في نيسان /ابريل الماضي أحيا اللبنانيون عامة وسكان بلدة قانا في جنوب لبنان خاصة، الذكرى السنوية لمجزرة قانا، التي ارتكبتها الطائرات الحربية الإسرائيلية عام 1996 واستهدفت الأطفال وحشودا من المدنيين اللبنانيين داخل مقر لقوات الطوارئ الدولية في قانا لجأوا إليه لحماية أنفسهم من القصف الاسرائيلي.
وتبعد بلدة قانا أو قانا الجليل 95 كيلومترا جنوب العاصمة اللبنانية بيروت، و14 كلم شرق مدينة صور، جنوب لبنان، ويبلغ عدد سكانها حوالي 20 الف نسمة، وترتفع 300 متر عن سطح البحر على سلسلة من الروابي الصغيرة. يقوم على أعلاها معبد الجليل، الذي تنتسب له البلدة. وفي ساحة المعبد مجموعة أجران حجرية.
وقانا بلدة لبنانية، تشتهر بمعالمها الأثرية والنقوش الصخرية والمغاور والمعابد والتماثيل التي يعود تاريخها إلى بداية عهد الديانة المسيحية.
ووصف البلدة الباحث فيكتور غيران وهو مفكر وعالم آثار فرنسي زار قانا الجليل أواخر القرن الثامن عشر، قائلاً: «إن قانا تتألف من ثلاثة أحياء، أكبرها وأقدمها يدعى قانا الفوقا وهو على قمة التلة، استعملت حجارة بيوته القديمة لبناء بيوت جديدة في الحيين الآخرين. ويوجد على قمته مقام باسم النبي الجليل وفي أسفل التلة يوجد حي المسيحيين وهم من الروم الكاثوليك وعددهم 400 نسمة وكنيستهم على اسم مار يوسف وتجاورها كنيسة صغيرة للبروتستانت. وفي آخر المنحدر بين الكروم توجد عين القسيس».
ويرى الباحث غيران ان هذه البلدة هي المذكورة في أرض أشير قرب صور على أنها قانا الانجيل، ويستند إلى وثائق تاريخية وكتابات للمؤرخ اليوناني أوزابيوس من كتابه «التاريخ الكنسي» يعود إلى العام 325م تشير إلى ان قانا الجليل تبعد 50 كلم عن مدينة صيدا اللبنانية وتقع في وادي عاشور (نسبة إلى الإله آشور الكنعاني). إضافة إلى كتابات للقديس جيروم باللاتينية يذكر فيها ان قانا الجليل تقع جنوب شرقي منطقة صيدا. ويؤكد غيران ان النصين يعنيان هذا الموقع، ثم يتابع قائلاً: «وحتى في يومنا هذا فإن اسم النبي الجليل الذي يطلق على الولي في قانا الفوقا يبدو كأثر من قانا الجليل، الاسم الذي تحمله قانا الانجيل».
وهكذا عندما عاين غيران البلدة اللبنانية لم يستبعدها من المنافسة التاريخية، بل كان هو أول من نبّه إليها لتوافق موقعها مع نص أوزابيوس، وتوافق اسمها مع اسم قانا الانجيل.
ولدى القيام بأعمال الجرف في تلة الجليل قرب قبر النبي الجليل في بلدة قانا اللبنانية، تمّ اكتشاف الموقع الذي حدثت به المعجزة المشهورة في عرس قانا الجليل، وتم العثور على الأجران الستّة ولكن تكسّر ثلاثةٌ منها أثناء الجرف والثلاثة أجران الباقية تم نقلها إلى أماكن أخرى.
وشمال قانا اكتشفت المغارة التي وصفت بالمباركة وعليها نقوش للسيد المسيح وتلاميذه الاثني عشر. ونقش آخر منفرد على الأغلب أنه للسيّدة مريم.
وتبعد هذه المغارة مسافة كيلومتر واحد تقريبًا شمال مركز بلدة قانا الجليل باتجاه بلدة حناوية قضاء صور، وخلف مستشفى شهداء مجزرة قانا الجليل، من جهة الشرق. وتوجد تماثيل كبيرة منقوشة على الجدران الصخرية قرب هذه المغارة.
وتمثّل هذه المنحوتات السيّد المسيح وتلاميذه، وهناك تمثال منفرد لامرأةٍ يطلق البعض على هذا التمثال إسم «العروسة» لكن الرأي الغالب يؤكد أنه للسيدة مريم العذراء.
