بوابات بيروت القديمة معالم أثرية تروي حكايات العابرين في تاريخ المدينة

عبد معروف
حجم الخط
0

في الأزمة الغابرة وحتى أواسط القرن العشرين، لم تكن مدينة بيروت، تغطي هذه المساحة الواسعة من الأرض التي تشغلها اليوم، بل إن هذه المدينة كانت، عبارة عن مجموعة من المساكن المتلاصقة المحشورة في رقعة ضيقة من الأرض، طولها لا يزيد عن سبعمئة وخمسين مترا وعرضها حوالي ثلاثمئة وسبعين مترا، يحيط من جهاتها الأربع سور من الحجارة الرميلة المدعومة بأنقاض الأعمدة المتخلفة عن حطام الآثار الرومانية والبيزنطية القديمة، وتتخلل هذا السور الذي بناه أحمد باشا الجزار، في العهد العثماني أواخر القرن الثاني عشر للميلاد، بضعة أبراج مصفحة بقطع من الحديد المثبت على الأبواب بمسامير ضخمة ناتئة.
وكما كان لكل مدينة قديمة (عكا، القدس، دمشق، القاهرة، الرباط) أسوار تحيطها وبوابات للحفاظ على أمنها، فقد كان لمدينة بيروت اللبنانية سبع بوابات معروفة، شكلت مداخل للمدينة من أجل تأمين الحماية والتبادل التجاري، وكما هي القدس ودمشق والقاهرة وعمان، وغيرها من المدن القديمة التي تشتهر ببواباتها القديمة وأسوارها العريقة، فقد شكلت بوابات بيروت وأسوارها معالم تاريخية لعبت خلال القرون الغابرة دورا في تأمين الحماية والأمان للسكان.
وتعتبر بوابات بيروت التاريخية، واحدة من أبرز معالم المدينة، وقد وصفها المؤرخون القدماء مثل إبن حوقل والمقدسي، «إن بيروت مدينة محصنة عتيقة الأسوار» وقد عرفت بيروت في الزمن القديم 7 بوابات ما زالت معالمها بارزة حتى اليوم، وهذه الأبواب هي: باب يعقوب، باب الدركاه (الدركه) وباب السمطية، باب السراي، باب الدباغة، باب السلسلة، باب ادريس.
ويؤكد المؤرخ اللبناني حسان حلاق، في كتابه حول تاريخ بيروت، أن بوابات بيروت السبع كانت مصفّحة بالحديد وتقفل عند مغيب الشمس، باستثناء باب السراي الذي كان يقفل عند العشاء.
ويشير المؤرخ حلاق، إلى جوانب من ملامح هذه الأبواب ومواقعها التي كانت تلتقي عندها العائلات البيروتية، ومن خلالها تجري العمليات الاقتصادية والتجارية والمالية، وهي من بداية السور حتى نهايته على النحو التالي:

باب يعقوب

ويقع باب يعقوب، جنوبي مدينة بيروت القديمة عند أول ما كان يعرف بطلعة الأميركان في الطرف الشرقي من أول الطريق المؤدية إلى جامع زقاق البلاط وغربي ساحة رياض الصلح، وقرب درج الأربعين. وكان هذا الباب يؤدي إلى ساحة السور، إلى ما عرف في ما بعد، بساحة السبيل الحميدي، ومن ثم ساحة رياض الصلح وسوق الدلالين وسوق النحاسين، وكان بجوار هذا الباب عين ماء جارية كانت تسمى أيضاً عين يعقوب.
وهناك رأي يشير إلى أن أحمد باشا الجزار هو الذي أقام هذا الباب في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي. وكان على الطرف الشمالي من باب يعقوب، جامع بوابة يعقوب أو جامع شيخ السربة، وكان أمامه السوق المعروفة باسم سوق بوابة يعقوب.
أما تسميته بباب يعقوب فقد تعددت الروايات حوله، فالعالِم الأثري الفرنسي دومنيل دو بويسون قال في رسالته التي حدد بها أبواب بيروت بسبعة أبواب أن شخصاً اسمه يعقوب الكسرواني كان يسكن داراً بجانب الباب ونسب إليه، وقال آخر بأن الباب نسب إلى طبيب صيداوي يدعى يعقوب أبيلا وهو ابن طبيب مالطي خدم في جيش نابليون بونابرت أثناء حصاره لمدينة عكا سكن الدار المذكورة بعد أن أعطاه إياها والي عكا أحمد باشا الجزار، واستقر ابنه في بيروت يعالج المرضى في منزله إلى تم تعيينه قنصلاً لانكلترا فيما بعد وتوفي سنة 1873م.
أما الفيكونت فيليب دى طرازي (المؤسس الأول للمكتبة الوطنية اللبنانية) فقد ذكر في «تاريخ الأمير حيدر» أن هذا الباب أقامه أحمد باشا الجزار أواخر القرن الثامن عشر الميلادي عندما رمم سور بيروت الشهير. وأضاف: وقد يكون المقصود بيعقوب هو يعقوب الصقلي الذي تولى الإشراف من قبل ضاهر العمر على خروج الجزار من بيروت.
ويعتقد بعض معمري بيروت أن يعقوب نسبة إلى يعقوب الأدَرني (نسبة إلى أدرنه) حيث جرت معركة عند الباب بين يعقوب هذا والشيخ سعيد الجارح. وقد اصيب الاثنان وقتل الأدرني عند الباب، وحمل الجارح جرحه النازف حتى محلة ميناء الحسن (المعروفة بميناء الحصن وكانت تسمى قديماً ميناء الحسن) حيث توفي، فأقيم له ضريح عرف بالشهيد، أزيل عند توسيع الشوارع أيام عزمي بك.

