دوما ما تطغى أحاديث السياسة على رؤى الفنانين ونتاجاتهم في فلسطين، الحرب الدائرة على غزة منذ أكثر من أربعة أشهر، لم تكن استثناء في هذه المسألة، رغم أن حربا طاحنة تمارس على مكونات المشهد الثقافي والفني في قطاع غزة، في محاولة تبرير الخطاب الإسرائيلي المتوحش الذي ربط الفلسطينيين بـ»الحيوانات البشرية». وهي مسألة يعتبرها الفنان ومدير المتحف الفلسطيني عامر شوملي، «رسالة واضحة» من الاحتلال لاستهداف كل منجزات الفلسطينيين الفنية والثقافية، حيث طال القصف المتاحف والجامعات والمراسم والأرشيف والمباني الأثرية، إلخ.
ورغم ثقل الجريمة التي ما زالت ترتكب لحظيا، وكان المشهد الفني والثقافي في غزة جزءا منها، كان واضحا دخول هذا المشهد في حالة من الصدمة والإحباط، حالة يسعى المتحف الفلسطيني الذي يديره شوملي إلى تجاوزها عبر إعلاء أصوات من يجري محوهم وإبادتهم في غزة، عبر إطلاق تظاهرة فنية حملت عنوان «هذا ليس معرضا».
وفي حديث شوملي المطول مع «القدس العربي» يشدد على أهمية أن يحصل التغيير والتجديد في المشهد الثقافي والفني، وابتداء بإعادة طرح السؤال القديم حول: دور الفن في خدمة القضية الفلسطينية. وفي ما يلي نص الحوار:
صور لا يمكن منافستها
□ بداية.. كيف تنظر إلى دور الفن في ظل الحرب، خاصة الحرب المعلنة على قطاع غزة حتى هذه اللحظة؟
■ ـ منذ بدء الحرب على قطاع غزة ونحن نشعر بالعجز، وكانت هناك أسئلة كثيرة، منها أولا، كفنان، كيف يمكنك أن تساهم في وقف الحرب فورا؟ أو كيف يكون لك دور في نصرة غزة بأسرع وقت ممكن؟ في الوقت نفسه، كان هناك شعور بأن الصور التي تأتي من داخل غزة، لا يمكن لفنان أن ينافس قوتها. وإذا كانت هناك صور قادرة على التغيير، أو المساعدة في إنهاء الحرب أو تحقيق النصر، فإنها الصور الحقيقية التي يلتقطها الناس على الأرض، مثل الناشط عزايزة، والصحافي الدحدوح، وجميع المصورين الذين خاطروا بحياتهم لالتقاط هذه الصور.
«أفضل طريقة لفهم تفاصيل أي شيء أمامك هي إعادة رسمها»
كفنان، لا يمكنك فعل شيء حقيقي في هذه اللحظة، وقد دخلنا في حالة من العجز حتى بدأنا نتحدث أكثر مع زملائنا الفنانين في غزة، بداية على أمل ضمان سلامتهم. وكانت رسالتهم هي أنهم في هذا الوقت يعانون من الحرب، ويحاولون، قدر الإمكان، النجاة. أما نحن، قالوا لنا إنه يجب أن نتحمل المسؤولية ونقوم بكل ما في وسعنا المساعدة. وبدأنا ننظر إلى ما يحدث في غزة من منظور أبعد قليلا، في حرب الإبادة على الفلسطينيين للقضاء عليهم عبر قتلهم، وكذلك في حرب الإبادة على المنازل، لكيلا يتمكنوا من العودة إليها في المستقبل. وفي الوقت نفسه، كانت الحرب على المتاحف، على الأعمال الفنية، حيث تم حرق المجموعات الخاصة للأثواب، وتم حرق المراسم والمتاحف، وهذه حرب على الذاكرة، حرب على الفلسطيني، لمحوه من الحاضر والمستقبل والتاريخ، كي لا يكون هناك أي طريقة لتوجيه إعادة بناء غزة في المستقبل. رسالتهم كانت واضحة، إننا كفلسطينيين نعتبر «حيوانات بشرية»، وهذا يعني أننا كفلسطينيين لم نساهم في الإنجاز الإنساني العالمي، والدليل على ذلك هو أنهم حرقوا كل الأشياء التي قدمها الفلسطينيون. في هذه اللحظة، شعرنا بأن الخيار الأنسب هو أن نحارب هذه الرواية، في اللحظة التي يتم فيها حرق مراسم الفنانين، نعود ونجمع أعمالهم قدر الإمكان ونعرضها، في الوقت الذي يقتل فيه الفنان وتحترق لوحاته، يكون هناك بصيص أمل للفنان في غزة أن تجمع لوحاته وتعرض في الضفة الغربية.
