تعد تجربة الروائي المصري بهاء طاهر الروائية تجربة رائدة ماتعة للقراءة، تمتح من مخزون وغنى وتنوع في المرجعيات الثقافية المتنوعة؛ ويبدو الحفر النقدي بأعماله مثل اقتحام خطوط مغامرة مدهشة، تلزمها سعة الاطلاع والتتبع والقراءة للمرحلة الزمنية التي تتناولها الرواية، وإلى الحس النقدي والذائقة الأدبية في آن، حيث نقف عند أعمال روائي يجمع بين البناء التقليدي وتماسكه، وتقنيات الحداثة وتنوعها، كما تحمل أعماله رؤاه وتصوراته إزاء الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وتجاه نفسه، وتجاه العالم من حوله، حاملاً رؤية معادية للسلطة باختلاف مسمياتها، ضمن حضور للغة، وتشكيل بنائي يستطيع من خلال تقنياته إيقاظ الحواس، ومخاطبة الداخل الذي يعد بانهزاماته وانكساراته، انعكاساً للخارج الذي يموج بالإنهاك والتراجع والخيبة.
ويأتي كتاب «بهاء طاهر… الرؤية والتسريد» لمؤلفته القاصة والأكاديمية الأردنية لينداء عبيد ـ الصادر مؤخراً عن وزارة الثقافة الأردنية ـ مناقشاً أعمال بهاء طاهر، الذي يمثل فترة تاريخية مهمة من تاريخ الأمة العربية عامة، ومصر خاصة، في الفترة الممتدة من أواخر أيام عبد الناصر، وانتهاء بزمن السادات، متتبعاً أعماله الروائية كاملة وقوفاً عند حركة التطور السردي شكلاً ومضموناً، واتكاء على التسلسل الزمني لرواياته المكتوبة في حقبة الستينيات، رغم تأخر صدورها إلى التسعينيات، بدءاً برواية «خالتي صفية والدير» مروراً بـ»الحب في المنفى»، «قالت ضحى»، «نقطة النور»، «شرق النخيل» وانتهاء بـ»واحة الغروب» عام 2007.
البناء والتقنيات
ترى المؤلفة أن بهاء طاهر يمزج بين البناء التقليدي وتماسكه، وتقنيات الحداثة التي لا تصل إلى مستوى الغرابة والتجريب، فتنطوي أعماله ضمن تيار الحساسية الجديدة المتناولة للواقع، والحاملة لرؤية معادية للسلطة تدعو إلى معالجة الخيبات التي خلقها الماضي؛ للتخلص من الواقع السياسي والاجتماعي، الذي ينوء الشخوص بتقبله، طارحة بذلك أزمات الشخوص بمحاذاة المستويين الاجتماعي السياسي وتربط بينهما اعتماداً على حضور الرغبات والأحلام مقابل العجز والإحباط، لتتخذ منحنيين ذاتي وعام، ما يزيدهما قيمةً وغنى، وهي ترى كذلك أنه تم تحويل بعض أعماله الروائية إلى أعمال سينمائية خالدة، نتيجة لغناها بالتقنيات السينمائية، والحركة والتنوع والحيوية. من ناحية أخرى يقيم طاهر أعماله على خلق صراعات متعددة بمداها الضيق أو الرحيب، فما بين الرجل والمرأة، والريف والمدينة، الماضي والحاضر، السلطة والمثقف؛ يقوم أولهما على التشابه، وثانيهما على الاختلاف، مكانياً وفكرياً، تعبيراً عن مواقف الروائي الفكرية.
ترى المؤلفة أن بهاء طاهر يمزج بين البناء التقليدي وتماسكه، وتقنيات الحداثة التي لا تصل إلى مستوى الغرابة والتجريب، فتنطوي أعماله ضمن تيار الحساسية الجديدة المتناولة للواقع، والحاملة لرؤية معادية للسلطة تدعو إلى معالجة الخيبات التي خلقها الماضي.
التجربة الإبداعية
ينقسم الكتاب إلى تمهيد وخمسة فصول حاولت المؤلفة أن تتبع من خلالهما كل ما يخص التجربة الإبداعية الروائية لبهاء طاهر، على مستوى الشكل والمضمون، لتقف على ثنائيتي الرؤية والتسريد.
يحمل الفصل الأول عنوان تسريد البطل (البطل الضد) الذي يعد إفرازاً للأحداث في فترة الستينيات وما بعدها، من هزيمة وخيبات، ضمن تشكل لصورة بطل عاجز عن تقديم فعل حقيقي يعاني من انتكاسات نفسية ونكوصات متكررة إلى الماضي. بدءاً بمفاهيم نظرية مروراً حول تشكيل الشخصية الروائية، بعنوانين تحليليين فرعيين أولهما: «العبور إلى الموت» وتناول روايتي «الحب في المنفى» و»واحة الغروب»، و»العبور من الموت» في روايتي «شرق النخيل» و»قالت ضحى».
ويحمل الفصل الثاني عنوان «تمثيلات المرأة» ضمن عنوانين تحليليين فرعيين: الانسحاب إلى الداخل ويتمثل، برواية «خالتي صفية والدير» أنموذجاً لتمثيل المرأة الخاضعة، ورواية «الحب في المنفى» ممثلة بشخصية بريجيت، وعنوان «الخروج من الأسوار» الذي يصور المرأة المتمردة، ويتمثل بصورة مليكة في رواية «واحة الغروب».
ويحمل الفصل الثالث عنوان «تسريد الفضاء المكاني»، بدءاً بمفاهيم نظرية حول المكان الروائي، مروراً بتتبع شامل للفضاء المكاني المندغم مع شخوص الرواية المنصهرين بنتوءاته وتفاصيله، في كل روايات بهاء طاهر ضمن عنوانين فرعيين: «تسريد الفضاء المغلق» و»تسريد الفضاء المفتوح». أما الرابع فيتحدث عن موقع الراوي، أو ما يعرف بالتبئير؛ إذ يمثل الراوي وظائف متعددة في العمل الروائي، يقود حركة النص السردي، ويعد عنصراً قصصياً متميزاً عن سائر العناصر، ومرتبطاً بها في آن، إضافة إلى كونه حاملاً لرؤى الروائي وأفكاره ووجهات نظره. ويجمل الفصل الأخير حديثاً عن الطبقات السردية التعبيرية والتقريرية والحلمية الكابوسية، ضمن تطبيق على كل الأعمال الروائية المختارة، ووقوفاً عند التقنيات السينمائية القائمة على التوافق بين التقنيات الروائية والسينمائية، وتتبع اللقطات القريبة والبعيدة والحذف والقطع والمونتاج والتزامن المشهدي والحكائي، مروراً بالعناصر السمعية والبصرية والصوتية، وفق منطق التداعيات المرئية والمسموعة، ودقة الإمساك بما يعرف بالتفاصيل، أو الإكسسوارات، لتصير أعماله الروائية صورة حية كاملة التشكيل والتفاصيل للإنسان والواقع، للتاريخ والحاضر، للزمان والمكان، للداخل والخارج. ضمن لغة حية ثرية.
صراع الأضداد
إن بهاء طاهر في أعماله الروائية يخلق حالة تصادمية بين الماضي والحاضر، بين دواخل الشخص وتناقضاتها وواقعها الأليم، إنها أعمال إبداعــــية شاهدة على التاريـــــخ، وعلى الواقع، بما بهما من خيبة وخيــــانة وعزيمة ومرارة، ضمن محاولات للتاريخ للحب والمكان والإنسان، وفي داخل أعمــــاله، كما ترى المؤلفة، يتكثف حضور الصراع بين السلطة والمثقف، والرجل والمرأة، والشرق والغرب ضمن حضورين، يقوم أولهمـــا على التشابه، وثانيهما على الاختلاف مكانياً وفكرياً، تعبيراً عن الموقف الفكري للروائي ومعاناته إزاء الواقع السياسي والاجتماعي.
لقد قدّم بهاء طاهر شخوصه متكئاً على تشابك التقنيات السردية، واختلاف صوت الراوي وموقعه ضمن فضاءات مكانية وحركة زمنية تدفع إلى تكشّف زوايا الداخل، بمحاذاة حضور الخارج أو المظهر الشكلي لتظهر الصورة مكتملة، فنحاول فهم سلوك الشخصية ومواقفها.
وترى المؤلفة أن بهاء طاهر يتخذ حركة التوازي في بعض رواياته، فتقف المرأة بموازاة الرجل، و»صفية» بموازاة الدّير، والشرق بموازاة الغرب، والغرب بموازاة الشرق، وتقف «واحة الغروب» بموازاة «الحب في المنفى».
في سبيل الحرية
وفي الختام ترى الناقدة أن البناء السردي في روايات بهاء طاهر، جاء متفاوتاً في الاقتراب من البناء التقليدي الروائي من جهة، وفي الاقتراب من التجديد وتقنياته السردية من جهة أخرى، ضمن معادلة صعبة لا تكون إلا لروائي واضح الرؤى. ومن خلال هذه الدراسة نستطيع التعرف إلى مفهوم بهاء طاهر لفن الرواية وللعمل الإبداعي، وفهمه لحضور السياسي في العمل الروائي، وانحيازه لرواية تهتم بقضايا المجتمع، وحريته وتقدمه وتحرره من عوامل التخلف والبؤس والكبت والخرافة، مؤكداً على كون الديمقراطية هي همه الدائم والأعمق.
٭ كاتب أردني