ولمّا كان عمر هذه التماثيل يفوق الألفي سنة من الطبيعي أن تكون قد تعرّضت للتغيرات بفعل العوامل الطبيعية.
أما بقية الآثار الخاصة بالمغارة والنقوش الحجرية فتقع على منحدر صخري في الغرب الشمالي للبلدة، وهو منعزل وبعيد عن الطرقات العامة، ولا أثر فيه لبناء أو عمران أو حتى لقبور. والعادة في مناطق لبنان وفلسطين كانت تقضي بنقش أشخاص الموتى المدفونين بالقرب من هذه الصخور عليها. إلاّ أنه في قانا الجليل، وُجِدَت نقوش صخرية دون أن يكون بقربها ما أكّد رمزيتها. وهناك صخرة كبيرة نقش عليها 12 شخصًا، وشخص كبير في الوسط نسبة إلى تلاميذ المسيح الاثني عشر يتوسطّهم المسيح.
عرس قانا
حسب إنجيل يوحنا فقد كان يسوع ومريم في قانا الجليل حيث أقيم العرس. ولما نفد الخمر حوّل يسوع المسيح 6 أجران من المياه إلى خمر وكانت تلك أولى آياته على الأرض.
وكشفت الحفريات في بلدة قانا عن شبكة من الأنفاق التي كانت تستخدم في العبادة المسيحية إذ إنها تحمل علامات الصلبان وعبارات باللغة اليونانية.
وهناك أيضا مذبح وبقايا سفينة بالإضافة إلى غرفة تتسع لخمسة أشخاص تقريبًا و6 أجران حجرية تمثّل تلك التي امتلأت نبيذًا في عرس قانا كما ذكر سابقا. وفقا للدكتور توم مكولوغ الذي أشرف على الحفريات في الموقع، كان هناك ثلاثة مواقع أخرى ذات مصداقية لتكون قانا المذكورة في الكتاب المقدس.
الدكتور توم، ركّز على اكتشاف فريق الباحثين كهفًا كبيرًا تم استخدامه من قبل الحجاج المسيحيين الذين جاءوا لتبجيل معجزة تحويل الماء إلى خمر.
وأضاف أن هذا الكهف كان يستخدم في أواخر القرن الخامس أو أوائل القرن السادس واستمر استخدامه من قبل الحجاج حتى القرن الثاني عشر «النصوص التي حصلنا عليها والتي تعود إلى هذه الفترة وتصف ما فعله الحجاج وشاهدوه عندما وصلوا إلى قانا الجليل تتطابق بشكل كبير مع ما اكتشفناه في الكهف حيث كان يتجمع المسيحيون».
التماثيل الصخرية:
الأيقونات الأولى
قرب المغارة منحوتات وتماثيل كبيرة منقوشة على الجدران الصخرية وهي المحاولات الأولى في مجال الأيقونات المسيحية. وتمثّل المنحوتات أشخاصاً في وضع تعبّد وتواضع إما بوضع اليدين على الصدر، أو برفعهما بحركة توسّل خشوعي. وعلى طرف إحدى الصخور تمثال محفور لامرأة تتوكأ على عصا، وهي نحتت بتقنية ملفتة حيث تبدو ثيابها واضحة بطياتها وطرازها وما فيها من حشمة، ويطلق الأهالي على هذا التمثال تسمية العروس. ويبدو من نمط ثوبها وطرازه أنها من العهد الروماني الذي عاصر انطلاقة المسيحية الأولى.
وعلى صخرة أمامية منفردة نحتت تماثيل متلاصقة تمثل السيد المسيح يتوسط تلاميذه الاثني عشر وله هالة على رأسه، ويبدو أكبر من التماثيل التي عن يمينه وعن يساره للدلالة على مكانته المميزة. مع مرور الزمن أثرت العوامل الطبيعية في التماثيل ولم يعد بادياً من معالم الرؤوس إلاّ الأشكال وحسب.
نقوش أخرى منحوتة تمثّل ميلاد الطفل يسوع في المهد، وصفحة من الكتاب المقدس، وعرس قانا الجليل، إضافة إلى منحوتات تمثل قيامة لعازر من الموت، والعشاء السري، وصلاة للتلامذة الاثني عشر، والعذراء تحمل طفلها، ورسم مثلث يرجح انه يرمز للثالوث الأقدس.
أجران الخمر ومعجزة أخرى
أمام المقام بئر عميقة وواسعة يصل عمقها إلى حوالي 20 متراً، وحوله ردميات تشير إلى انه كان بناءً واسعاً ذا ممرات متعددة يصف بعضها المسنون الذين كانوا يحفرون في باحة المعبد ليدفنوا موتاهم في جواره تبرّكاً بما له من حرمة وقداسة.