ضرب الذاكرة
□ من وجهة نظرك، هل كان استهداف الفنانين هدفا مقصودا من قبل الاحتلال الإسرائيلي، أم كان عملا وحشيا يدمر كل شيء، ومن ضمن الأشياء التي دمرها كل ما يتعلق بالفنانين؟
■ بالنسبة لي، كانت هناك أهداف ثقافية محددة لدى الاحتلال الإسرائيلي، من كان يقوم بعملية القصف بالصواريخ، كان يعرف بالضبط أماكن المتاحف والمراسم والمجموعات. هنا أذكر مثالا متعلقا بصديقي جودت الخضري، الذي لديه عمارة مكونة من 7 طوابق، وكانت هناك مجموعة فنية مخزنة في الطابق الخامس. لم يتعرض البناء بأكمله لأي ضرر، ولكن القصف تركز فقط على الطابق الخامس. هذا القصف كان متعمدا لحرق المجموعة. كان هناك قرار بتدمير متحف رفح مثلا، وتم تدميره. هذا ليس شيئا عشوائيا يحدث على هامش الحرب، بل كان متعمدا لضرب ذاكرة غزة.
الدعم الغربي
□ مع الصدمة من الموقف الغربي.. ماذا عن تجربتك في التعامل مع مؤسسات وفنانين في الغرب، خاصة أن لديكم شبكة من العلاقات مع شركاء وداعمين ومانحين؟
■ سابقا، كان هناك شعور بأن الفنانين والمثقفين الفلسطينيين يتمتعون بنوع من الشراكة الدولية مع العديد من المؤسسات والمتاحف والشركاء في جميع أنحاء العالم. لكن بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، تغير الكثير من الأشياء، وتحولت القناعات إلى أسئلة. بشكل تاريخي، تخيل أن يكون هناك فلسطينيون يعملون مع شركاء دوليين، فيما كان هؤلاء الشركاء يصدرون بيانات يعارضون فيها وقف إطلاق النار. هناك جهات غربية، تاريخيا عمل معها الفلسطينيون، أصدرت بيانات ضد وقف إطلاق النار، هذه البيانات كانت مؤلمة بالنسبة لنا وصادمة، لقد كنا نعتقد أنهم شركاء. الآن أجدني في منطقة أقول فيها إننا في المستقبل وأمام أي جهة غربية تريد العمل معنا يجب عليهم إجراء مراجعة لالتزامهم بحقوق الإنسان، يجب علينا أن نسألهم عن المعايير المزدوجة، وعن الدعم غير المشروط الذي يذهب للجانب الإسرائيلي، وتحديدا الجهات والمؤسسات التي وقفت ضد الشعب الفلسطيني في هذه الحرب.
وأعتقد أنه يجري حاليا حراك ثقافي بين المؤسسات التي تناقش عدة اتجاهات لها علاقة بالموقف من الدعم الغربي والداعمين، هناك مجموعة من المؤسسات التي علمت أنها أرسلت رسائل اعتراض للداعمين على مواقفهم تجاه الحرب، حيث رفضت دعمهم، وطلبت منهم تخصيصه لمشاريع أخرى في غزة. وهؤلاء بالتأكيد يمرون بأزمة مالية، لكن الموقف الشجاع من قبلهم كان في مواجهة الداعمين، بل ومحاسبتهم على مواقفهم. من بين المؤسسات مثلا مؤسسة «رواق» التي كانت من بين أوائل المؤسسات التي اتخذت مواقف شجاعة وجريئة تجاه مواقف الداعمين، وبدأت بمحاسبتهم على أساس القيم التي كانوا يدعون لها.
