تونس ـ «القدس العربي»: وسط جبال خمير الشاهقة، وغاباتها الكثيفة ذات الأشجار الباسقة والوارفة الظلال، وبمحاذاة السدود ومنابع المياه العذبة، تقف قرية بني مطير الساحرة ببيوتها القرميدية الجميلة، شامخة شموخ سكان ربوع الشمال الغربي التونسي المرابطون في أرضهم منذ العصور الغابرة. فالأمر يتعلق بلوحة فنية فريدة تسر الناظرين أبدعها خالق الكون ببهاء منقطع النظير يؤمها الزائرون من كل مكان للاستمتاع بالمناظر الخلابة والطبيعة الآسرة في واحدة من أجمل مناطق البلاد التونسية.
وتقع بني مطير غرب مدينة تونس العاصمة على بعد 170 كيلومترا، لكن الطرقات الجبلية والغابية الملتوية التي تقتضي تخفيف السرعة من قبل مستعملي الطريق، سواء للقادمين من عين دراهم أو من فرنانة، تجعلها تبدو أبعد من تلك المسافة بكثير. وتتبع بني مطير إداريا ولاية جندوبة التي اشتهرت بجبالها المرتفعة وكثافة غاباتها وأراضيها الزراعية الخصبة ووفرة مياهها السطحية والجوفية على حد سواء، وهو ما جعلها بيئة خصية للحياة الطبيعية تستوطن غاباتها أنواع كثيرة من الحيوانات على غرار الذئاب والخنازير والثعالب والأيائل وغيرها.
جنة أرضية
وتتميز بني مطير، ومنطقة جبال خمير عموما، بطقسها المعتدل ونسيمها العليل في فصل الصيف بالنظر إلى ارتفاعها عن سطح البحر ووقوعها في تضاريس شاهقة، وهو ما جعلها قبلة للفارين من لهيب الشمس في فصل الصيف ودرجات حرارتها المرتفعة. أما شتاء فإن البياض هو الذي يطغى على المشهد العام بسبب نزول الثلوج التي تجعل من بني مطير تجمعا سكنيا شبيها بالقرى السويسرية الجبلية في فصل الشتاء والتي يؤمها الزوار للتمتع بجمال الكساء الأبيض الفصلي.
وتجعل ثلوج الشتاء وأمطار الخريف والربيع الغابة كثيفة الغطاء النباتي، وفيها من الأشجار والنباتات ما لا يحصى ولا يعد، منها أشجار السنديان والزان والفرنان والصنوبر والفلين، ونبات الإكليل والزعتر والشيح وغيره، إضافة إلى أنواع كثيرة من الزهور تسحر الزائرين في فصل الربيع. فكثرة التساقطات في هذه المنطقة تحافظ على الحياة وسط الغابة وعلى كثافة غطائها النباتي، كما تزود الخضراء بكميات هامة من المياه تحتاجها البلاد على مدار العام في الفلاحة وفي توفير مياه الشرب.
وتُنعت منطقة جبال خمير التي تنتمي إليها قرية بني مطير بأنها رئة تونس ومتنفسها، حيث الهواء النقي الممزوج برائحة الأعشاب الطبيعية، وحيث منابع المياه المعدنية الصافية عذبة المذاق، وحيث الجمال أينما وجه المرء ناظريه. وحيث كرم الإنسان من أبناء تلك الربوع ممن عُرفوا بترحيبهم بزائريهم وبحسن استقبالهم في تلك الجنة الإستثنائية التي تستهوي الزوار بخضرتها صيفا وببياضها شتاء مع تساقط الثلوج.