لذلك يحفظ أهل قانا اللبنانية معتقدات قديمة تؤكد الشخصية التاريخية لبلدتهم ودورها في نشأة المسيحية، باعتبارها المكان الذي جرت فيه أولى معجزات السيد المسيح في حفلة العرس.
أما الحجة الأولى فتقول إن البلدة هي الوحيدة التي تحمل الاسم الكامل «قانا الجليل» كما ورد في انجيل يوحنا. وهذا الاسم ليس من انتمائها إلى منطقة الجليل كأرض جغرافية كما هو مألوف، وانما لوجود ولي له مقام مقدس فوق مرتفع في البلدة باسم النبي الجليل، وهو مقام قديم جداً سبق وجوده انتشار المسيحية في المنطقة.
وفي المنطقة عموماً والبلدة خصوصاً تتجلى الاستمرارية التاريخية للتقاليد والمعتقدات بعدة أشكال، ومنها، وجود عشرات المزارات التي لا تزال محافظة على قدسيتها وتسمياتها، منذ عهود الكنعانيين، كما أن القرى والمواقع الأثرية وعيون المياه هي في معظمها كنعانية التسمية.
ومن تقاليد بلدة قانا التي يتناقلها الأهالي وجود أشجار متميزة في قريتهم يؤمنون بأنها نبتت حيث مرّ يسوع مع تلامذته، وهم يتبركون بأوراق هذه الأشجار ويتخذون منها دواء شافياً لأمراضهم، ويتحدثون عن معجزات حصلت بعد المعالجة بواسطتها.
أما المغارة التي تقع في البرية في منطقة الخشنة والتي يقصدها الأهالي للتبرّك، يستعملون المياه النازّلة من داخلها لشفاء المرضعات اللواتي نضب حليبهن جميعها تشكل دلائل قدسية معالم البلدة. وفي القديم كانت العادة في البلدة أن تقدّم النذور إلى هذا الموقع أيام الخميس والجمعة فقط من كل أسبوع. أما مدلولات هذه العادة فغامضة حتى اليوم.
ويقال ان المسيحيين الأوائل لجأوا إلى هذه المغارة هرباً من اضطهاد اليهود والرومان في تلك الأيام، وخوفاً من أن يمحى تاريخهم قاموا بنحت الصخور كي تظلّ كتاباً ناطقاً يروي سيرتهم ويخبّر عن إلههم.
وهناك تفسير آخر تحدّث عنه أوزابيوس حين وصف حالة المسيحيين الأوائل الذين «يتخلون عن ممتلكاتهم لأقاربهم ويودعون كل اهتمامات الحياة ويخرجون خارج الأسوار، فيجعلون مقراتهم في الصحارى والبراري». وهكذا كانت حياة البرية والعزلة مألوفة لدى المسيحيين الأوائل، لذا لم يكن وجودهم في البرية وجوداً طارئاً وعابراً، بل كانوا يقيمون فيها، ومثل هذه الإقامة مكّنتهم من إنجاز المحفورات الصخرية إلى جانب المغارة الصالحة للإقامة والاحتماء من عوامل الطبيعة ومن الأعداء.
وهذا التقليد في العيش في البرية نجده في حياة المسيح أيضاً كما تذكرها الأناجيل، حيث نرى في انجيل لوقا: «ولما رجع الرسل أخبروه بجميع ما صنعوا فأخذهم وانصرف إلى موضع قفر على انفراد عند مدينة تدعى بيت صيدا». وهذا النص يجعلنا نرجح ان يسوع خلال تجوله في تخوم صيدا وصور، كان يألف هذا الموقع مع تلامذته، ولهذا داوم أتباعه على ارتياده بعده. وشاؤوا تخليد ذلك بنقوش على الصخور التي تحمل ملامح بعض البارزين من رسل المسيحية الأولين.
تعد بلدة قانا في جنوب لبنان واحدة من أروع المعالم التاريخية التي تروي تاريخ عريق منذ فجر التاريخ وحتى الآن، فمن المغارة التي اتخذها السيد المسيح مقرا لإقامته والتبشير برسالته السماوية، إلى مقر الأمم المتحدة الذي استهدفته الطائرات الحربية الإسرائيلية خلال حرب عناقيد الغضب عام 1996 معالم منثورة على مساحة البلدة تروي حكاياتها مع الماضي والحاضر.