□ ينتقد البعض المؤسسات الثقافية والفنية في فلسطين والضفة الغربية تحديدا، لعدم اتخاذ موقف واضح بشكل كامل منذ البداية، ما رأيك؟
■ كان الجميع في حالة صدمة، والوصول إلى النتائج في وقت متأخر خير من عدم الوصول إليها على الإطلاق. في هذه المرحلة، يجب أن لا نكون قساة جدا على أنفسنا أو نحاكم بعضنا بعضا. الأهم هو البقاء كجبهة واحدة في مواجهة المرحلة المقبلة، لأنها ستكون مرحلة صعبة وقاسية على الجميع.
لحظة فارقة
□ وكيف يمكن للفن الفلسطيني أن يتجاوب ويتفاعل بشكل أفضل مع الجمهور وفي مثل هذه اللحظة التاريخية؟
■ الفنانون والمؤسسات الثقافية في فلسطين يجب أن يواجهوا السؤال المحوري حول دور الفن في القضية الفلسطينية على جميع المستويات. لا يمكن أن يبقى الوضع كما هو بعد الأحداث التي جرت بعد 7 أكتوبر. سيشهد كل شيء تغييرا، وسيعيد الجميع التفكير في الأمور من جديد. بعد العدوان على غزة، توقفت جميع البرامج الثقافية والفنية؛ الندوات، المحاضرات، المعارض، كل شيء، لأن الوقت لم يكن مناسبا. كان من الواضح أن البرامج كانت تبدو غير ملائمة بسبب الأحداث الصادمة التي شهدناها في غزة. كانت هناك برمجة وتفكير غير متماشٍ مع الواقع الفلسطيني تحت الاحتلال، لكن بسبب حجم وقوة الأحداث في غزة، أصبحت الأمور واضحة بشكل كبير، وأصبح من الواضح أنه لا يمكن أن تستمر الأمور كما كانت تسير. بعد الحرب، يجب علينا ألا نعود إلى الوراء وكأن الحرب كانت مجرد حالة عابرة.
نحن تحت الاحتلال، ونحن في حالة حراك نحو التحرر، يجب أن تكون البرامج الثقافية مرتبطة بالسياق الحالي. إذا كانت البرامج مبرمجة بهذه الطريقة، وفي اللحظة التي يحدث فيها العدوان، يجب زيادة الأنشطة وليس التوقف عنها، تماما كما في المستشفيات، حيث يجب على الأطباء زيادة عملهم خلال الحروب. المفروض أن يعمل القطاع الثقافي أكثر خلال الحروب، وأن تكون برامجه ذات صلة بالواقع، ويجب علينا جميعا التفكير في هذا الأمر، سواء الفنانين أو المؤسسات أو الجمهور.
ضرورة مواكبة ما يحدث
□ لاحظ العديد من المهتمين بالمشهد الثقافي والفني أنه ظهر متعثرا في بداية الحرب، فما يتم إنجازه لم يكن ملائما، رغم أن العمل الفني يتطلب وقتا طويلا حتى يتم في صورة أفضل. كيف يمكن حل هذا الإشكال؟
■ بالتأكيد، الفن بطبيعته لا يمكن أن يكون رد فعل فوري، عادة ما تكون الأعمال الفنية القوية هي التي يتم إنجازها بعد تقييم مفصل لسير الأحداث على مدى فترة طويلة. في بعض الأحيان، يبدأ الفنانون عملية التوثيق والبحث ومتابعة الأحداث أثناء حدوثها، لكن الفن في اللحظة نفسها ليس هو الأمر الصحيح. هنا أقول إن إنتاج الفن ليس بالضرورة في اللحظة الحالية، وهذا جزء من طبيعة الفن، وكمؤسسات ثقافية، هذا موضوع مختلف، فلديك مخزون كبير من الإنتاج الفني والثقافي الذي يمكنك العودة إليه والاستفادة منه في عمل معارض، وهذا ليس عذرا لعدم العمل. يمكن للفنانين أن يعملوا رغم الظروف القاسية، بعضهم يمكنهم الإنتاج من قلب الحدث، فقد شاهدنا بعض الزملاء في غزة مثل ميسر بارود وباسل المقوسي يقومون بإنتاج «سكتشات» يومية لتوثيق حياتهم تحت القصف. الفنان ضياء العزاوي يعمل على توثيق الحرب في لحظتها، لكن ليس كل الفنانين لديهم هذه القدرة، هناك بعض الفنانين الذين يمكنهم بعد مدة زمنية العودة للحدث وإنتاج انطباعاتهم عنها، كل شخص يعمل بطريقته، ولكن بشكل عام، يجب أن نكون جميعا معا، بين الأفراد القادرين وغير القادرين على العمل، والمؤسسات والجمهور، لإنشاء حالة ثقافية تواكب الحرب وتكون جزءا من محاولات البقاء والنصر، وليس مجرد متفرجين.