باب الدركة

يعتبر باب الدركة من أجمل بوابات بيروت القديمة، لما كان عليه بناؤه من متانة واتقان، موقع هذا الباب كان قريباً بين سينما كابيتول وأول شارع المعرض من جهة القبلة (الجنوب) وكانت بمحاذاته زاوية ومسجد الدركة. والدركة تعني باب القصر أو الفندق، ومن ملامحه حتى أواخر القرن التاسع عشر عبارة يونانية مثبتة على عتبة قديمة لبابه معناها «أيها الداخل بهذا الباب افتكر بالرحمة». وتُشير المصادر التاريخية إلى «أن القائد المصري إبراهيم باشـا بن محمد علي باشا دخل مدينة بيروت عام 1831 من هذا الباب، وشق طريقه إلى السراي في موكب ضخم تظلله أقواس النصر ومعالم الزين والقباب».

باب السرايا

يقع باب السرايا (السراي) عند رأس شارع فوش الحالي، في مكان بناية الدعبول، وأطلق على هذا الباب أيضاً باسم باب المصلى، وهو أحد بوابات بيروت الشهيرة والمميزة. ففي حين تقفل جميع أبواب بيروت عند المغرب، يستمر هذا الباب مفتوحاً إلى حين صلاة العشاء، باعتباره الباب الرسمي للمدينة. وقد سُمي بهذا الإسم لمحاذاته سراي الأمير فخر الدين التي تهدمت عام 1882 وكان موقعه قرب جامع الأمير منصور عساف قرب سوق سرسق، يحده من الغرب السراي، ومن الشرق الطريق المؤدي إلى محلة المدور التي كانت تُعرف باسم مزرعة الصيفي، ومن الجنوب خان الوحوش وسهلات البرج حيث تقع ساحة الشهداء أو البرج، وسينما أوبرا حيث كانت إسطبلات الأمير فخر الدين المعني. بقيت ملامح هذا الباب إلى أن هدمته السلطة الفرنسية عام 1927. وكانت قهوة علي الشيخ قريبة من السراي الصغير الذي هدم عام 1951.

باب الدباغة

سمي باب الدباغة بهذا الإسم لوجود دباغة للجلود قربه، كما سُمي الجامع المحاذي له جامع الدباغة (جامع أبو بكر الصديق في ما بعد). وكان موقعه في الجهة الشرقية لميناء بيروت، وأمامه دار إلى جانب البحر للأمير ناصر الدين التنوخي المتوفى 1350م. وكانت تتفرع منه طريق فرعية تطل على سوق القطن وقد أطلق عليها زمن الإنتداب الفرنسي شارع فوش. وكان هذا الباب أكثر أبواب المدينة ازدحاماً بالتجار لقربه من الميناء، تجنباً لاجتياز أسواق بيروت الضيقة، وكان أمامه المركز الخاص بتحصيل المكوس والضرائب المقررة على البضائع الصادرة والواردة.

باب السلسلة

يقع باب السلسلة قرب مرفأ بيروت شمالاً، وقد سُمي السلسلة، لوجود سلسلة في المرفأ تؤمن للسفن الرسو بأمان وتمنع المراكب الصغيرة من الدخول والخروج. ووجد إزاء الباب أحد أبراج مدينة بيروت العاملة، وقد عرف باسم برج السلسلة. وكان الباب بين برجين: برج الفنار وبرج السلسلة. وقد ذكر هذا الباب صالح بن يحيي في كتابه «تاريخ بيروت». وقد هدم هذا الباب إثر عاصفة هوجاء عام 1849.

