا الكهف إلى متحف جاء بعد وقف الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) وكانت خطوة للتعبير عن التمسك بالسلام والتعايش.
وبهدف المحافظة على الطراز اللبناني التراثي والفولكلوري تشكلت في بلدة الجاهلية لجنة فنية تابعة لجمعية الفنون التي تنظّم نشاطات الكهف الفنّي. تعمل اللجنة على تأسيس مجموعات دبكة ورقص تراثي أثناء إحياء الأعراس والحفلات داخل البلدة وخارجها أيضاً لتشجيع الناس على التمسك بالرقص التراثي بعيداً عن الرقص المعاصر، وتم تأسيس جمعية متحف كهف الفنون التي تعنى بالشأن الثقافي والتراثي والفكري، وأهمية هذه الجمعية كما يقول مؤسسها غاندي بو ذياب «أنها تحافظ على هذه الأجواء بدمج الحضارات» مضيفا «وتعمل الجمعية على إنشاء قرية كهف الفنون السياحية».
ويؤكد بو ذياب: «لم يكن هدفي تكوين متحف تراثي، فالمكان فرض نفسه وهو يعود لأجدادنا. وبما أنني متعلّق بالماضي وبالطبيعة، فقد رمّمت الكهوف وجعلتها لوحات تراثية تعج بكلّ ما يمت إلى الضيعة القديمة بصلة. وهدفي لم يكن مادياً على الإطلاق بل ترسيخ الوعي لدى أجيالنا والتعريف بالماضي ليس فقط من خلال كتب التاريخ، بل من خلال الرؤية المجردة. وقد بدأت علاقتي بالأرض منذ صغري، فعندما كنت في السادسة من عمري طلبت مني المعلّمة رسم مشهد مطبوع في ذاكرتنا، فرسمت رجلاً ينقل النفايات على بغلة في قريتنا، فلفت تعلّقي بالأرض انتباه المعلّمة وتوقعت لي النجاح».
قبل ولوج كهف الفنون يستريح الزائر في الحديقة البيئية التي شيّدت على مدخله بحيث تنتشر فيها الجذور الضخمة للأشجار كتماثيل مع نصب صخرية منها ما يشبه الجمال ومنها ما يحاكي حيوانات ضخمة أخرى في شكله الطبيعي بين النباتات النادرة، أما الملفت فهي المقاعد المنفّذة بجذوع وأغصان الأشجار المتروكة على هيئتها الأصلية من دون تشذيب وتفريع ما أضفى عليها رونقا وفرادة.
ويختم بو ذياب قائلا:»جمال وروعة لا تنتهي من تماثيل وقطع فنية نادرة».
إلى ذلك، تعجّ أقبية «كهف الفنون» بمفردات الحياة القديمة البسيطة مثل: وجاق القاطرجي الحطبيّ، إلى جانب المكواة القديمة التي تعمل على الفحم، فضلاً عن قناديل الكاز. فيما تلفت أنظار السائح والزائر تلك الثريا التي نفّذها بو ذياب بواسطة أغصان و«كروز» الصنوبر، وأيضاً ذلك الجدي الذي جسّده بالقطن بعد زراعته في حديقة الكهوف، فضلاً عن الآلات الموسيقية وأشكال الحيوانات والطيور التي استخرجها من الأشجار على هيئتها الأساسية مع بعض التعديلات الطفيفة في تفاصيلها، هذا إضافة إلى عظام حيوانات جسدّت على أشكال معينة، وقفران النحل و«الدبابير» التي اتخذت اشكالاً طبيعية معينة، وكذلك أزهار عبّاد الشمس التي نسقّت بطريقة مميزة.
أدوات الزراعة القديمة
«الجاروشة» تجاور محمصة البن القديمة، وتفترشان أبسطة قديمة مصنوعة من الصوف السميك إلى جانب المحدلة وجرن «الكبة» الحجري والمذياع القديم و«الفونوغراف» وماكنة الخياطة القديمة و«البوابير» الكازية مع «دستات» وطناجر و«كركات» ماء الزهر، وقربها أدوات الزراعة القديمة من المناجل والبلطات والغربال والنير والمحراث الخشبي. وخصّصت خزانة لعرض الطرابيش التقليدية، بينما أبدعت «الشيخة» أم غاندي بصنع تمثالين لشيخ دين معمّر وزوجته في دلالة على اللباس التقليدي في جبل لبنان وهما يفترشان المدخل ويرحبان بالزوّار. وأخيراً يزدان المكان بلوحات الموزاييك التي نفّذها غاندي بنفسه، وهي فنّ بدأ مع الإنسان القديم ووجد في كهوفه، ومن الطبيعي أن يتجسّد في «كهف الفن».
ومن زوّار هذا المعلم السياحي زعماء من لبنانيين ووزراء وبعثات دبلوماسية عربية وأجنبية، للتأكيد على ضرورة الحفاظ عليه ودعمه مادياً ومعنوياً واستمرار صيانته وحماية مقتنياته وتنوعها والتي أصبحت غالبيتها على طريق الزوال.
والجاهلية على بعد كيلومترات قليلة من مدينة الدامور التاريخية، لما تحتضنه من مواقع معالم أثرية رائعة، وهذا ما يعطي أهمية لموقعها الجغرافي.
والبلدة الجبلية التي تمتاز بطبيعة غاية في الروعة والجمال والهدوء، سكانها على علم ودراية بمكانتها وأهميتها السياحية، فكل بقعة فيها تنافس الأخرى وتتحداها، الجبل وارتفاعه الشاهق يتزين بالأعشاب والزرع الأخضر وجبال أخرى صخرية بلونها الأصفر الحاد، والغابات الكثيفة على جنبات الطريق، والسماء صافية زرقاء، بالإضافة إلى نهرها ومتحفها وصخورها التي تمنح المنطقة جمالا خاصا.
وتعدّ المونة الريفية البلدية في الجاهلية من ركائز البيت وعواميده الأساسية، فالبيت الذي يخلو من المونة هو بيت فارغ بالكامل لا قيمة له. تقوم سيدات البلدة باستغلال المزروعات لتحضير ألذ أنواع المونة اللبنانية. تتمثّل هذه المونة بمربّى البندورة الذي يطبخ على الحطب يدوياً من دون الآلات الحديثة، والمكبوسات، والمكدوس، والكشك الذي يستغرق مدة أكثر من خلال تعريضه لضوء الشمس على أسطح المنازل.
الجولة بين الصخور ومحميات بلدة الجاهلية متعة جمالية نادرة، ومبانيها القديمة تروي حضارات عريقة مرت على هذه البلدة، وتمت المحافظة على تراثها جيلا بعد جيل، فكل معالم البلدة تروي حكايات سنوات طويلة من التحديات الطبيعية والإنسانية التي تعرضت لها، جعلت من البلدة مقصدا للباحثين والسائحين العرب والأجانب والراغبين بالتمتع بجمال الطبيعة والتدقيق بنتوآت الصخور.