محاولة مستمرة للفهم
□ وهل تشعر بأن الفنانين الفلسطينيين بدأوا بتجاوز الصدمة والعنف الوحشي الذي تتضمنه بعد أربعة أشهر من الحرب؟
■ لا في الوقت الحالي ولا حتى في المستقبل القريب، لا يمكن للفلسطينيين أو أي شخص آخر أن يتجاوز صدمة الصور المقبلة من غزة. جميع محاولات الفنانين، سواء الكبار أو الصغار، تتمثل في التعامل مع هذه الصور عن طريق إعادة رسم بعض الأشياء المستمدة من هذه الصور ومحاولة إعادة رسمها، وهذا هو جوهر تاريخ الفن. إحدى الطرق لفهم ما هو أمامك هو رسمه، وأفضل طريقة لفهم تفاصيل أي شيء أمامك هي إعادة رسمها. أعتقد أن ما يحدث في الوقت الحالي هو محاولة الفنانين لفهم الصور وفهم ما يجري في قطاع غزة. لا أعتقد أن الضمير العالمي يمكنه أن يتجاوز هذه الصور في يوم من الأيام، ربما بعد 10 أو 20 سنة، قد يتمكن الفنانون من إنتاج أعمال بعيدة عن هذه الصور التي تتحدث عن هذه اللحظات، ولكن في الوقت الحالي، سيكون من الصعب جدا.
معرض حي
□ «هذا ليس معرضا» لماذا حملت التظاهرة المقامة في المتحف الفلسطيني هذا العنوان؟
■ لأنه ليس معرضا بالمفهوم التقليدي، عادة ما تكون المعارض في المتاحف، وفق معايير وطريقة عمل محددة، يمكنك القول إنها تفتتح في تاريخ معين وتغلق في تاريخ آخر، لكن هذا المعرض لا يحمل تاريخ انتهاء لأنه سيبقى موجودا طوال فترة الحرب وبعدها. سينتهي هذا المعرض بعد انتهاء الحرب بثلاثة أو أربعة أشهر، لذلك ليس له تاريخ انتهاء محدد، عادة ما تعرف اللوحات الموجودة في المعرض مسبقا، لكن في هذا المعرض، الأعمال تتغير باستمرار، هذا المعرض حي، وقد يتغير محتواه كل يوم. في الغد، يمكن لأحد الأشخاص من الجمهور أن يحضر لوحة من غزة ليعرضها، لذا ليس له شكل نهائي كمعرض، لا توجد قائمة نهائية للمشاركين أو الأعمال، فكل شيء قابل للتغيير.. حالة الفنانين الذين يشاركون تتغير أيضا، وقد يتغير حتى اسم الفنان في حالة الاستشهاد، لا قدر الله. كل هذه الأمور المتغيرة تجعل التظاهرة ليست معرضا بالمعنى التقليدي، بل هي مساحة للتظاهر، تظاهرة فنية ضد الإبادة، مساحة فلسطينية لنعبر عن أننا كشعب لن نمحى، نحن كفلسطينيين لسنا مجرد متفرجين، وكما قال محمود درويش «وأصبح جرحي معرضا لسائح يهوى جمع الصور»، فهذا ليس معرضا حيث يأتي السائحون ليتصوروا إلى جانب اللوحات، بل جميع الأعمال هنا تعبر عن الإبادة للشعب الفلسطيني في غزة.
