دائماً ما يُضمّن السيناريست مدحت العدل أفلامه الكوميدية رسائل إنسانية تخرج بها عن الإطار الهزلي، لتأخذ أبعاداً أخرى، حيث يسعى العدل جاهداً إلى تعميق الفكرة السطحية كي تؤتي الكوميديا ثمارها المرجوة، فالضحك وحده ليس هو الهدف المنشود في كل الموضوعات، وهذا يتضح في الكثير من الأفلام التي قدم فيها الكاتب بطلاً شعبياً بسيطاً من قلب الحارة المصرية.
ولأن محمد هنيدي كممثل كان في كثير من الفترات الورقة الرابحة في شباك التذاكر، استمر لعدة سنوات البطل الثابت في أفلام مدحت العدل، كاتباً درامياً وشاعراً غنائياً، وقد نجحت مُعظم التجارب التي جمعت بين الطرفين، وبرزت من بينها أفلام مهمة سجلت في عداد الإيرادات أرقاماً بملايين الجنيهات، ولعل الأشهر منها فيلما «صعيدي في الجامعة الأمريكية» و»همام في أمستردام».
وقد شجع نجاح الفيلمين على كتابة فيلم آخر هو «بلية ودماغه العالية» وفي الحقيقية أن الأخير لم يصادف الترحيب الجماهيري نفسه، ولم يُحقق المتوقع من الأرباح، لأن الأحداث لم تكن كوميدية بامتياز، فقد دارت الفكرة الأساسية حول مأساة أولاد الشوارع، والإهمال الجسيم الذي يعانونه من المجتمع، فضلاً عن الأزمات والكوارث التي تلحق بالبعض منهم داخل مؤسسات الإصلاح الاجتماعي، نتيجة الفوضى وعدم العناية الكافية بصحتهم النفسية والبدنية. تلك هي النقطة الجوهرية التي ركز عليها الفيلم، الذي شارك فيه الفنان الراحل سعيد صالح محمد هنيدي البطولة مع غادة عادل وأحمد زاهر ومحمد شرف وهالة فاخر، فرغم المحتوى الدرامي المهم، وحالة الاجتهاد التي بدا عليها جميع الأبطال، لم يُكتب لهذا الفيلم الإنصاف في أي من مراحل عرضه، فلم يُعاد تقييمه جماهيرياً، إلا بعد بيعه للمحطات الفضائية، وتكرار مشاهدته على مدار الأسبوع في أكثر من نافذة إعلامية. وهذا يؤكد أهمية العرض الثاني والثالث للفيلم السينمائي مهما كان الاختلاف على المستوى الفني، فتكرار المُشاهدة والتدقيق في التفاصيل والمراجعة المتأنية، تكشف حتماً جوانب إيجابية مهمة من الناحية الموضوعية والتقنية، وتفتق الأذهان عن مرامي الحدوتة البسيطة، كما هو في فيلم بلية، حيث مزج الكوميديا بالمُفردات الإنسانية المُرتبطة بمشاكل الأطفال المشردين، دون التوظيف الساخر، يعد في حد ذاته انتصاراً لقيمة الإنسان وقيمة الطفل ومعنى الطفولة، واحتراماً مُقدراً لحقوق الفئة المُضطهدة والمظلومة من أبناء الشعب الصغار.
لقد نجح الفيلم رغم بساطته المُتناهية، في تحديد إطار الأزمة المُجتمعية المُركبة من غير خطابة أو وعظ أو إرشاد، أو أي من أساليب التوعية المُباشرة التي تتسبب عادة في إفساد العمل الفني، وضياع تأثيره بالمُبالغة في توصيل الرسالة الضمنية وتحويلها إلى درس تعليمي فاقد للمصداقية والحرارة، وهذا ما ابتعد عنه المخرج نادر جلال في المُعالجة الخاصة بفيلم «بلية ودماغه العالية «، إذ ركز بشكل كبير على التداعي الطبيعي للانفعالات الإنسانية، ودفع بالإفيهات الكوميدية في مواضعها الصحيحة كمُعززات للحالة الدرامية، كي لا ينقلب الموضوع إلى بكائية وتأخذ الرؤية الفنية طابعاً تراجيدياً زاعقاً ومُنفراً. كما أن من دواعي تميز الفيلم المظلوم أنه لم يُهمل الجانب الرومانسي بين البطل عماد أو بليه ودنيا الفتاة الجميلة (غادة عادل) التي ارتبطت بعلاقة عاطفية قوية مع الشخص البسيط ابن الحارة، رغم الفارق الاجتماعي الطبقي بينهما، وذلك لقناعتها بأن الصفات الحسنة المتوافرة فيه تعوض ما ينقصه وتملأ الفراغ الذي تعانيه هي في حياة البذخ والثراء والوجاهة الاجتماعية الكاذبة وهذه أيضاً رسالة أخرى إضافية.
هذه المُعالجة وإن كان فيها بعض الإفراط في التفاؤل من حيث القُدرة السريعة على تغيير الواقع البائس لأطفال الشوارع، لا يُمكن اعتبار حيثياتها افتراضاً مُستحيلاً، لأن شخصية بليه المُمثلة لآلاف النماذج الواقعية الشبيهة، لديها من الصلابة ما يُمكنها من مجابهة المُشكلات بجدارة، فالشخصية المصرية الشعبية اعتادت الأزمات وتعرف آلية الخروج منها، وهي مُحتفظة تماماً بكامل خصائصها وصفاتها وسماتها الإيجابية.
وهذا هو مربط الفرس في الحكاية الكوميدية بمضامينها وأبعادها، كما كتبها مدحت العدل بشاعرية قبل فترة طويلة وخانه الحظ في أن يكون لها الصدى نفسه الذي تحقق لفيلم «صعيدي في الجامعة الأمريكية» ويدفعه الآن لإتمام كتابة الجزء الثاني من الفيلم، بعد مرور ربع قرن على إنتاج الجزء الأول وتألق أبطاله هنيدي والسقا وطارق لطفي ومنى زكي وغاده عادل وهاني رمزي.
كاتب مصري