في غضون أقل من عامين، رحل لاهوتيان كاثوليكيان كبيران تفرّقت بينهم السبل. السويسري هانس كونغ، والبافاري جوزيف راتسينغر. برحيلهما يتشكل حاجز رمزي بين اللاهوت الكاثوليكي في القرن العشرين وبين ما يمكن أن تؤول اليه هواجس ومشاغل ورغبات وتطلعات الكاثوليك من أبناء هذا القرن، كلما أوغلنا في الابتعاد عن سابقه.
الأول – هانس كونغ – وافته المنية قبل الثاني بعامين، وقد سبقه قبل ذلك إلى المجيء الى هذا العالم بعام.
الأول قضى آخر نصف قرن من حياته في ثياب «اللاهوتي المتمرد» على الكنيسة وأحبارها. والثاني ظل يرتفع في السلك الكهنوتي حتى تبوأ الحبرية العظمى، وصار البابا بنديكتوس السادس عشر بين العامين 2005 و2013 قبل أن يتحول في العشرية الأخيرة إلى أول بابا يستقيل من تلقاء نفسه منذ ستة قرون.
الإثنان تزاملا في التعليم بجامعة توبنغين، وشكلا أصغر خبيرين لاهوتيين مشاركين في أعمال مجمع الفاتيكان الثاني 1962-1965، محطة «الارغينومنتو» (التحيين) بامتياز في التاريخ المعاصر للكنيسة الكاثوليكية وللمسيحية بشكل عام.
والإثنان أدركا بشكل أو بآخر المنسوب العالي من الالتباس الذي لم يبدّده هذا المجمع، المعني بشكل أساسي باستيعاب الديني للدنيوي وإعادة تنشيط المسالك الإيمانية إنطلاقاً من هذا الإستيعاب.
فهذا المجمع يبدو عملياً عند الغرف من أعمال كل من كونغ وراتسينغر كأنه مسار غير حاسم، ينتظر من ثم من يأخذه في هذا الاتجاه أو في ذاك، لجهة خيارات الإصلاح وكيفية السير بها، إن على مستوى التجربة الدينية بحد ذاتها، وكيفية درء أسباب الخمول وعوامل الضمور عنها، أو على صعيد المؤسسة الهرمية الجامعة، التي تجد مركزها في صيغة دولة الفاتيكان، التي هي الحاضرة الرومية، وتجد امتدادها التنظيمي الأممي متنوع الأحوال على مدى الكوكب.
وهذا بدوره يتصل بهوية المرجعية المقرّرة في هذه الكنيسة وآليات الضبط والمراقبة والمكاشفة والصيانة. ما يرجع في عمقه اللاهوتي الى السؤال عن طبيعة المرجعية، مجمعية هي في المقام الأول أو حبرية، وهذا فرع على أصل هو السؤال عن ماهية الكنيسة نفسها. هل هي مجموع المؤمنين فحسب، أم أن وراء الكنيسة الظاهرة المتبدلة كنيسة محجوبة دائمة، يتجسّد من خلالها حضور الغيب وتواقيع الخلاص النهائي والأخروي في عالمنا؟
افترقت مسارات وأجوبة كل من كونغ وراتسينغر. الأول كان حكمه قاسيا للغاية بازاء مرحلة البابا يوحنا بولس الثاني. عدّها ارتداداً عن روحية المجمع الفاتيكاني الثاني. مع ذلك، استقبله مجايله اللدود بندكتوس السادس عشر بعد تبوئه السدّة عام 2005 ودار النقاش بينهما لأربع ساعات ونصف وتوسّم كونغ خيراً. ليعود من ثم الى ممارسة نقد أكثر قساوة بعد من الذي سبق. ذلك في كتابه لعام 2011 «هل ما زال من الممكن انقاذ الكنيسة؟». صنّفها مريضة. تنوء تحت وزر بابوية ملكية مطلقة، والسببل الوحيد لانقاذها هو انفكاكها عن آخر ألف عام من المسار التعاظمي لسلطة البابا وروما على سائر الكاثوليك. صوّر كونغ حالة هؤلاء على أنهم ينقسمون بين من يهجر تدريجيا الدين، وبين من يقول ما لا يشعر ويشعر بما لا يقول، وبين معترضي سبيل الانعتاق والإصلاح.
