نظام بريتون وودز المرتبط بوضع النُظم الاقتصادية العالمية، الذي نشأ في ظل الهيمنة الأمريكية، عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، كان بمثابة ترسيخ للطفرة الاقتصادية طويلة الأمد في فترة ما بعد الحرب. ولم يوفر هذا النظام الجديد أي نوع من الثبات في السياسات النقدية، أو يحد من العوائق في وجه المعاملات الدولية، وتسهيل حرية التجارة. والصدمات النفطية والركود الاقتصادي اللذان شهدهما العالم في سبعينيات القرن العشرين، أسهما في دفع المسائل الاقتصادية إلى واجهة القضايا الدولية.
وبناء على الصيغ الجديدة، التي أخذت تتضح بها الحروب وأساليب إدارتها، أمست المقترحات الخاصة بالنظام العالمي لحقبة ما بعد العصر الامبراطوري ضئيلة جدا. وعلى الدوام، كانت السلطة الحقيقية تتجاوز القوى الإمبريالية ورجال الدولة، لصالح شركات بلدانهم بضخها وتكريرها ونقلها للمواد الأولية. والفراغات السياسية، والتباينات في مستويات التطور الاقتصادي، قد تُفسر عجز منتجي النفط تكرار حادثة إشهار سلاح النفط العربي سنة 1973. إذ لم يعد ممكنا أن يستهدفوا دولة بعينها من دون أن يقطعوا الإنتاج عن كل الدول، لأن السوق العالمية مملوءة بالمشترين والباعة، والجميع بإمكانهم الوصول إلى المنتَج. ويجري تنبيهنا إلى صنفين مهمين من أسلوب دراسة النظام العالمي، لفهم مجال العلاقات الدولية والسياسة العالمية. الأولى هي أن جميع مناحي السياسة على الصعيدين المحلي والدولي، تدور ضمن إطار اقتصادي رأسمالي، وهو أمر ماضٍ قدما منذ عقود. والثانية هي أن العناصر الفاعلة المهمة في ميدان العلاقات الدولية، ليست الدول لوحدها، بل إن الطبقات الاجتماعية والتكتلات المدنية لها رصيد في هذا الشأن وتأثير بالغ. وينبغي تفعيل حضورها والبناء عليه في مثل هذه الأوقات من تاريخ العالم وتفاعلاته، وديناميكية الأحداث وتمظهراتها الاقتصادية والسياسية. يضاف إلى ذلك، أن مواقع هذه الدول والطبقات الاجتماعية، ضمن بنية الاقتصاد العالمي الرأسمالي، هي التي تحد من تصرفاتها، وتحدد نماذج التفاعل والهيمنة في ما بينها.
يبدو أن نظرية النظام العالمي تعني وفق أصحابها أن الازدهار الذي تنعم به القلة يقوم على بؤس الكثرة
ويدرك إيمانويل وولرشتاين، بأن السنين الخمسمائة الماضية من تاريخ الدول، تميزت بحدوث تغيرات جذرية زعزعت الاقتصاد العالمي. ومع هذا، ما يستحق الإشارة إليه هو أنه، رغم هزات الحروب والمجاعات، ودخول العالم حقب التصنيع والاستعمار، وحركات التحرر، التي أزالت الاستعمار، فقد ظلت البنية الأساسية للنظام العالمي مستقرة نسبيا منذ نشوئها في أوروبا خلال القرن السادس عشر. ورغم توسع حدود الاقتصاد العالمي، فإنه لا يزال منقسما إلى ثلاث مناطق اقتصادية متفاوتة، ترتبط إحداها وهي منطقة المركز بالمنطقتين الأخريين، شبه الأطراف والأطراف بعلاقة استغلالية متواصلة. وهذه المناطق تشكل البعد المكاني للاقتصاد العالمي، الذي له أبعاد زمانية كذلك، متمثلة في الايقاعات الدورية والاتجاهات المتنقلة والتناقضات والأزمة، وهي حين تقترن بالأبعاد المكانية، تحدد المنحنى التاريخي لهذا النظام وبنيته. أما أثرها، فيتجلى في ضمان الإبقاء على ازدهار أوضاع الأقوياء والأغنياء، على حساب الضعفاء والفقراء. وهو ما يشكل قدرا عظيما من اللامساواة، تجلى بعضها فيما تضمنه تقرير عن التنمية البشرية، أصدرته الأمم المتحدة منذ عام 1996. من أن مجموع ثروات أصحاب المليارات في العالم البالغ عددهم 358 يساوي مجموع الدخول التي يحصلها الأفراد الأكثر فقرا، الذين يشكلون نسبة 45% من سكان العالم. والنسبة آخذة بالارتفاع في العقدين الأخيرين، بما معناه ازدياد الأغنياء ثراء، وتدني أوضاع الفقراء وتفاقم بؤسهم. ويبدو أن نظرية النظام العالمي تعني وفق أصحابها أن الازدهار الذي تنعم به القلة يقوم على بؤس الكثرة. ووفق منطق الرأسمالية العالمية، فإن العالم الذي أرادوه أن يكون الثالث، والذي يحتوي الأغلبية السكانية ويضم ثروات طائلة، من الضروري أن يبقى سكانه يعانون، بحيث تضمن القلة في المجتمعات المسيطرة تمتعها بمستويات معيشتها المتميزة. وإن كانت الأمور تتم بالغلبة وافتكاك الثروات، وإسقاط الأنظمة، ومحاصرة الشعوب وتجويعها عبر العقوبات الاقتصادية. ومن ثم يأتون إلى الصالونات الفاخرة لتداول أوضاع المهاجرين في قوارب الموت، وتدارس أحوال اللاجئين الذين هُجروا قسرا من أوطانهم بفعل الاستبداد والتدخل الأجنبي.
