استكملت الثورة المضادة هجومها الشامل على الانتفاضة اللبنانية عبر ثلاثة محاور:
المحور الأول هو الإعلام، حيث خضع الجمهور لقصف إعلامي مركّز استخدمت فيه جميع الألاعيب التي تحملها الأوليغارشية المتوحشة في جعبتها، عبر أربع مقابلات تلفزيونية صاعقة: فظهر نائب رئيس مجلس النواب ايلي الفرزلي بمواهبه العجيبة في التحذلق والتفلسف مدافعاً عن أهل النظام بعدما قام الشباب بطرده من أحد مطاعم منطقة الجميزة في بيروت. وتلاه الصهر في حوار تلفزيوني دام أربع ساعات كاملة، فتمسكن وتدلل وتذاكى. ثم أتى الحاكم رياض سلامة ليتكلم بسعادة من يحمل لقب صاحب السعادة عن قراره بالسماح للبنوك بنهب نصف ودائع الناس. وكان مسك الختام مع الخواجة فيليب زيادة القادم من لاس فيغاس على صهوة المال والمقاولات إلى وزارة الطاقة في الحكومة التي لن تتشكلن، ليعلن أنه قادر على أن يهزم الفساد بالفساد!
المحور الثاني هو إعلان لا مسؤولية المسؤولين عن الانهيار الشامل، وقد صاغ هذا الموقف نبيه بري عبر تصريحه الشهير بالتخلّي عن فكرة حكومة اختصاصيين وعاد إلى نغمة الحكومة التكنو سياسية عبر شعار «لمّ الشمل»، ما أوقع «البروفيسور» حسّان دياب في برزخ الانتظار محوّلاً مشروعه السياسي إلى ممسحة.
المحور الثالث هو إعلان حرب التحرير الشاملة على إثر مقتل قاسم سليماني، وهي حرب أريد لها ردع وتخويف الانتفاضتين في لبنان والعراق، واستعادة جوّ الترهيب والتخوين. ولم تتمخض هذه الحرب المزعومة سوى عن كارثة الطيّارة الأوكرانية التي أسقطها الإيرانيون عن «طريق الخطأ». وفي المقابل، خرجت الناس في بغداد وبيروت إلى الشوارع بصرختها التي تدعو إلى اقتلاع الفساد والمفسدين، وإلى رفع شعار لا لأمريكا وإيران.
لا نستطيع سوى أن نرثي لبؤس نجوم إعلام الطبقة الحاكمة الذين بدوا مجرد مرتشين، أو في أفضل الأحوال مهرجين اعتقدوا أن الثورة الشعبية همدت أو تراجعت، ما سمح لهم بأن يخلعوا أقنعتهم ويظهروا على حقيقتهم كخدم في بلاط السلطة، غير واعين ربما أن الناس مسحت البلاط بهذه السلطة، وأن ما كان في الماضي لا يستطيع أن يكون اليوم.
على المستوى الشكلي، لم يثر الهجوم التلفزيوني سوى الاشمئزاز من وجه سعادة الحاكم الشمعي وزحفاطونية محاوره وتسلطنه، أو أمام تذاكي جبران باسيل وتباكيه. لقد نجحت مقابلة تلفزيون «الجديد» مع جبران باسيل في تذكيرنا بضرورة «الهيلا هو». أما صورة البلاي بوي التي ظهر بها الخواجة فيليب زيادة صديق «الهيلا هو» المتأمرك على شاشة «ام. تي. في.»، فقد أخذتنا إلى مناخات السيرك الذي يديره العهد العوني.
قمة الهجوم شنها الحاكم بأمر مصرف لبنان، الذي أصر محاوره على تمسيح الجوخ ومنع أي اعتراض من جمهور اختاره مارسيل غانم بعناية.
الحاكم كان فعلاً صاحب سعادة، فقال ما لم يجرؤ أحد على قوله، معلناً وبكل بساطة أنه يحق للمصارف إعطاء الأموال التي أودعها الناس بالدولار إلى أصحابها ولكن بالليرة اللبنانية، أي عبر سرقة حوالي أربعين بالمئة من قيمتها.
الحاكم الذي موّل فساد السلطة بأموال المودعين، قرر اليوم أنه يحق لسعادته أن يأخذ نصف أموال الناس، كي ينقذ المصارف من هاويتها، محولاً النهب إلى قانون بديل للقانون.