أنا غزة
□ وماذا عن قصة المعرض الحي؟
■ عندما ظهرت الفكرة بأن نقيم هذا المعرض، كان النقاش مع أصدقائنا في مجموعة التقاء الفن المعاصر، ومحترف شبابيك للفن المعاصر في غزة. من خلال النقاشات معهم وصلنا لفكرة أن ننظم هذا المعرض ونتوجه إلى البيوت والمؤسسات لنرى أين توجد الأعمال الخاصة بالفنانين الغزيين. لقد بدأ الفنانون في غزة يرسلون لنا رسائل نصية تحتوي معلومات حول أماكن أعمالهم في الضفة، فصارت تصلنا رسائل، «مرحبا، أنا الفنان فلان الفلاني، لديّ عمل موجود عند الصديق الفلاني، هذا رقمه للتواصل معه». بدأنا نلم الأعمال بناء على توجيهاتهم، حتى فكرة تصميم المعرض، لقد كان الفنانون في غزة أساس بنائه، ونحن كمتحف نعتبر أنفسنا اليدين والقدمين لهم خصوصا لهاتين المؤسستين على الأرض.
«محاولة الاستمرار في الفن أو التعبير عن الجمال، بينما يجري القتل والتدمير هو أمر بربري»
وإذا لاحظت، لوغو المؤسستين على الحائط، بينما لوغو المتحف غير موجود، لقد انتهت النوافذ المؤسسية في قطاع غزة، والفنانون والعاملون في هاتين المؤسستين أصبحوا نازحين في رفح. هنا نحن ننفذ أفكارهم على الأرض، فمساحتهم التي تم تدميرها تعوضها مساحة المتحف كامتداد للمساحة المتضررة في غزة. نحن ننقطع عنهم بانقطاع الإنترنت بسبب الحرب، ودون صوتهم، نصبح نحن صوتهم على منصاتنا الإعلامية، وتجربة بناء هذا المعرض بحد ذاتها هي حالة تضامن، لأنني لا أتضامن برفع شعار «أنا مع غزة»، بل أنا غزة، وهذا نوع آخر ومهم من التضامن. أعود إلى القول، إن ما قبل السابع من أكتوبر ليس كما قبله، ويجب على جميع المؤسسات أن تعود للتفكير في طريقة عملها. بالنسبة لنا، هذا بداية تجربة لكيفية عملنا بالشكل الجديد.
□ بالتأكيد دخلتم كمتحف في صراعات بشأن وجهات النظر المتناقضة، ربما حول ما إذا كان يجب علينا عمل المعرض أم لا، وما هو المناسب؟ هل يمكنك أن تخبرنا عن هذا الجانب؟
■ طوال الوقت كانت الشكوك ترافقنا، هل ما نقوم به كمتحف هو مهم حقا أم لا؟ الشك مبرر، لا يأتي التغيير المفاجئ بسهولة. نتحدث عن متحف يعمل منذ 7 سنوات بالنهج والأسلوب والإيقاع نفسه، في كثير من الأحيان، كنا نترك العمل في المعرض ونتجه إلى «التراس»، وهي مكان في المتحف يطل على الغرب، حيث كنا نسمع صوت القصف والصواريخ، ونحن على علم بأن زملائنا في غزة لا يمكنهم الوقوف لبرهة مثلنا، زملاؤنا في غزة هم من منحونا جدوى الأمور وهوية العمل الذي نقوم به هنا في المتحف الفلسطيني.
الجميع في خيمة واحدة
□ نحن هنا إزاء 300 لوحة لأكثر من 100 فنان، ويبدو أن توزيع اللوحات على الجدار كان عشوائيا. هل كان لهذا منطق معين؟
■ نعم، تم توزيع الأعمال بشكل عشوائي، فنان معروف مثل بشير السنوار يمكن أن يجد نفسه جوار فنان مبتدئ مثل سامي قريق، وهذا يعكس الواقع الحالي في غزة حيث يواجه الجميع التحديات على حد سواء. في غزة، تجد الكبير والصغير في خيمة واحدة، وهذا ما حاولنا تمثيله عبر توزيع الأعمال في المعرض. هذه هي حرب الإبادة التي لا تفرق بين الكبير والصغير، جميعهم يواجهون التحديات معا، وهو ما نحاول تمثيله بواسطة الجدار النيلي. هناك قول لفيلسوف ألماني: «إن تكتب الشعر بعد أوشفيتس هو فعل بربري». يعني أن محاولة الاستمرار في الفن أو التعبير عن الجمال، بينما يجري القتل والتدمير هو أمر بربري، في زمن الحروب والمأساة، ليس من الوقت المناسب للاستمتاع بالجمال أو صنع الفن بطريقة تقليدية.
