بهجة الديكتاتورية وسعادة العبودية!

أتذكر في بداية شبابي في بيروت مجلة فريدة من نوعها كونها كانت تنظَر للماركسية بأسلوب غير اعتيادي يبشر بولادة «الإنسان اللاعب» الذي يرفل في جنة الشيوعية. كان يحرر المجلة كاتب تونسي يدعى الصافي سعيد وقد حيرني، حينها، بأنه كان يوقع بعض ما يكتبه باسم «صاحب الحمار».
التقيت الكاتب الليبي إبراهيم الكوني بعد ذلك بسنوات طويلة، وتعرفت على رواياته التي تستلهم حكايات الطوارق /الأمازيغ في الصحراء الكبرى، وكتبت عن بعضها كـ«التبر» و«المجوس» وشرح لي حينها قصة «صاحب الحمار» الذي هو رجل دخل بلدة على هيئة شيخ جليل يركب حمارا، وفتن أهل البلدة بأحاديث عن كنوز طائلة في مدينة «واو» الأسطورية فتبعته البلدة برجالها ونسائها وأطفالها حتى أودى بهم في هوة فاغرة التهمتهم جميعا.
قضى الصافي عمرا في الصحافة والسياسة، أسس خلالها مجلات «وعي الضرورة» (المذكورة سابقا) و«رواق 4» و«أفريكانا، وترشح للنيابة عام 2011، وللرئاسة في انتخابات عام 2014 و2019، وهو الآن نائب في البرلمان الحالي «المجمد» وقد تابعت له مواقف مؤخرا يصف ما حصل في تونس مؤخرا بـ«شبه الانقلاب». رغم نقده للحكومة المقالة، التي كان قد سماها «حكومة دفن الموتى» وللبرلمان الذي اعتبر أنه صار مهزلة ومسرح كارتون، لكنه وضع أيضا نقاط استناد منطقية لتفنيد حركة قيس سعيد، حيث قال إن الجميع منتخبون وكلهم مسؤولون عن الفشل الحالي، وبالتالي كان على سعيد، لو أراد أن يكون عادلا على غيره ونفسه، أن يدعو لانتخابات برلمانية ورئاسية لا أن يجمد البرلمان، من دون استشارة أحد، ولا اعتماد على الدستور ومفاصله، ومن دون ضمانات، ولا معرفة من سيحكم ويسير البلاد.

رقص الجمهور للانقلابات

تبدو هذه النقاط عند سردها عقلانية ومنطقية، وقد نشر عدد من الكتاب والصحافيين العرب، تحليلات وآراء ضمن سياق النقد التاريخي والسياسي والأدبي للانقلابات العسكرية، بالاستناد إلى أمثلة قريبة، من مصر، وأخرى من بلدان عربية وأجنبية، وبتفنيد طروحات سعيد، غير أن هذه الآراء جوبهت بتحليلات من كتاب آخرين تؤيد صراحة أو بشكل ضمني حركة قيس سعيد، وقوبلت انتقادات حركة سعيد بردود غاضبة من جمهور تونسي وعربي، كما ظهرت أشكال جماهيرية من التأييد لسعيد، بما فيها أغنية بعنوان «انقلاب» يؤديها مغنو راب توانسة يتغنون بما فعله الرئيس.
عرضت في مقالة سابقة لي كتابا نادرا لصحافي مصري يدعى لطفي زكريا سجل فيه انطباعاته عن الانقلابات الأولى المتلاحقة التي جرت في سوريا منذ عام 1949، ونشر في ذلك الكتاب تفاصيل عن ردود الفعل البائسة التي تورط فيها ساسة وصحافيون بتأييد الانقلاب، كما أشار إلى مشهد لفت انتباهي منذ قراءتي قبل قرابة 30 عاما لذلك الكتاب، وهو مشهد سوريين عاديين رقصوا في الشوارع بهجة وتأييدا للانقلاب. فتح الكتاب المذكور أمامي بابين عريضين للبحث: الأول يتعلق بتفسير بهجة الجمهور بصعود عسكري يبطش بالساسة الحكام (ثم بهم أيضا) والثاني يتعلق بمواقف النخب السياسية والصحافية التي تستطيع أن ترى الكوارث التي تفتتحها الانقلابات العسكرية، كما فعل لطفي زكريا ومحمد حسنين هيكل (الذي كان موجودا أيضا لتغطية الانقلاب السوري وشارك في تهريب أحد المطلوبين من السلطات) لكن عندما يحدث ذلك في بلدها لا تلبث أن تأخذها الحمية (أو المصلحة والانتهازية) فتكرر، بعد وقوع انقلاب 1952، ما فعله الصحافيون السوريون، وتكرر الجماهير المصرية ما فعلته الجماهير السورية.
سادت صفحات الجرائد والمجلات المصرية بعد عام 1952، كـ«الأهرام» و«الهلال» و«روز اليوسف» و«الرسالة» و«المصري» وغيرها، موجة من التهليل الكبير بالحركة العسكرية والهجاء للنظام القديم، فقال أحمد حسن الزيات، رئيس تحرير «الرسالة» في افتتاحيته بتاريخ 5 كانون الثاني/يناير 1953 «من عهد إلى عهد» على سبيل المثال: «غلت صدور الضباط الشباب من الحمية والحفيظة، فأخذوا ذلك الملك الماجن من قفاه الغليظ وألقوه في البحر، وقبضوا على حاشيته الفاجرة وطرحوهم في السجن، وأدبوا الساسة الريبين وحجزوهم في المعتقل، وركلوا الموظفين المجرمين ورموهم في الشارع».