باب إدريس

باب إدريس من أبواب بيروت القديمة المعروفة، ويقع في الجهة الغربية للسور، وله مدخل داخلي يطل على خط الترامواي الذي استحدث أوائل القرن العشرين، قريباً من سوق أياس. وقد سُمي باب إدريس نسبة إلى عائلة إدريس المتوطنة في تلك المنطقة ولا سيما منها المدعو أبو صالح إدريس.
هدمت هذا الباب الشركة الفرنسية التي عهد إليها توسيع أسواق المدينة، وشق طريق بيروت – دمشق عام 1860.

باب السمطية

يقع باب السمطية في الجهة الشمالية لسور بيروت إزاء البحر، وقد وجدت قربه وخارج سور بيروت مقبرة السمطية (الصنطية) الشهيرة، بمحاذاة مقهى الحاج داود التاريخي المندثر في الطريق المؤدية إلى مرفأ بيروت. وقد سمي هذا الباب السمطية نسبة إلى السماط وهو جانب الطريق أو أرصفته، حيث كان الباعة المسلمون يعرضون بضائعهم للبيع والشراء، كما أن السماط والسمطية هو نوع من أنواع النباتات المعروف باسم «السنط» أو ما يعرف باسم «أكاسيا».
باب أبي النصر

وتتحدث التقارير والوثائق التاريخية أن ثمة باباً ثامناً لبيروت القديمة، قرب سوق الخضر واللحوم والأسماك، سُمي باب أبي النصر نسبة إلى الشيخ أبو الوفاء عمر أبي النصر اليافي، غير أن هذا الباب ليس من أبواب بيروت القديمة، إنما من مستحدثات القرن التاسع عشر.
وأعرب المؤرخ حسان حلاق عن أسفه لأن أسوار بيروت وأبوابها اندثرت تباعاً منذ القرن التاسع عشر، ولم يبق منها سوى أسمائها، غير أنها استمرت قائمة في العهد المصري. ولا بد من الإشارة إلى أنه كانت لهذه الأبواب أنظمة تحكمها، فقد كان على كل منها عين من أعيان المنطقة، مسؤولاً عن وضعها وأمنها، ومكلفاً الإنفاق على مصباح معلق إلى جانب الباب الخارجي ينيره عند المغيب بعد أن يقفل الباب بمفتاح خـاص كبير، ويودعه متسلم بيروت حتى الصباح. وهكذا كل مساء وصباح. وكان حفّاظ الأبواب من العائلات البيروتية المعروفة، ومن كان يتولى هذه المهمة يحرز شرفاً نظراً إلى أهميتها وصدقية الحافظ. أما القوافل التي يُصادف وصولها ليلاً إلى بيروت، فتضطر إلى المبيت في ظاهر بيروت وخارجها: في الغلغول، في الصيفي، في البسطة، في المصيطبة، في زقاق البلاط، في الباشوراء… إلى أن تفتح أبواب بيروت صباحاً، فتدخل لممارسة نشاطها وتبضع حاجاتها، أو بيع حمولتها.
وفي عهد إبراهيم باشا (1831 – 1840) صدرت قرارات أكدت على وجود بوابات بيروت، وأكدت على ضرورة إقفال البوابات مساء لأسباب أمنية حفاظاً على أمن سكانها ومصالحهم.
وأعلم القائد المصري في رسالته إلى القنصل الإنكليزي في بيروت، بأسباب تلك القرارات ومبرراتها، وجاء في الرسالة، «الجناب الأكرم، حضرة المحب الأجل المحترم قنسلوس بك دولة الإنكليز المحتشم حفظه الله تعالى. ليس خافي محبتكم الحال الواقع من ظهور خروج بعض أشقياء من رعايا جبل لبنان، كما هو المسموع والمحسوس بالقرب من هذه الناحية، ومن جراء ذلك رعايا بيروت من إسلام وذميين سكنا البرية، متحسبين وعمال ينزلوا عفشهم على البلدة، والبعض نزلوا من محلاتهم على البلدة، فبحيث الحالة هذه وللمحافظة المأمورين بها، واحتراساً لأمر ما، اقتضى التنبيه بأن كافة البوابات تقفل آذان المغرب، وبالأذن يصير فتح بوابة السراي إلى حد العشاء فقط، وبعد آذان العشاء المتقدم شرحه، ما في رخصة لفتح البوابة كلياً، بل الذي يكون داخل البلدة يفضل بها، كما والذي خارج البلدة أيضاً. وحيث ذلك عايد لراحة الضمير، ولأجل المحافظة المأمورين بها اقتضى إفادة محبتكم بذلك وأنه تعالى يحفظكم».
لم يبق من بيروت القديمة، (أسوارها، وبواباتها) إلا التذكارات والصور، فقد تعرضت للتهشيم والانهيار وللاندثار، يتذكرها المؤرخون والكتاب والصحافيون.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية