تونس- عادل الثابتي: في 14 يناير/ كانون الثاني 2011، شهد شارع الحبيب بورقيبة وسط تونس العاصمة أكبر مظاهرة في تاريخه، حيث احتشد عشرات الآلاف من المحتجين أمام مقر وزارة الداخلية؛ للمطالبة برحيل الرئيس آنذاك زين العابدين بن علي.
وبالفعل في مساء ذلك اليوم قبل 13 عاما، غادر بن علي (1987-2011) البلاد إلى منفاه الاختياري في السعودية، حيث توفي في مدينة جدة عام 2019.
وفي هذا الشارع العلامة، طالبت جماهير غاضبة، بإنهاء نظام حكم استمر نحو 24 عاما، ورفعوا شعارات بينها “حرية، عدالة اجتماعية، كرامة وطنية”.
مستذكرا ذلك اليوم، قال فتحي الغزواني، باحث في القانون، “14 جانفي (يناير) 2011 لم يكن حدثا معزولا، بل ثمة تراكم أحداث داخل البلاد، وخاصة في تونس العاصمة، لمّا وصل صدى الثورة والتحمت بالأحياء الشعبية في العاصمة، وحضرت مسيرات في أماكن فرعية في الباساج (ساحة وسط العاصمة) وغيرها”.
وأضاف الغزواني، أن “يوم 14 جانفي كان حدثا آخر.. أتذكر أنه حوالي العاشرة صباحا عندما غادرت المنزل قلت لزوجتي: سيكون يوما مشهودا في تاريخ تونس”.
وتابع: “لم أكن أعرف ما يدور في الشارع، ولم أكن أعرف أن الأحداث ستكون بمثل هذا العمق، ولكن كنت أحس أن 14 يناير سيكون يوما تاريخيا”.
“التحقت بشارع الحبيب بورقيبة، وكان فيه متظاهرون، ولكن الناس الذين كانوا يلتحقون من الأحياء الشعبية كانوا كثر، وكانت مسيرة للمحامين انطلقت من قصر العدالة في اتجاه شارع بورقيبة، الذي كان يستقبل مسيرات فرعية”، كما زاد الغزواني.
وأردف أنه “مع منتصف النهار، كان الحضور غير عادي، وكان هناك صوت يلعلع في الشارع (هتافات المحتجين).. كنت أمام باب وزارة الداخلية وكان هناك أعوان للأمن يبكون.. وكان شعارا عاليا يُرفع من المتظاهرين: “وزارة الداخلية وزارة إرهابية”.
وأضاف أن “الأعوان (رجال الأمن والشرطة كانوا) بحالة خوف، وكان المتظاهرون يرفعون شعار “شغل.. حرية.. كرامة وطنية”، و(كذلك) الشعار الذي صُدِّر لعديد الدول العربية “ارحل.. وهذه الشعارات كانت تثير الرعب، وكانت هناك حركة غير عادية في وزارة الداخلية”.
ومن تونس، امتدت احتجاجات ما بات يُعرف بـ”الربيع العربي” إلى دول عربية أخرى، وأطاحت بالأنظمة الحاكمة في كل من مصر وليبيا واليمن.
وبشأن إذا كانت لديهم حينها مخاوف من احتمال مواجهة قوات الأمن، قال الغزواني: “مع صدى وكثافة الحضور، لم يكن هناك أي شيء يثير خوف المتظاهرين (…)، فعندما ترى أعوان الأمن يبكون لم يكن ليثير انتباهك وجود قناصة على أسطح بناية الداخلية”.
وتابع: “في المساء، مع انتشار خبر هروب بن علي كان لدينا شعور غير عادي، تمّ إعلامي (بالخبر) من قِبل صديق في فرنسا، وبلغني أن بن علي في فضاء طرابلس (سماء العاصمة الليبية)، ووقتها راجت أخبار أن بن علي هرب إلى ليبيا”.
وواصفا شعور المحتجين آنذاك، قال الغزواني: “لمّا تأكد خبر مغادرة بن علي بطائرته رفقة زوجته، لا يمكنك تصور مشاعر انزياح الغمة عنا؛ لأننا ذقنا الويل من نظام بن علي، كطلبة مررنا بالتجنيد القسري والسجون، ولم يكن أن نتصور أنه في لحظة سيُقال لنا إنه غادر البلاد وهرب.. كانت لحظة تاريخية”.
وفتحي الغزواني كان من قيادات الاتحاد العام التونسي للطلبة، وتعرض للتجنيد القسري في الصحراء التونسية في بداية التسعينات، ثم سُجن لسنوات على خلفية نشاطه الطلابي.
جميلة الشملالي، أستاذة في معهد “نهج روسيا” القريب من شارع الحبيب بورقيبة، قالت إن “14 جانفي 2011 كان يوما مليئا بعديد المشاعر.. مشاعر الخوف والانتظار وطموحات ليوم غد يكون أفضل من الماضي التعيس، الذي عشناه في ظل الدكتاتوريات”.