صار البابا بنديكتوس السادس عشر بين العامين 2005 و2013 قبل أن يتحول في العشرية الأخيرة إلى أول بابا يستقيل من تلقاء نفسه منذ ستة قرون
بشكل عام، يمكن القول بأن ما يراه كونغ هو لحظة «بداية المشكلة الحالية»، أي تعاظم سلطة البابا في إثر الاصلاح الغريغوري في القرن الحادي عشر الميلادي، هو تحديداً ما يتعامل معه راتسينغر – بنديكتوس على أنه، أي هذا الاصلاح الغريغوري، هو النموذج الذي يجب أن يحتذى عند كل استنهاض وكل تجديد. فمشكلة راتسينغر الأساسية هي مع اختزال الدين الى تجربة دنيوية فقط، وتأويل المسائل المتعلقة بالآخرة فيه على أنها من قبيل المجاز أو من جملة ما تجاوزه الدهر.
في سيرته اللاهوتية عن المسيح سعى على امتداد مئات الصفحات لدحض كل حجج النزعة الأنسنية – الليبرالية في اللاهوت. لصالح نظرة ترى أن حدث القيامة في المسيحية هو في الوقت نفسه تجاوز التاريخ الى ما وراءه، لكنه يترك بصماته بعمق في التاريخ نفسه.
التاريخ مسألة أساسية عند راتسينغر. لئن بحث كانط عن الدين في نطاق تجربة العقل، ورد عليه شلايرماخر بأن الدين هو تجربة إحساس في المقام الأول، إحساس التعلق بالمطلق واللامتناهي، الإحساس بالجلال، واقترب منه شاتوبريان في أن «عبقرية المسيحية» تكمن في الجمال، فإن راتسينغر الذي رحل قبل أيام يشبك أكثر مع الانهمام بالتاريخ. الدين عنده تجربة تتجاوز التاريخ لأنها تتحرك في التاريخ. ونظراً لهذه الازدواجية، يسع الإيمان في الوقت نفسه أن يكون نداً للعقل وأن ينطوي في الوقت نفسه على حكمة.
نظرته هذه غذت لديه النزعة المحافظة في كل شيء. التجربة الدينية تتحرك عنده في التاريخ وتتجاوزه باتجاه المسائل الأخروية، لكنها في الوقت نفسه تجربة تثبت على طبيعة راكزة للإنسان لا تتبدّل. بالتالي، على الكنيسة، من وجهة نظر راتسينغر، أن تدافع عن «الطبيعي» الذي خلق عليه الإنسان. لأجل ذلك أيضاً، اللاهوت الراتسينغري يمكن احتسابه «أنتي كيركيغاردي» بامتياز. كان كيركيغارد يمني النفس بأن يكون «مؤلفاً مسيحياً» فقط. لا لاهوتي ولا فيلسوف. وكان يرى أنه لا يمكن أن تكون مسيحياً بل يمكن أن تصير كذلك، وأن هذه الصيرورة هي تجربة إفرادية، تتعلق بكل فرد. بالضد من هذا لاهوت بنديكتوس السادس عشر. الإيمان فردي وجماعي في آن، ومرتبط باستمرارية هذا الجسد العابر للتاريخ الذي هو الكنيسة. في المقابل، هانس كونغ سعى الى الغرف من الوجودية اللاهوتية. حاكى دازاين هيديغر من خلال أطروحته في «الكريستزاين». الكينونة المسيحية. مشكلته أنه في دعواه لإصلاح أكثر جذرية للكنيسة لم يستطع أن يبرهن لماذا هي أساساً ضرورية. راتسينغر على العكس من ذلك، ربط الاصلاح بنموذج غريغوري من بداية الألفية الماضية. ربطه بالنتيجة بضرورة لاهوتية تاريخية لاستمرار الكنيسة. لا يلغي أنها كي تستمر لا يمكنها أن تظل تؤجل المسائل الملتبسة منذ الفاتيكان الثاني. وأن البابا الحالي، فرنسيس، هو عنوان للتأجيل. بابا سياسي من بعد بابوين، فيلسوف، يوحنا بولس، ولاهوتي، بنديكتوس. سياسي بمعنى أنه يجمع بين موقف محافظ في الأساس، في موضوع القيم، كونه يقسم الأشياء بين ما هو طبيعي وما هو غير طبيعي، وبين موقف سلس وليّن من حيث الأداء والتواصل والعناوين البيئية والاجتماعية.