أصل التسمية
ويرجع البعض تسمية بني مطير إلى قبيلة مطير العربية التي هاجرت أعداد منهم من جزيرة العرب إلى شمال أفريقيا حيث الأراضي الخصبة والمياه الوفيرة مقارنة بموطنهم الأصلي الذي كانت الحياة فيه قاسية قبل اكتشاف النفط. ولا يعرف إن كانت هذه القبيلة قد هاجرت مع الفتح الإسلامي للمنطقة، أو مع تقاطر الجيوش العربية على شمال أفريقيا استعدادا لفتح الأندلس أو مع غزوات قبائل بني هلال وبني سليم للمنطقة. وحسب المراجع فإن قبيلة مطير هي من أهم قبائل العربية استوطنت الأراضي الواقعة غرب الحجاز غير بعيد عن مكة والمدينة ووصلت إلى شمال نجد وتوزعت على مناطق هامة في جزيرة العرب، وهاجر أيضا الكثير من أبناء هذه القبيلة، كما قبائل عربية أخرى، إلى شمال أفريقيا واستوطنوا أراضيها الخصبة.
كما يعتبر البعض الآخر أن تسمية بني مطير لها علاقة بالأمطار والثلوج وكثرة التساقطات التي تعرفها المنطقة، ويعتقد هؤلاء أن ساكنة تلك الربوع أطلقت عليهم تسمية أبناء المنطقة الماطرة أو الغابة المطيرة ومع الوقت تحولت التسمية إلى بني مطير، وهي فرضية تحتاج إلى إثبات. فقد جرت العادة أن الأنساب لا يتم إثباتها بحالة الطقس ولا بالتساقطات التي تعرفها بعض المناطق وإنما بالعودة إلى أحد الأجداد أو بالعودة إلى منطقة أو مدينة، وبالتالي فإن المرجح هو أن مطير هي قبيلة، وعلى الأرجح أيضا أنها عربية وذلك بالنظر إلى التسمية العربية، لكن لا يعرف ما إذا ما كانت جذورها تعود إلى القبيلة التي في نجد والحجاز أم إلى غيرها.
مناضلون أشاوس
استوطن الإنسان منذ القديم ربوع جبال خمير حيث تقع بني مطير باعتبار توفر كل مقومات العيش من ماء وهواء ونبات وغيره، وتعاطى سكان هذه الجبال الشامخة المترامية نشاط تربية الماشي والصيد لتواجد أنواع كثيرة من الحيوانات في تلك الربوع الخلابة. وعندما أسس القرطاجيون مدينة طبرقة أو تبرقة أو البرقة على الواجهة البحرية لسلسلة جبال خمير وذلك لتحويلها إلى ميناء لنقل أخشاب الغابات، تحولت المنطقة التي تضم اليوم قرية بني مطير ومحيطها إلى أهم مزود للقرطاجيين بالأخشاب التي كانت تستغل في صناعة السفن باعتبار براعة القرطاجيين في هذا المجال حيث كانوا الحضارة المتوسطية القديمة الوحيدة في عصور ما قبل الميلاد التي تمكنت من الإبحار في المحيط الأطلسي وسبر أغواره شمالا وجنوبا، من بحر الشمال إلى خليج غينيا وذلك بفضل صلابة سفنها التي صنعت من خشب غابات جبال خمير.
وفي العهدين الروماني والبيزنطي ازدهرت بيلاريجيا المجاورة لبني مطير وذاع صيتها وأشعت على محيطها وصولا إلى العهد الإسلامي حيث حكمت تونس سلالات عديدة منهم الأغالبة والفاطميون والصنهاجيون الذين شهد عهدهم تدفق عرب بني هلال وبني سليم وانتشارهم في ربوع البلاد وحتى في مناطق جبال خمير. ولا تذكر المراجع أي أثر لازدهار منطقة جبال خمير خلال العهدين الحفصي والعثماني وخصوصا الأخير الذي صب اهتمامه على مدينة الكاف كعاصمة للشمال الغربي التونسي باعتبارها كانت قاعدة أمامية للتصدي لهجمات دايات الباب العالي المسيطرين على الجزائر. وتذكر كتب التاريخ التصدي البطولي لقبائل جبال خمير للجيوش الفرنسية القادمة من الجزائر سنة 1881 لاحتلال تونس، حيث كانت أول من قاوم الاستعمار الفرنسي على الأراضي التونسية، ذلك الاستعمار الغاشم الذي استقر بالجزائر قبل خمسين سنة من تواجده في تونس. لقد كان تصديا أسطوريا أذاق الفرنسيين خسائر فادحة لكن التفوق في السلاح والعتاد حسم الأمر بالنهاية لصالح المحتل وسقط شهداء كثر دفاعا عن تلك الربوع الجميلة والخلابة في أعالي جبال خمير، وسقت دماؤهم أديم الأرض وأشجار الغابات الباسقة.