وما فات الحاكم السعيد هو أنه يعمم السرقة. وقديماً قالت العرب: «السارق من السارق كالوارث من أبيه»، أي أن الحاكم يدعو الناس إلى التحوّل إلى لصوص وقطّاع طرق، وعندها لن يجد الحاكم وأصحاب المصارف والمافيا الحاكمة مَن يحميهم من غضب الانتقام.
أما «الزمكّ» الذي تحول إلى زعيم، فلم يقل سوى جملة مفيدة واحدة، وهي أن الأمور ستستمر على ما هي عليه، وأنه مصرّ على التحكّم بدياب وحكومته.
ارتضى الإعلام أن يكون مرآة النظام، فعكست المرآة حقيقة العجز والتعفن واللامسؤولية. حكومة «البروفيسور» في انتظار تأليف دخل في مجهول المستحيل. فما يسمى بالأكثرية النيابية المؤلفة من الثلاثي الحاكم: التيار الوطني الحر، وأمل، وحزب الله، عاجزة عن تشكيل ائتلاف حكومي.
وللعجز سببان:
الأول هو الشراهة ومحاولات كل طرف تحقيق أكبر قدر من المكاسب والمناصب.
والثاني هو العجز عن مواجهة الأزمة وإيقاف الانهيار.
لا برنامج حكم، ولا رؤية، بل مجرد كلام هوائي عن إصلاح مزعوم يقوم به اللصوص. فالسلطة أفلست ولا تريد تحمّل مسؤولياتها.
هكذا تسقط الأنظمة، تتعفّن من الداخل، وتصير في حال عدم إسقاطها سبباً لتعميم الخراب الاجتماعي.
لقد أعلنت الأوليغارشية الحاكمة أنها العدوّ الأول للبنان واللبنانيين، وأنها لن تداوي عجزها باستقالة رأسي ما تبقى من سلطة: رئيس الجمهورية، ورئيس المجلس النيابي، وأنها ترفض اقتراح الانتفاضة بتشكيل حكومة انتقالية.
ماذ يريدون؟
لا يريدون الذهاب، وعاجزون عن الحكم!
هدفهم الوحيد هو البقاء في السلطة، حتى ولو تحولت هذه السلطة إلى جسم ميت سريرياً. ومن أجل هذا الهدف لعبوا على وتر شيطنة الانتفاضة واتهامها بالعمالة، ثم لجأوا إلى شدّ العصب الطائفي الذي بلغ ذروته في هجمات عصابات الشبيحة إلى ساحات الاعتصام وهم يهتفون «شيعة شيعة».
لكن اللعبة لم تنجح، فجاءهم اغتيال قاسم سليماني بحجة المواجهة مع أمريكا وإسرائيل، غير أن الإدارة الإيرانية لهذه اللعبة لم تكن سوى حفلة بهلوانية انتهت بعودة العراقيين واللبنانيين إلى الشارع.
اللعبة القديمة انتهت، فالإمبريالية لا تُواجه بمجتمعات حطّمها الفقر والنهب والاستبداد.
المسألة اليوم صارت في مكان آخر، إذ لم يعد من الممكن تغطية المنهبة والفساد والتشبيح بخطاب قومجي أو ديني أو استبدادي يدمّر المشرق العربي، جاعلاً منه ساحة لصراع الإمبرياليات وملعباً للصهيانة.
كفى.
ومن أجل أن تكتمل صورة السيرك، أعطى كارلوس غصن نكهة فكاهية على المشهد المأساوي، معلناً أنه هرب من تحيّز القضاء الياباني إلى عدالة القضاء اللبناني!
الجواب الوحيد هو أن يعود الشارع إلى الشارع.
عاد الرفيقات والرفاق إلى الشارع، معلنين أن انتفاضة تشرين هي بداية الثورة اللبنانية.
إنتفاضة اللبنانيين بتشرين, وكذلك إنتفاضة العراقيين! الإنتفاضتين مشتركتين بالأهداف: لا للفساد, لا للطائفية, لا لإيران!! ولا حول ولا قوة الا بالله
شكراً أخي الياس خوري. نتمنى للشعبين اللبناني والعراقي سنة جديدة طيبة وكل النجاح والتوفيق لثوراتكم وأمل جديد للربيع العربي.