برحيل كونغ ثم راتسينغر تظهر فجوة في الانتاج اللاهوتي اليوم. مع ذلك، لا بأس من الإشارة الى أنهما، على أهميتهما، لم يكونا أبرز لاهوتيي القرن الماضي بين الكاثوليك. أهمهم كان السويسري اليسوعي هانس فون بالتازار، الذي لم يقتنع بالهوة بين الايمان والعقل، ولا عدّ الوفاق بينهما لحظة تأليف نهائية. إنما جعلها دراما إلهية تترك مساحة للرجاء من أن ينجو كل الأنام من جهنم وأن تبقى جهنم خالية. بعكس كونغ وراتسينغر، وقد شاركا في شبابهما في المجمع الفاتيكاني الثاني، فإن فون بالتازار لم يدع أساساً لهذا المجمع. جرى «تفاديه» وبتفاديه زاد الالتباس. ورغم ذلك غرف الجميع منه. راتسينغر وكونغ، ويوحنا بولس الثاني الذي أشرف على سيامته كاردينالا قبل أيام من وفاته نهاية الثمانينيات.
كاتب لبناني
حضور الله في التاريخ معضلة كل دين. في الماضي كان الايمان تحصيل حاصل والعقل كان تابعا له. لكن العلم الحديث جعل من الله فرضية يمكن الاستغناء عنها، فافتقد الايمان إحدى أهم ركائزه ألا وهي أن المخلوق يدل على الخالق (أي أن الابداع الموجود في الكون لا يمكن أن يكون إلا من خلق إله). لكن أكبر تحد يواجهه الايمان هو الدنيوية (سيكولاريزم) التي أفقدته دعامته الاجتماعية اليومية التي تجعل الفرد ينشأ في مناخ ديني معين. فلا يبقى أمام الثيولوجيا إلا أن تتحول إلى إنسية مائعة أو إلى دوغمائية متشنجة.
الأستاذ الفاضل وسام سعادة تحيّة طيّبة: أشكرك على هذا المقال الجريء والدقيق…وأودّ أنْ أضيف شيئًا مختصرًا نتيجة التجربة لسنين؛ لا مجرد رغبة لدقائق بعد قراءة لمقال.في سنة 2010 أنشأت { مركزالنبيّ إبراهيم للدراسات الشرقيّة } بجهد ذاتيّ 100% وغرضه فقط دراسة القصص { المقدّس } في اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام؛ دراسة علميّة حضاريّة مقارنة؛ لا انحياز فيها ولا مدح ولا قدح…وبعد غوص في الأعماق قادني المسارالمنهجيّ العلميّ التاريخيّ إلى أنّ المسيحيّة الآن تسمية عائمة.وأنّ الصواب أنْ يقال للمنتمي إليها: كاثوليكيّ أوأرثذوكسيّ أوبروتستانيّ.لقد فقدت المسيحيّة إطارها الجمعيّ منذ أنْ قامت الكنيسة البابوية بتشجيع الحروب الصليبيّة ضد المشرق العربيّ…فتحوّلت إلى كيان سلطويّ بغطاء الكهنوت.لذلك أتفق مع هانس كونغ أنّ الكنيسة مريضة؛ كما جاء في المقال.وألمس أنّ البابا الحالي؛ يسعى لعلاج أمراضها…وأنّ كتاب كونغ: (هل ما زال من الممكن انقاذ الكنيسة ؟) المريضة.الأصوب أنْ يكون:
{ هل لا يزال من الممكن انقاذ المسيحيّة ؟ ).لأنّ { مازال } للماضي المنقطع الوصال؛ و:{ لا يزال } للحاضروالمستقبل…
أنا كمسيحية كم اسعدني وجود مركزكم المهتم بالقصص المقدس.كل عام وحضرتك بخير دكتور جمال.