■ لربما بدأ الأمر من الدهشة، أقرأ لكي أتفاجأ، دهشة بدون أي شهقة أو صوت، ولكنها تشبه كثيراً اكتشاف حاسة جديدة لم يسبقك إليها أحد. لم أرتعش في البدايات وأنا أقرأ ولم أكذب الراوي أبداً، بل صدقته.
في البداية كان الأمر صعباً، تعقيده يكمن في فكرة أنك يجب أن تستمر في القراءة، وكثيراً ما كنت أشعر بأنني أسير في نفق مظلم، والشخصيات ترتطم بي وأنا لا أعرفها، أُكوِّن رسماً وهمياً للشخصية في رأسي ثم أتفاجأ أن العيون لشخصية أخرى وهذه الطريقة في الكلام لشخصية ثالثة، وهكذا أكوِّن مسوخاً متداخلة بدون أي بناء نفسي كامل أو شكل واحد صحيح، لم يكن الأمر متعلقاً بالاختيارات، أو طريقة القراءة أو وقتها، بل كان موجوداً في بداية القراءة نفسها، لنقل إن هذا ما حدث معي أنا على أقل تقدير، إلى أن أصابني عمى طه حسين في كتاب «الأيام»، في الظلام أبصرت جيداً، وفي العمى اتضحت الرؤية، وهذا من حسن حظي بالتأكيد، لأن ذاكرة التخيل أصبحت مشتركة مع الكاتب، ولكن حتى لو كانت هذه الفكرة مبالغاً فيها، فإنها ساعدتني بنصفها الأول، والنصف الثاني كان كونها سيرة ذاتية، والكتّاب غالباً ما يتعاملون مع سيرة حياتهم كأنها سيرة رجل آخر لا يعرفونه، ويجب عليهم أن يكتبوا قصته، هذه القصة جعلتني في موضع النفق الذي غالباً ما تهت فيه، وحولتني من التائه وسط العتمة، إلى العتمة ذاتها.
بدأت أحب الكتب التي كانت تخيفني، تلك التي تتحدث عن الأشياء التي أحاول إخفاءها في عتمتي بعيداً عن الناس.
ولأن من مهام العتمة الرئيسية إخفاء الأشياء وإخافتها، فقد بدأت أحب الكتب التي كانت تخيفني، تلك التي تتحدث عن الأشياء التي أحاول إخفاءها في عتمتي بعيداً عن الناس، وفجأة عندما أقرأ رواية تتحدث عن هذا الشعور الذي حاولت كثيراً ألا يكتشفه الكتّاب أو الأطباء أو حتى الأصدقاء واضحاً أمامي في رواية ما كنت أتلذذ برهبة الخوف، كالسكري الحامض في التفاح الأخضر، وبهدوء يسقط الخوف في لحظة اكتشاف أمري وتتولد لدي قدرة رهيبة على تفهم هذا الأمر، وأني واضح جداً بالنسبة للعالم، العتمة تنتشر وتكتشف بعماها كل ما حاولت إخفاءه، وهنا ولدت أول صور الكاتب في خيالي، هو من يتغطى جيداً بأكثر من غلاف سميك ليخفي وجهه في العمل، وهو ذاته من يعري كل قارئ من مشاعره وجلده وعتمته المصطنعة وغير الحقيقية التي ظن أنهُ محمي بها. كانت البداية هادئة، تعتمد على أبطال يموتون وأنا أصدق حكايتهم، يعتّمون وأنا أُعتّم مثلهم، يعبرون أجساد سيدات جميلات وكأني أنا من يحب، ويخسرون ويجعلون من خسارتهم شاعرية جميلة تستحق الاكتشاف، وإلى الآن ما زلت أتعامل مع معسكر المنتصرين على أنه معسكر خالٍ من الشاعرية، وأن الشاعرية تكمن في تصديق القصة وليست في مدى حقيقيتها، صدقت قصصاً لا تُصدق أبداً، والمشكلة أنني لا أملك أي شك حتى الآن بمدى واقعيتها، كانت المتعة في التصديق، وبإسقاط القصة على نفسي.. فكنت أبله دوستويفسكي، ونبي خوسيه ساراماغو، ولم أتردد أبداً بأن أموت في خزان غسان كنفاني، لم أمت فعلياً ولم أتأثر حتى البكاء، بل كانت تنمو في داخلي حتمية التصديق، الكتّاب يرحلون ويعبرون وتصير شخصياتهم بالنسبة لي هي المركز الذي يجب أن آخذه على محمل الجد أكثر من الكاتب، ولم أملك أي فضول أيضاً، ولم أكن طفلاً متفوقاً في دراسته يرتدي نظارة طبية ويبحث عن أسئلة أكبر من عمره لكي يكتشفها، لم أملك يوماً أي أسئلة خارقة للطبيعة أو فضولاً مؤرقاً، كانت القراءة تقدم الأجوبة قبل التفكير بالأسئلة.
والأجمل أن البداية متعددة الأوجه، فليس للبداية قاعدة عامة أو تجربة مثالية واحدة يجب تطبيقها، لربما ما مرّ عليّ كان يمكن استغلاله بطريقة أفضل، وكان ممكناً إدراك الحد الفاصل بين ما يجب وما يكون، ولربما كان لعتمة القراءة ألوان وأنا حتى الآن لا أعلم، البعض يقول إنهُ يقرأ لكي يهرب، أو كي يجد نفسه، آخرون يقرؤون لكي يعرفوا، والبعض للظهور، ولكن المشترك في كل هذا هو النشوة، هذه النشوة التي تتنقل تنقلاً خفيفاً من كتاب إلى كتاب بهدوء وكأنك ما زلت في البداية.
٭ كاتب سوري