ونتيجة لوفرة المياه بالمنطقة ورغبة في استغلالها الاستغلال الأمثل قررت الدولة سنة 1954 إقامة سد عملاق في منطقة بني مطير وأصبح هذا السد الهام في منظومة المياه التونسية رمزا للقرية ومنحها الكثير من الجمال والبهاء. وقد بدأ إنجاز هذا السد منذ سنة 1948 وكان سببا في بروز هذه القرية الجميلة والتعريف بها في الداخل باعتبارها قطبا للسياحة البديلة المختلفة عن سياحة المنتجعات الشاطئية التي عرفت بها في تونس في مدن الحمامات وسوسة والمنستير وجزيرة جربة وغيرها.
هندسة فريدة
لقد أصبح سد بني مطير في حد ذاته معلما من معالم القرية حتى أن البعض بات يلقب بني مطير بقرية السد الذي بات بدوره مقصدا لزوار بني مطير من التونسيين وغير التونسيين. فلا يمكن لأي زائر لهذه القرية الهادئة والجميلة أن لا يحول وجهته باتجاه السد لمشاهدة عظمة الإنجاز وأهميته وجمال المشهد الذي بات يشكله وهو يتوسط الجبال والأشجار وارفة الظلال.
ولهذا السد أهمية بالغة فإلى جانب تزويده لعدد هام من التونسيين بمياه الري والشرب، أقيم عليه مولد كهرومائي لإنتاج الطاقة الكهربائية النظيفة غير الملوثة للبيئة وتشرف على هذا المولد الشركة التونسية للكهرباء والغاز وهي الشركة الوطنية التي تحتكر هذا المرفق العام في تونس. وتقام رحلات سياحية عديدة إلى السد على مدار العام وتباع بالقرب منه التحف الفنية الحرفية التي تميز الجهة وتتمثل في المنحوتات الخشبية باعتبار أن أهل هذه القرى نحاتون بالفطرة على الخشب ومبدعون في هذا المجال.
وتعتبر كل مكونات القرية معالم في حد ذاتها بما في ذلك البيوت ذات السقف المثلث والتي يعلوها القرميد، وهو المعمار السائد في ربوع الشمال الغربي الذي يختلف عن باقي المدن التونسية. والحقيقة أن لكل منطقة في تونس معمارها وهندستها وبيئتها ومناخها وكأنه توجد في الخضراء نفسها عدة بلدان لا تشبه بعضها البعض في شيء. فالتنوع كبير رغم صغر المساحة التي عبث بها المستعمرون واقتطعوا منها الكثير منذ القرن السادس عشر إلى أن وصل الحال إلى ما وصل إليه اليوم.
ويجعل السطح المثلث المغطى بالقرميد الثلوج عند ذوبانها والأمطار عند هطولها تنساب إلى الأسفل حتى لا تبقى عالقة بالسطح وتتسبب في أضرار خاصة والمنطقة معروفة بكثرة تساقطاتها. وبالتالي يجعل هذا الشكل المعماري بني مطير شبيهة إلى حد كبير بالقرى الجبلية الأوروبية في سويسرا وإيطاليا وغيرها وكأنها امتداد لها أو اقتطعت منها، شأنها شأن قرى أخرى في جبال خمير، وتم إلحاقها بالتراب التونسي.
