هنالك منطق معروف يحكم العلاقة التحالفية الوطيدة بين الولايات المتحدة ودولة الاحتلال الإسرائيلي بصفة عامة، اكتسب مضامين إضافية على ضوء مشاركة الولايات المتحدة في حرب الإبادة الإسرائيلية الراهنة ضدّ قطاع غزة، بصفة خاصة. ويحدث بين حين وآخر أن المصالح القومية الأمريكية، واعتبارات داخلية حاسمة مثل موسم الانتخابات الرئاسية، تتدخل في هذه المعادلة الراسخة على نحو جزئي، فيمارس البيت الأبيض ذلك الطراز «الناعم» من الضغوط على الحكومات الإسرائيلية، ولكن يستوي أن يسفر هذا الخيار عن نتيجة ملموسة أو ينتهي إلى سلال المهملات.
ذلك تشخيص يصح أن ينطبق على الجولة التاسعة لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، ويمكن تلخيصه بالمعادلة التالية: واشنطن، أي الرئيس الأمريكي جو بايدن والمرشحة الرئاسية كامالا هاريس والسواد الأعظم من مبعوثي الرئاسة ورجال الإدارة وغالبية ناخبي الحزب الديمقراطي، يأملون من رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو الاستجابة إلى بعض المطالب «الناعمة» والموافقة على اتفاق مع المقاومة الفلسطينية طبقاً لمقترحات الرئاسة الأمريكية ذاتها، ويفضّل أن يتمّ ذلك خلال المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي، وبما يخدم المعركة مع الخصم اللدود والمرشح الجمهوري دونالد ترامب.
من جانبه يواصل نتنياهو المماطلة والتسويف والتعنت، فيعلن الالتزام بإبرام اتفاق حول الأسرى ووقف إطلاق النار، ويدفع بلينكن إلى الإعلان عن أجواء «إيجابية» سادت 3 ساعات من اجتماعهما، وهذا ما يتلقفه الأخير فيسارع إلى إلقاء اللائمة على «حماس» التي ترفض قبول اتفاق تُطلق عليه مرة تسمية «التهدئة» ومرة أخرى «تقليص الفجوات». لكن حقيقة سلوك نتنياهو لا يصعب العثور عليها في ما يسربه إلى الصحافة الإسرائيلية ذاتها بعض أعضاء الوفد الإسرائيلي المفاوض، لجهة إصرار نتنياهو على تقليص صلاحيات المفاوضين وفي إضافة المزيد من التفاصيل التي يدرك أنها خطوط حمراء لدى المقاومة الفلسطينية، بعد أكثر من 300 يوم على جرائم الحرب والإبادة ونحو 40 ألف شهيد معظمهم من الأطفال والنساء.
وفي المقابل لم يعد خافياً على العالم بأسره، وليس فقط على البيت الأبيض ورجالاته وصاحب الجولة التاسعة شخصياً، أن النقاط العالقة التي يتصلب نتنياهو حيالها تخص ملفات حاسمة مثل وقف إطلاق النار وانسحاب الاحتلال خارج أراضي القطاع وعودة المهجرين إلى ديارهم وإعادة إعمار المدن والبلدات والمخيمات في سائر غزة، وكل هذا بمعزل عن عُقَد مستعصية مثل تبادل الأسرى والانسحاب من محور فيلادلفيا ومعبر رفح والتوصل إلى حلّ لإشكاليات محور نتساريم.
كذلك بات معلوماً أن المقاومة الفلسطينية تعاملت بإيجابية مع الوساطتين القطرية والمصرية منذ أيار/ مايو، وتقبلت مبادرة بايدن، وتعاطت بإيجابية مع مقترحات أخرى عربية وأمريكية، فكانت الردود الإسرائيلية تتخذ أكثر من وجهة واحدة للتعطيل والتصعيد، كما في اجتياح رفح تارة، أو اغتيال إسماعيل هنية تارة أخرى، وبين هذا وذاك الإمعان في ارتكاب المجازر بحق المدنيين في مراكز الإيواء والمدارس.
وهذه في محصلتها جولة تاسعة عنوانها ضغط ناعم من بلينكن وتعنت خشن من نتنياهو، وجرائم حرب لا عد لها ولا حصر.