كتابات ما قبل التاريخ على جدران الكهوف كانت محض صور. وقد تمكنت البشرية من بناء حضارات شديدة التطور والتعقيد كالفرعونية من خلال التواصل بلغة من الصور قبل أن يتحقق الانتقال من التشخيص إلى تجريدية الأرقام والأبجديات البسيطة.
ولم يزعزع التجريد مكانة التشخيص في التواصل بين البشر، وظلت الصورة مجالاً للبحث الفلسفي منذ فلاسفة اليونان إلى فلاسفة وعلماء نفس وعلماء اتصال العصر الحديث. وتراوحت الدراسات بين تحليلية سقراط وأمبرتو إيكو وبين انتقادية علماء الاجتماع اليساريين الذين رأوا خطورة الصورة في كونها تقوم بتأثيرها المباشر على الشعور دون حاجة إلى الإدراك العقلي.
وقد نالت الصورة أهميتها الكبيرة خلال أكثر من قرن تطورت فيه العلوم الإنسانية بصورة كبيرة منذ نزلت الفلسفة إلى الأرض وتمازجت مع بناتها من العلوم الإنسانية: الاجتماع، النفس، اللغة، والتاريخ، كما استفادت الكتابات الأدبية والفكرية من تلاقي المناهج التي تدرس الأنساق البصرية مع مناهج دراسة الأنساق اللغوية وتزاوج الإبداع مع التنظير في كتابات تضع قدمًا في بستان الإبداع وأخرى في حقل الفكر. ووسط كل هذا كانت الصورة بكل ما تحمل من عناصر الجمال والإخبار والفكر عنصرًا مهمًا في محاولة فهم العالم.
وإذا ما تركنا فيض المؤلفات الفكرية ‘عن’ الصورة هناك فيض من الكتب ‘في’ الصورة؛ حيث تمثل كتب الفوتوغرافيا فرعًا مهمًا من فروع صناعة النشر.
بعض كتب الفوتوغرافيا لا يتضمن نصوصًا أكثر من سطر يشرح الصورة ومناسبتها وبعضها لا يتضمن سوى اسم المصور وبعضها يتضمن نصوصًا قصيرة مصاحبة توازي محتوى الصورة أو تشرحه. وبعض هذه الكتب يعتمد التصنيف الزمني لصورها، حيث نجد السلاسل التي تقدم أهم صور عقد أو قرن من الزمان وبعضها مصنف موضوعيًا؛ كأن يُعنى كتاب الفوتوغرافيا بالحروب أو بالموضة أو الجسد أو بورتريهات المشاهير.
وتبدو صناعة النشر العربية شديدة الفقر في هذا الباب. وربما يذهب التفسير الأبعد لندرة كتب الفن التشكيلي والفوتوغرافيا إلى إدانة الثقافة العربية، بوصفها ثقافة نص، أو ثقافة ‘أذن’ لكن هذا التفسير لا يمكن قبوله بسهولة، لأن الثقافة العربية ابنة حضارات بصرية عريقة كالفرعونية والآشورية. ربما يكمن هذا الإملاق في صعوبة نشر هذا النوع من الكتب الذي يتطلب مواصفات فنية عالية، لا يمكن تغطية نفقاتها في ظل تدني أعداد القراء. وأيًا كان السبب؛ فالنتيجة أننا أمام حقيقة ندرة الكتب العربية ‘عن’ و’في’ الصورة.
ولا نعرف هل سيأتي يوم تنضم فيه الثقافة العربية إلى قائمة الثقافات التي تهتم بالصورة فكرًا وتنظيرًا أم أن الثقافات الأخرى هي التي ستقلع عن طباعة الكتب في العصر الافتراضي.
على أية حال؛ فقد انهزمت كل كتابات الفلسلاسفة وعلماء الاجتماع عن الصورة أمام مقولة واحدة تبسيطية وشديدة التضليل اخترعها خبراء الإعلام أو بالأحرى خبراء الدعاية الأمريكيين في مقولة ‘الصورة لا تكذب’.