وتضم القرية كنيسة قديمة تعود إلى زمن الاستعمار الفرنسي وفيها أيضا مسجد وفندق صغير تفتح نوافذه الخشبية ذات الطابع الخاص والبسيط على السد، وعلى الربى الجميلة الآسرة للقلب والروح، حيث مراتع الظبي والأيائل والغزلان الجبلية، وعلى جبال العنبر والشيح والصنوبر حيث البساط الأخضر يجدد عهد الصبى. وتضم القرية مقهى صغير وجميل يفتح على الساحة الرئيسية التي يقع عليها الفندق الصغير ويعيش أهل القرية في هدوء وسكينة قل نظيرهما، وهو ما يجعل المار يستمع إلى حفيف أغصان الأشجار وأوراقها وهي تلامس بعضها البعض مع كل حركة للنسيم العليل المثقل برائحة الغاب التي يؤمنها الصنوبر والفلين والفرنان والأعشاب البرية.
ويضم محيط القرية أيضا شلالات يتم النزول إليها مشيا على الأقدام من الطريق الرئيسية المؤدية إلى بني مطير قدوما من عين دراهم وذلك في مدرج نحت في الجبل محاط بالأشجار والنباتات. ويرتاد الزوار هذا الشلال للتنعم بصوت خرير المياه التي تنساب بين الصخور لتستقر في حوض طبيعي وسط سكون الطبيعة الذي تهفو إليه النفوس التي كلت من ضوضاء المدن الكبرى ونسق الحياة اليومي وما يسببه من ضغوطات.
سياحة الجبال
كما تضم بني مطير مكانا جميلا للتخييم وقضاء الإجازات والسهرات وسط الغابة في طقس معتدل صيفا بفعل الارتفاع عن سطح البحر. ويشتمل فضاء التخييم هذا على أماكن لنصب الخيام وأكواخ خشبية مطلة على السد والمياه الصافية مجهزة بالسخانات لفصل الشتاء القارس، والمكيفات، التي لن يحتاج إليها الزائر المقيم مع برودة الطقس ليلا في فصل الصيف. كما يشتمل الكوخ على الثلاجات والأثاث البسيط الذي يتناسب والمكان. ويعتبر مركز بني مطير للتخييم مكانا ملائما للسياحة البديلة بالإمكان أن يقضي فيه المرء إجازة صيفية يتمتع فيها بالهدوء وبسحر المكان بعيدا عن ضجيج المنتجعات السياحية العادية على شواطئ البحار وفنادقها الفخمة.
بإمكان المرء أن يتمتع في مطير بمشهد الطبيعة الخلابة ويتجول في الغابات الجبلية مشيا على الأقدام أو بالدراجات أو على ظهر الدواب، كما بإمكانه أن يمارس رياضة العدو وأن يستنشق الهواء النقي برائحة أشجار الصنوبر والكالتوس والإكليل والزعتر لينعم بصيدلية طبيعية قل نظيرها. كما بإمكانه ممارسة رياضة التجديف بالقوارب في بحيرة السد وأيضا بإمكانه أن يصيد السمك النهري لإقامة حفل شواء له في الليل.
فسياحة الجبال أو السياحة البديلة كما يسميها البعض باتت تستقطب في السنوات الأخيرة المشاهير في تونس وباتت بني مطير ومحيطها قبلة الزوار من مختلف الأعمار والشرائح الاجتماعية من الباحثين ليس فقط عن الراحة والاستجمام بل أيضا على البيئة النظيفة حفاظا عن الجسم السليم. كيف لا وزائر بني مطير، وبحكم القرب الجغرافي يُمنح الفرصة للذهاب إلى مدينة عين دراهم الساحرة وحمام بورقيبة ومحمية الفايجة وعين سلطان، حيث الحيوانات البرية، وحتى إلى طبرقة حيث لقاء الغابات والجبال بالبحر المترامي.
توجد في اليمن في منطقة بني مطر واعتقد هذه القبائل من هذه المنطقة.