يروي غوستاف لوبون في كتابه «سايكولوجية الجماهير» حادثة عن مجموعة جنرالات ذهبوا للقاء جنرال «انتهازي صغير» ـ على حد رأيهم – أرسلته باريس فقام ذلك الجنرال، الذي لم يكن غير القائد الفرنسي العظيم نابوليون، بتركهم ينتظرون فترة طويلة قبل أن يستقبلهم ثم ظهر عليهم مزنرا بسيفه ولابسا رداءه وشرح مواقفه وأعطاهم الأوامر وصرفهم!

لماذا أغلق أحمد أمين مجلة «الثقافة»؟

من جهة أخرى، وكي نكون منصفين، فقد تمايز بعض الساسة والمثقفين والإعلاميين عن جمهور المرحبين وضجيج التأييد لجمهور الراقصين للضباط المستولين على السلطة، وقد حصل ذلك في سوريا، كما حصل في مصر، ولا يمكن، في هذا السياق، عدم ملاحظة توقف مجلتين مثل «المقتطف» التي كان يرأس تحريرها يعقوب صروف، و”الثقافة” التي كان يرأس تحريرها أحمد أمين، الذي ختم آخر عدد أصدره من المجلة في الشهر نفسه الذي قامت به حركة «الضباط الأحرار» بمقالة بعنوان «قلة المروءة» يقول فيها: «يمتاز عصرنا هذا بقلة المروءة» ويتابع: «كانوا يحدثوننا عن القديم بأنواع من المرويات يضحي فيها الرجل بنفسه أحيانا، وبماله أحيانا، حتى لتستخرج منا العجب. فيحدثوننا أن الشرطي العباسي أتى ليقبض على عبد الحميد الكاتب فوجده مختفيا عند صديقه ابن المقفع، فقال أيكما عبد الحميد، فكل منهما قال أنا، وكل منهما يعلم أنه إنما حضر الشرطي ليقتل عبد الحميد، ونحن اليوم لا نفهم هذه القصة لأننا لا نفهم معنى المروءة».
يروي غوستاف لوبون في كتابه «سايكولوجية الجماهير» حادثة عن مجموعة جنرالات ذهبوا للقاء جنرال «انتهازي صغير» ـ على حد رأيهم – أرسلته باريس فقام ذلك الجنرال، الذي لم يكن غير القائد الفرنسي العظيم نابوليون، بتركهم ينتظرون فترة طويلة قبل أن يستقبلهم ثم ظهر عليهم مزنرا بسيفه ولابسا رداءه وشرح مواقفه وأعطاهم الأوامر وصرفهم!

يحذر لوبون في كتابه ذاك من «تقديم النصح للجماهير» قائلا: إياك أن تدخل معهم في جدل منطقي، وإياك أن تطلب منهم التعقل أو الوعي، وفي استشهاده بنابوليون يحكي كيف ظلت الجماهير الفرنسية تصفق له حتى وهو يلغي الحريات، ويحكم بيد من حديد، رغم أنه جاء بعد ثورة قدمت الكثير من التضحيات إلا أنها قبلت من نابوليون أن يحكمها بأساليب الطغيان التي مارسها الملك الذي انقلبت عليه وقطعت رأسه!
ليس الخداع أحد العناصر المكوّنة للجنس البشريّ فحسب، بل هناك حاجة وجودية لدى الإنسان، للانخداع والإيمان بحكاية حتى لو كانت ستؤدي إلى ضرر له، ولعل الإشكالية الكبرى في هذه الظاهرة الإنسانية ليست بالانخداع بـ»صاحب الحمار» الذي سيسلبنا حرياتنا، ويحوّلنا إلى عبيد، لكن في إصرار البعض على الهبوط إلى الهاوية الفاغرة مع العمل على إقناعنا أنها فردوس خلاب، بل إن بعض من توفّر لهم الأقدار فرصة النجاة من تلك الهوة، يعودون، بعد تكبّدهم الأهوال للنجاة، للانخداع مجددا، بل وللدفاع عن الشيطان الذي أودى بهم إلى الهاوية.

كاتب من أسرة «القدس العربي»

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سامي صوفي:

    المقالة رائعة أخي حسام.
    ليس فقط الجماهير و الصحفيين يهلّلون للانقلابات. هناك السياسيون أيضاً!
    عندك مثلاً ميشيل العفلق، الذي يراه كثر بأنه مفكر البعث، و لكنه كان محدود الذكاء، ابتلت به السياسة و لم يخسره الأدب! العفلق أيّد حركة ٢٣ شباط ١٩٦٦ التي انقلب فيها صلاح جديد و حافظ الأسد على أمين الحافظ و صلاح البيطار الذي كان رفيق الدراسة و الدرب لميشيل العفلق.
    ألقى العفلق خطاباً أمام احتفال للجيش في ٨ آذار ١٩٦٦، حضره المرحوم عمي. وصف فيه العفلق حركة شباط ب «القفزة النوعية»، داعياً للوحدة الوطنية و تجاوز الأحقاد. سأله أحد الحاضرين (علوي)؛ «سيدي … كيف بدنا نسكتلين و هننني ن$&و أمّاتنا و اختاتنا»؟
    بعد اسبوعين من كلمته، «تشقلب» العفلق بقفزته النوعية!

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    الشعب الذي يصفق للإنقلاب هو شعب جاهل, يعتقد بأن الإنقلاب على الحكم الديموقراطي سيصلح الأحوال!
    كالمستجير من الرمضاء (الفساد) بالنار (العسكر) !! ولا حول ولا قوة الا بالله

  3. يقول سعيد علي:

    الديكتاتورية هي أحدث وسائل الاحتلال و أرخصهم تكلفة

  4. يقول ناديا الرويلي - إيرلانغن:

    [[ولعل الإشكالية الكبرى في هذه الظاهرة الإنسانية ليست بالانخداع بـ»صاحب الحمار» الذي سيسلبنا حرياتنا، ويحوّلنا إلى عبيد]] اه
    وما أكثرهم العبيد الحقيقيون والمتحدرون منهم في بلادنا ، وخاصة من طراز “عبيد المنازل” الأنجاس باصطلاح مالكولم إكس الذين كانوا وما زالوا يداهنون ويتملقون لأزلام النظام القائم لكسب ود أولئك الأزلام بأي وسيلة وضيعة كانت ، حتى لو كانت تحدو بهؤلاء العبيد إلى الغدر بأقرب المقربين والطعن بهم من ظهورهم لإدامة كسب الود المُتكلَّم عنه هنا !!!!؟

  5. يقول القارئ:

    عزيزي حسام الدين محمد ، تاريخ الأدب العربي القديم جله تاريخ مزيف (كقصة عبد الحميد الكاتب وما أشبه) ؛ فما بالك بتاريخ الأدب الحديث الذي يكاد أن يكون مزيفا بكليته بالمطلق ، وخاصة لو حاولت أنت بنفسك رصد شيء من ذلك “النتاج الأدبي” القادم من نفايات اتحادات الكتاب العرب ، وبدءا في فرعه “التليد” في دمشق !!!!؟؟

  6. يقول ابراهيم:

    العرب يعانون من هيمنة الغوغائية…وهي نتيجة لسنين من التجهيل المتعمد وتغييب ملكة النقد و خصلة العقل…لذا تراهم يتبعون كل من يصرخ ويدغدغ عواطفهم ويسمعهم ما يريدون سماعه حتى ولو اخدهم الى الجحيم….

إشترك في قائمتنا البريدية