ربما تكون هذه العبارة أكبر المسلمات خطأ في تاريخ الفكر الإنساني، حيث لا تنقل الصورة الحقيقة أبدًا بل تنقل جزءًا أو تصورًا عنها. وذلك الجزء المنقول يتلقاه مشاهدون مختلفون لديهم قدرات بصرية وانحيازات عاطفية وعقلية وأمزجة نفسية سابقة على الصورة.
افتتحت هذه المقولة المضللة ما أطلق عليه ‘عصر الصورة’ وعليه نهضت ثقافة التسليع التي أوقعت فقراء الغرب والشرق في غواية الشراء، بينما كان المعسكران يلعبان لعبة التوازن على جبهات القتال ويستميتان على التمسك بمناطق نفوذهما. ولعبت الصورة دور حصان طروادة الذي ساهم في تقويض الاتحاد السوفيتي معنويًا، قبل أن تدشن بولندا عصر ‘الثورة الصورة’ وقد أكدت الثورة الرومانية على ذلك قبل الربيع العربي بعشر سنوات، ولم تعد معها الصورة مجرد مرآة تعرض الواقع بتحديب أو تقعير، بل صارت واقعًا آخر موازيًا، قد لا يشترك مع الواقع الأصلي إلا في أقل القليل.
المظاهرات الحاشدة لها أطراف ونهايات شبه خالية أيضًا وهي المكان المفضل لتصويب الكاميرات المعادية للحشد، أما الكاميرات الحبيبة فبوسعها أن تنقل لقطة مقربة من قلب مظاهرة صغيرة لتجعل من عشرات الأفراد حشدًا مليونيًا.
القول في الأحياء يصدق كذلك على الأموات؛ فقتيل المظاهرة لا يصبح قتيلاً إلا إذا دخل سجلات عالم الصورة الافتراضي. طلقة الرصاص لم تخرج إلا إذا تزامنت مع طلقة الكاميرا المتممة لعمل شياطين العنف وملاك الموت.
(إذا رأيت القاتل والمقتول فلا تحكم أيهما الجاني) أو أيهما الضحية و الصورة لا تكذب وفي نفس الوقت لا تقول الحقيقة لكنها تنقل ناتجاُ معين لأحداث سبقت ولا تضلل سوى البسطاء الذين لا وعي يقودهم إلى النظر لما خلف الصورة .
تذكر يا أخ عربي بأن غالبية مجتمعاتنا من الناس البُسطاء، وهؤلاء طيبون بالفطرة، وهذه نِعمة. المُشكلة أساساً ليست في من يتبع الصورة طوعاً أو منقاداً، بل في صنّاع هذه الصورة من القيادات أصلاً، والذين حولوا هذه النِعمة الى نِقمة، وهم بمظهرهم هذا يجنون على جوهرهم الإنساني قبل الآخرين، وبهكذا منطق جائر كانوا قد مهدوا لبداية نهايتهم بيدهم وهم لا يعلمون، لتكون نهايتهم الفعلية فيما بعد على يد ذات الناس البُسطاء، فمن هؤلاء خرج مُفجّروا ثورة الكرامة العربية. هذه الكرامة المستباحة طويلاً من قبل صنّاع الصورة المُظَلِّلة الأشرار، لذلك تراهم ومنذ إنطلاقها كالمسعورين يتآمرون على وئدها إينما حاولت التجسيد، ولكن هيهات أن يطالوا غرضهم، فبعد إنكسار حاجز خوف الشعوب، بسطاء الناس خاصة ثواراً كانوا أم لا، سوف يكونون لهم بالمرساد. أجل، ومع كل الصورة المؤلمة حوالينا، عصر صنّاع الصورة المُظَلِّلة في نزاعه الأخير البطيئ. قد يكون مُكلفاً جداً نزع وتمزيق هذه الصورة من إطارها القديم، ولكن لا بد منه، لا بد من دفع الثمن، لا بد من تحويل نقمة صناعة الصورة القديمة، الى نعمة الفطرة الإلاهية المُتَجَدِّدة، والتي نرجوا لها بعد اليوم أن تكون وتصبح وتبقى كريمة ومتحرِّرة ومُتحضِّرة.