تكديس الثروة في أحد القطبين هو لهذا السبب، تكديس في الوقت نفسه للشقاء، وعذاب الكدح والرق والجهل والقسوة، والاتجار بالبشر في القطب الآخر. وقوى الهيمنة تدفع نحو إخضاع الشعوب الأجنبية والسيطرة على مواردها. والصراع على المقدرات أصبح السبب الأساس لاضطراب السياسة الدولية، تماما مثلما كان هوبسون يرى أن الامبريالية نتجت عن الاستهلاك المتدني ضمن المجتمعات الرأسمالية المتطورة، وهذا ما دفع الرأسماليين إلى البحث عن أرباح أعلى فيما وراء البحار، الأمر الذي أصبح يشكل ديناميكية تنافسية بين الدول، والعامل المساعد للنزعة العسكرية، ما يؤدي بشكل مستمر إلى الحروب وتنازع الأدوار. وتحت شعار إعادة إعمار ما دمروه بأنفسهم من قبل، يتم اقتناص الصفقات المربحة، وترويج صفقات التسليح الضخمة، وغيرها من أشكال الغنائم التي يجنيها المنتصرون. وهي مسارات لا تعجل بمهمة تصحيح القصور الأخلاقي لدى الأمم، أو معالجة خيْرِيَتها الإنسانية غير الناجزة. والحكمة التافهة لقادة العالم «كل شيء لنا ولا شيء للآخرين» مازالت تنهل مما عبر عنه ونستون تشرشل بشكل مبكر عن النظام العالمي الجديد، الذي بدأت ترتيباته في أعقاب الحرب العالمية الثانية بقوله «يجب أن تؤتمن حكومة للعالم تعبر عن الأمم التي لا ترجو لنفسها شيئا أكثر مما بحوزتها. فلو أن حكومة العالم كانت في أيدي شعوب جائعة، سيكون الخطر دوما محدقا. وليس لدى أي منا دوافع للسعي لشيء أكثر مما نملكه. يجب أن يتم الحفاظ على السلام من قبل شعوب تعيش على طريقتها، بدون أن تكون لديها مطامع في الآخرين. إن قوتنا تضعنا فوق الجميع، فنحن أشبه برجال أغنياء يعيشون آمنين في مساكنهم» .
الخيارات الدبلوماسية كانت دائما متاحة، ولكنهم وجدوا في الإرهاب الدولي، وعدم الاستقرار، ودعم الحكومات الفاسدة واستثمار الأصولية الإسلامية، والتجارة الدولية للمخدرات، ما يفتح شهيتهم للتعامل مع الأعداء الجدد. وفضلوا اغتيال الرؤساء وقلب الأنظمة بالقوة، أو بالثورات الملونة، وعملوا على تدمير المشروع المادي والفكري والتكنولوجي المرتبط أساسا بالدول العربية والإسلامية، واغتيال العالم النووي محسن فخري زاده، ليس سابقة في تاريخ الاجرام وإرهاب الدول المنظم، ولن يكون الأخير. من حاصل حربهم المفتوحة ضد إرادة الأمم ورغبتها في النهوض وتطوير أوطانها وتحديثها. وبتعطيلهم الشرعية الدولية تتحول السياسات نحو مواقف أكثر تطرفا، خاصة تلك المرتبطة بالشرق الأوسط، مع ضمان التأثير الجيوسياسي في المنطقة. وتبقى الشركات هي المحدد للوصاية السياسية، وتعمل كمركب لتحقيق الأهداف الاستراتيجية الكبرى. والخطر هو الحرب على مصادر العالم التي يُدعى بأنها تتضاءل.
كاتب تونسي
حركة رؤوس الأموال العالمية عائق واضح أمام حرية القرار الوطني. هناك استسلام واضح لاقتصاد السوق واملاءات البنك الدولي . والليبرالية المتوحشة لا يمكن أن تنتج سوى استقطاب الثروة وتدهور أحوال شعوب بكاملها وتنامي النزعة العسكرية والصراع على الموارد . وتتعدد الاسباب من أجل الهيمنة والسيطرة والافتكاك
مقال ممتاز. شكرا للقدس العربي الغراء.