وأضافت الشملالي: “أنا شخصيا لمّا نزلت إلى شارع الثورة (شارع الحبيب بورقيبة) بعد افتكاكه (سيطرة المحتجين عليه) كان عندي شعور بالخوف، ليس الخوف من الرصاص بل من إجهاض الثورة”.
وموضحة، تابعت أن “الثورة بدأت من جهات (مناطق) محرومة مهمشة، وخشينا أنه بمجرد خطاب ووعود زائفة ألقاها الدكتاتور المخلوع يوم 13 جانفي، تنطلي على الشعب التونسي ويصدقها”.
واستدركت: “ولكن الحمد لله، هناك لحظات تاريخية ينكشف فيها زيف الأنظمة الديكتاتورية، ويسقط تأثيرها على الشعب”.
ومعربة عن اندهاشها من المشهد الاحتجاجي في 14 يناير 2011، قالت: “لم أكن أتصور حضور ذلك العدد والزخم خاصة من الناس العاديين بكل أطيافهم، صغار رجال نساء، ورأينا أن الخوف زال يومها في تونس، وهو ما عاشت به الأنظمة واستمرت”.
وحول هروب بن علي في تلك الليلة، قالت الشملالي: “لم يكن أحد يتصور تلك النهاية لذلك الدكتاتور، وفعلا كنا نتمنى ذلك وأكثر، كأن يخضع لمحاكمة عادلة تحاسبه على كل الجرائم التي ارتكبها في حق الدولة والمجتمع والمواطنين والشهداء.. ولمّا سمعت الخبر، شعرت باعتزاز كبير وصحت: بن علي هرب يا أمي”.
في 14 يناير 2011، كان حمزة بن عون ناشطا في اتحاد الشباب الشيوعي التونسي (فصيل شبابي يتبع حزب العمال)، وكان معتقلا في قبو وزارة الداخلية.
بن عون قال: “كنت ضمن المعتقلين السياسيين من طلبة ونقابيين وسياسيين في دهاليز أمن الدولة (فرقة أمنية مقرها وزارة الداخلية) بعد أن تمّ إيقافنا يوم 10 يناير، وقد تم تعذيبنا”.
وبينما يلقي نظرة على الشارع الذي شهد مظاهرة 14 ينار 2011 الضخمة، أضاف: “كنا طلبة منحازين للطبقات الشعبية ومناهضين لسياسات نظام بن علي اللاشعبية، فتم إيقافنا”.
وتابع: “داخل وزارة الداخلية، كان يقع (يتم) تعذيبنا، والعدد كان كبيرا في قبو أمن الدولة، وكانت هناك مجموعات لمعتقلين جدد بالمئات، (ما) جعلنا نستنتج أن هناك حراكا في الخارج”.
وعن ليلة نهاية حكم بن علي، قال بن عون: “مساء 14 يناير لم نسمع بهروب بن علي، لكن مع تغير المعاملة من الضرب واتهامنا بالخيانة إلى سؤال: إذا هرب هذا (بن علي) ما هو بديلكم، بدأنا نفهم أن شيئا ما تغير”.
وزاد بأن “الأعوان الذين كانوا يلبسون زيا حكوميا، أصبحوا بزي مدني، وأصبحت هناك تغذية والطبيب يأتي في وقته لفحصنا، وتم إيقاف حصص التعذيب بداية من يوم 13 جانفي.. فهمنا أن بن علي هرب، عندما أعلمونا يوم 16 يناير بأن تونس مسكها رجالها وستخرجون من هنا”.
بن عون أردف: “عندما خرجنا يوم 17 يناير 2011 من الداخلية، لم نصدق أن بن علي هرب، وكان هناك مشهدا غريبا عندما خرجت من زنزانات الداخلية”.
وختم موضحا: كانت “الدبابات في الشارع وأسلاك شائكة وسيارات كثيرة لنقل أعوان الأمن، وهي مشاهد لم تكن معتادة إلا في مناطق الحروب.. ويبقى 14 جانفي 2011 يوما فارقا للشعب التونسي، يتمثل في هروب رأس النظام”.
ومنذ ذلك اليوم، مرّت تونس بمنعطفات عديدة متقلبة، وتشهد منذ أكثر من عامين أزمة سياسية حادة في ظل حكم الرئيس قيس سعيد منذ عام 2019، ومن المقرر إجراء انتخابات رئاسية في وقت لاحق من العام الجاري.
ففي عام 2021، شرع سعيد في إجراءات استثنائية يعتبرها المعارضون له “انقلابا على دستور الثورة (دستور 2014)، وتكريسا لحكم فردي مطلق”، بينما يراها المؤيدون له “تصحيحا لمسارة ثورة 2011”.
ومن بين تلك الإجراءات، حلّ مجلسي القضاء والنواب، وإصدار تشريعات بأوامر رئاسية، وإقرار دستور جديد عبر استفتاء شعبي، وإجراء انتخابات برلمانية مبكرة.
(الأناضول)