فترة حِداد
□ وما هو سبب ودلالة استخدام اللون الأزرق أو النيلي بشكل طاغٍ في المعرض؟
ـ اللون الأزرق المسيطر في المعرض مستمد من نبات فلسطيني يُسمى «النيلة»، ويُزرع في منطقة المجدل في قطاع غزة، حيث تُستخدم أوراقه في صناعة الأقمشة والملابس، ويُستخدم لصبغ البناطيل. تقليديا، كانت المرأة الفلسطينية تصبغ ثيابها باللون النيلي عند وفاة أحد أفراد العائلة، فيجعلون الثوب كله بهذا اللون، ومع مرور الوقت وغسله يتلاشى اللون تدريجيا، ما يعني نهاية فترة الحداد. وفي الوقت الحالي، نحن في حالة حداد، ولذلك الجدران الرئيسية في المتحف باللون الأزرق النيلي، الذي يرمز أيضا لامتداد الأرض من البحر إلى النهر، وهو الشعار الرئيسي المتداول في جميع أنحاء العالم، اللون الأزرق يُعتبر إعلانا بصريا لهذا الشعار الذي يُمثّل الوحدة الفلسطينية من النهر إلى البحر.
اتركني أعمل
□ كيف يمكننا إقناع البعض الذين يرون أن الوقت غير مناسب لعرض الصور أو اللوحات؟ برأيك، كيف يمكننا توضيح أهمية هذا العمل لهم؟
■ قد يكون الوقت فعلا غير مناسب، لكن عندما تقول إن هذا ليس وقت الفن أو عرض اللوحات، فإنه يجب عليك أن تعمل على إنجاز شيء أهم، وإذا لم تكن تقوم بما هو أهم اتركني أعمل، على الأقل، ما أنا قادر عليه، أقصى ما يمكنني تقديمه كفنان هو تصوير لوحة فنان غزي على جدار معرضنا، وهنا سأقول له: «ما زال لديك أعمال تعرض»، وهكذا يمكننا إعطاء القليل من الأمل، والمؤكد أن هذا ليس وقت التنظير من إبراج عاجية، انجز ما ترى أنه المهم، وفي حال كنت قادرا على مساندتك فإنني سأنضم لك أيضا.
□ ومَن هم غير المرحب بهم في هذه التظاهرة؟
■ أي شخص يلعب دورا في هذه المجزرة، أو الجريمة بحق قطاع غزة، أو أي شخص أو جهة ترفض المشاركة في محاولة وقف هذه المجزرة، والقائمة طويلة للأسف.
□ في المعرض هناك لوحات لأربعة فنانين استشهدوا، وقد تحدثت عن معاملة خاصة للوحات الشهداء، أود أن تتحدث عن هذا الجانب.
■ بالتأكيد، إن أعمال الفنانين الشهداء لها خصوصية كبيرة ومعاملة مختلفة، خاصة الذين استشهدوا في منازلهم، التي كانت مراسمهم الخاصة، حيث استشهدوا مع عائلاتهم وأعمالهم، هذه اللوحات تمثل أحد الآثار القليلة التي تبقت لنا منهم، ولذا فإنها تحمل مسؤولية كبيرة للحفاظ على تاريخهم وإرثهم، وهذه الأعمال هي أمانة ويجب الحفاظ عليها بشكل كبير.
وفي الأخير..
المعرض يحتوي على 300 لوحة، والدعوة مفتوحة لكل من يمتلك لوحة لفنان من غزة أن يأتي بها لتعرض في المتحف، وتصميم المعرض يتطور باستمرار ويتوسع ليعكس المشهد الثقافي والفني في غزة.