بنطالٌ عسليّ وقميصٌ أسود

عندما تضمّ خزينة السلطان قلادة ماسٍ، تصير تحفة تمرّ عبر العصور، وتزداد نفاسة وقيمة وجوهر، وعبرتْ حفيدةُ السلطان سليمان القانوني قرون الزمان، وصارت حبيبتي، ولديها من جدّتها السابعة السلطانة «هُرُم» كلّ شيء، في الصوت والصورة والقلب، ولم تأخذ من جدّها الأبعد، السلطان العثماني وخليفة المسلمين الخامس والسبعين، غير اسمه. يقول سعدي يوسف:
«الأسماء ليست كالمسمى/ إنها ما قد نراه»
ليس على موعد مسبق يحصل الحبّ، فنحن منذورون له منذ القِدم، وإلى الأبد، كتبتُ قصّةً قصيرة، عمّا جرى لي، وأجريتُ فيها تعديلا كي تكون مختلفة عن الواقع، لأن الأدب هو الواقع المغاير، لكنه الحقيقيّ والراسخ، وكان اسمي في القصة إسماعيل:
الطبيب إسماعيل له رقبة ديك رومي، وهيئة ديك رومي، وعينان مظلمتان. كان يحمل حقيبته، يهرول إلى عيادته في الصباح، يجفّف عرقه وينظر إلى ساعته. لكن لا أحد في غرفة الانتظار. لا يراجعه أحد من المرضى طوال الشهر، تقريباً. كان حزيناً ومحبطاً، وفقيراً معدماً في الوقت نفسه.
غابت الشمس خلف الشبابيك في ذلك اليوم. عنكبوت في الزاوية العليا، صاعدٌ هابطٌ، مرّات ومرّات، والطبيب إسماعيل يرقبه، لأن لا عمل لديه سوى أن يرقب العناكب في البيت، وفي محلّ العمل. صاعدةً هابطةً، والعمر يمضي.. نقرة من إصبع رشيق على الباب، ودخلت شابّة ترتدي بنطالا عسليّا وقميصا أسود، تشتكي من ألم في الساعد والقلب. كيوبيد الصبيّ كان يطير في تلك الساعة قريبا، واقترب من النافذة. رشق الاثنين بسهمه، وتقطّرتْ من القلبين الدماء. الفتاة التي اسمها «رفيف» أنقذت الدكتور البائس من قبره الأرضيّ، أخرجتْهُ إلى الحياة. مثلما يطلع الصبحُ، تأتين إليّ مثقلة بالهال، وتحتشدين بالعبق الدافئ، ويجتمع كلّ ما فيك من أريج وعبير وشذى. يصير كلُّ هذا حليبا، هو غذائي. أصغي أيضاً مع صوتِكِ إلى صوت الموسيقى، وأشتهي الماء البارد وأيام الشتاء الباردة. الحياة بأسرها توقفت لكي تكوني لي، وأنت تتكلمين، تنقلين لي أخبار العالم، كأنك تعزفين، كأنك تنشدين
عقصةَ شعرِك التي فوق أذنك. أعمالُكِ اليومَ محجورٌ عليها، ما عدا حُبّي…
الصباغُ في الأنامل ورديّ صقيلٌ، لامعٌ، ويقودني إلى أيّ سماء أريد. الصباغُ أحمر، أو مختلفُ الشكلِ والنقش. الصباغُ الأجمل في يديك يا صغيرتي هو الأسود، وهو الأخضر والأبيض. فاتني أن أقول شيئاً: الأصابعُ شبيهةٌ بالأجنحة، الحُبّ يطلقها، ويرفعها، كي تطير. كي يعتلي هو فيها. تتكلمين بصوت جسدك كله، وكان الربيع في الحديقة، ثم هبّت رياحٌ ليّنةٌ من النافذة، وشعرتُ
عندها بالماضي يعود حيّا في صورة وجهك. هل كنت تخبئّين قرون الظلام الأربعة في بلادي تحت إبطيكِ، وألقيتيها بين قدميّ!؟ الأمرُ يبدو مثل حكايةٍ في الأساطير:
في الشارع أشجارٌ ضخمةٌ مثقلةٌ بالأوراق
تمرّينَ بها كلّ يومٍ
مرّتين
وتنفضينَ عطرَ شَعرَكِ الناعم
ما هو حصان طروادة أمام هذه الأسطورة التي تحدث كلّ يوم مرّتين؟
ما هو عراك جلجامش مع الثور ومع أنكيدو ورحلته في طلب الخلود، وقد عاد خائبا؟
تمرّينَ كلّ يومٍ
مرّتين
تلقين بظلَّكِ وأنت تسيرين
والظلال الضخمة للأشجار تهتزّ على إسفلتِ الشارع
الحصان الخشبيّ الذي ابتكره أوليس في حرب طروادة، يختلفُ حتماً عن الفرس التي أمتطيها كلّ يوم.
ألبسها وتلبسني وتحلّق بي…
زهرةٌ خضراء، زرقاء كالفيروز، زهرةٌ ناعمة الأضواء، زهرةٌ من ماء، آنستكَ، وروتكَ. قد أتتكَ صغيرتُك «رفيف» بالنّغمِ والأزاهير والأكاليل والدّمقس، صيّرتْ نومَك شالاً بنفسجياً، وكانت غابةُ (شيرينجا)* في أوج زينتها، وظلالُ طيورٍ تمرّ. البحرُ أنشدَ اسمَكِ معي، والجبل الشّاهق كذلك، جبل القمر. النّخلُ أحملُهُ إليكِ من بلدي، تتلهّفين إلى ظلِّه، وإلى سلطانِ هذا الحبِّ العظيمِ والوارفِ.
كان دانتي يؤمن بأن الحبّ يحرّك الشمس والقمر والنجوم الأخرى…

شيرينجا: بلدة تقع بين الجبل والبحر في أزمير، أقصى غرب تركيا.

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية